لم تأتِ معركة طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بمحض تدريبات وخطط عسكرية وُضعت في الدقائق الأخيرة استجابةً لطارئ ما، بل تكشف المشاهد الأولى للمعركة ومقاومو القسام في مستوطنات غلاف غزة ومواقعها العسكرية، أن إعدادًا وترتيبًا طويلَين بذلتهما كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، لتدفع بالمواقع العسكرية إلى الانهيار في ساعات قليلة.
معركة “طوفان الأقصى” دخلتها كتائب القسام وهي حريصة على إخفاء النوايا، بتدريب مكثف لعناصرها، ووضع خطط دقيقة لاستدعاء 3 آلاف مقاتل للمعركة، و1500 لعمليات الدعم والإسناد، ودمّرت خلالها 15 نقطة عسكرية، وهاجمت 10 نقاط تدخّل عسكري إضافية خلال الهجوم على مراكزها، من خلال 1200 مقاوم أخرجوا فرقة غزة في جيش الاحتلال عن الخدمة.
خطط وتدريبات وضعتها المقاومة الفلسطينية على امتداد أكثر من عامَين، وهي تمارس حيلًا استخباراتية أمام الاحتلال وأجهزة استخباراته، وهو ما عبّر عنه الناطق العسكري باسم القسام أبو عبيدة، بأن “القسام مارست على الاحتلال خداعًا استراتيجيًّا بدأ منذ أوائل عام 2022″، حاولت فيها أن تقنعه أن الحركة بشقّها السياسي بدأت تنغمس في دورها كسلطة سياسية في غزة، وتريد أن تكتفي بسيطرتها على قطاع غزة، مقابل تسهيلات مادية واقتصادية تخفف عن القطاع أزماته.
في هذا التقرير، نحاول في “نون بوست” أن نتتبّع أبرز الخطوات التي اتخذتها حماس منذ حرب مايو/ أيار 2021، آخر المواجهات العسكرية التي خاضتها الحركة في السنتَين الماضيتَين، وكيف مهّدت الطريق لتباغت بهجوم مفاجئ وسط ارتياح الاحتلال لجهته الجنوبية، بل حتى كيف شغلته في جبهات أخرى واكتسبت وقتًا.
امتداد لمعركة “سيف القدس”
يقول أبو عبيدة، في خطاب متلفز يوم الخميس 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إن “معركة طوفان الأقصى بدأت من حيث انتهت معركة “سيف القدس” عام 2021″، وبالتتبع لحركات وتصريحات المقاومة منذ ذاك التاريخ وحتى ساعة الصفر في “طوفان الأقصى”، تجد جذور الطوفان بدأت من حيث استلّت المقاومة سيفها لأجل القدس.
في مايو/ أيار 2021، خاضت كتائب الشهيد عز الدين القسام معركتها ضد الاحتلال الإسرائيلي ومحاولته تهجير الشيخ جراح في القدس، والاعتداء على المقدسيين في البلدة القديمة وباب العامود، وكانت المقاومة الفلسطينية في غزة هي من أطلقت رشقاتها الأولى على الأراضي المحتلة، بعد تهديد أطلقه القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، يحذر فيه المستوطنين من عدم إخلاء المسجد الأقصى.
خلال معركة “سيف القدس”، كشفت القسام عن تطور في صناعتها العسكرية وخططها الاستراتيجية، ومنها كشفها لصاروخ “عياش 250” الذي أدخلته الخدمة في المعركة، وقصفت فيه مطار الرامون على بُعد 220 كيلومترًا عن القطاع، حينها وعد أبو عبيدة الفلسطينيين أن لدى القسام “المزيد وفي جعبتها الكثير ممّا يسرّكم ويرفع رؤوسكم ويجعلكم تفخرون أمام العالم بمقاومتكم”.
بعد أن وضعت معركة “سيف القدس” أوزارها قبل عامين ونصف، وحتى ذكرى انطلاقة حركة حماس في ديسمبر/ كانون الأول 2022، والقيادات السياسية والعسكرية لحركة حماس تردد أن المعركة القادمة هي من ستختار توقيتها، وأنها ستفاجئ العدو من حيث لا يعلم، ولربما يشير مهرجان انطلاقة حماس في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2022، الذي حمل عنوان “آتون بطوفان هادر“، إلى عمق امتداد التخطيط لدى الحركة لإطلاق معركتها.
الخداع الإستراتيجي: عدم المشاركة المباشرة لمواجهة تصعيد الاحتلال على غزة
منذ عام 2021 وحتى يوم السبت أول أيام الطوفان، حدث عدد من نقاط المواجهة مع الاحتلال عسكريًّا بعضها وقع في الفعل ضد قطاع غزة، ووجّه الاحتلال عدوانه عليها، وأخرى تمثلت بحركات استفزازية للاحتلال في الأقصى والتغول في الضفة، دفعت الناس والفلسطينيين للتساؤل عن غياب كتائب القسام عن المشهد بعد أن كان هي من تقود مقاومتها.
أما عن المواجهات العسكرية، فخاضت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، في أغسطس/ آب 2022 معركة “وحدة الساحات”، بعد اعتقال الاحتلال للقيادي البارز في الحركة بسام السعدي، كما خاضت سرايا القدس معركة “ثأر الأحرار” في مايو/ أيار 2023، وكان الاحتلال هو صاحب الغارة الأولى باغتياله عددًا من قيادات الجهاد في قطاع غزة، منهم مسؤول ملف الضفة الشهيد طارق عز الدين.
كلا المواجهتَين العسكريتَين كان قطاع غزة ميدانهما الرئيسي، ونفّذ غارات على القطاع واستشهد نساء وأطفال، ولم يصدر عن كتائب القسام أي تدخل عسكري مباشر، ولم تأتِ إلى واجهة الأحداث كي لا توسع المعركة مع الاحتلال، لا سيما مع علم الاحتلال عن فارق الإمكانات العسكرية بين القسام وسرايا القدس، وإن اعترفت الأخيرة أن القسام كانت تمدها وعاونتها في غرفة العمليات المشتركة دون ظهور رسمي.
أما عن استفزازات الاحتلال، فمسيرة الأعلام التي ينظمها المستوطنون كل عام ويدنسون فيها المسجد الأقصى، والتي كانت الشرارة الكبرى في معركة “سيف القدس”؛ تكررت 3 مرات، عام 2021 و2022 و2023، رغم توعُّد القسام أنها لن تتكرر، كما أن الاحتلال زاد من اقتحامه، وسجّلت السنتان الأخيرتان تصاعدًا غير مسبوق في الاقتحامات للمسجد الأقصى وفي العملية الاستيطانية، إلى جانب ذلك ارتكب الاحتلال مجازر في الضفة الغربية واجتاح مخيم جنين، ولم يكن للقسام أن يتصدر المشهد ويتدخل.
وهو ما يقول عنه أبو عبيدة: “إن القسام مارست خداعًا استراتيجيًّا استخباراتيًّا، ومررت للاحتلال تجاوزاته خلال الفترة الماضية”، حتى ظنَّ الاحتلال واطمأنَّ لجبهته الجنوبية، في حين كانت كتائب القسام تستعد لمعركتها في لحظة الصفر.
إشعال الأوضاع في الضفة
رغم تجنّب حركة حماس التصعيد المباشر مع الاحتلال، والسماح بتمرير تجاوزات للاحتلال في القدس والضفة المحتلة، إلا أن الحركة لم تلتزم الصمت بشكل كامل، بل عملت على تفعيل جبهة الوسط للاحتلال الإسرائيلي، وهي الضفة المحتلة، وقد لوحظ نشاط لعناصر في الحركة منذ بداية عام 2023 بشكل غير مسبوق، حتى أن الكتائب تشكّلت باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام.
ولم يكن منفذو العمليات الفردية من حركة حماس يمارسون عملياتهم بشكل منفرد عن قيادتهم في غزة، بل على العكس، كانت كتائب القسام في قطاع غزة هي من تتبنّى العمليات والأفراد الذين أوقعوا قتلى في صفوف الاحتلال، مثل عملية مهند شحادة وخالد صباح وعبد الفتاح خروشه وأحمد غيظان، والتي جاءت عملياتهم ردًّا على اقتحامات أو اعتداءات أو مجازر نفذها الاحتلال في الضفة المحتلة والقدس.
ومنح نقل المواجهة إلى الضفة الغربية في العامَين الماضيَين القسام والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هامشًا من الوقت، للإعداد والتحضير لمعركتهما الكبرى المنطلقة من القطاع، والتي جاءت باكورتها في عملية “طوفان الأقصى”.
التنسيق مع دول الإقليم
شهد العامان الأخيران، بعد معركة “سيف القدس”، تحركًا إقليميًّا لحركة حماس مع الدول العربية والإسلامية، اجتمعت فيه مع قيادات من لبنان وسوريا وإيران بشكل معلن، إضافة إلى اجتماعات غير معلنة.
منحت هذه الاجتماعات، وفق ما كشفت في وقت لاحق غرفة عمليات مشتركة تجمع بين قطاع غزة ودول الإقليم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما عبّر عنه القائد العام للقسام محمد الضيف، حين قال: “فلتتوحّد كل الرايات ولتلتئم كل الجبهات ولتُفتح كل الساحات لهدف واحد وغاية كبيرة نبيلة مقدسة، وهي تحرير فلسطين”.
كانت تهدف حماس في اجتماعها إلى التنسيق لتعمل من أراضي الدول الإقليمية بشكل أساسي، خصوصًا تلك التي تشكّل طوقًا حول الأراضي المحتلة في جبهتها الشمالية، سوريا ولبنان، اعتقادًا وتخطيطًا أن فتح جبهات متعددة في القتال مع الاحتلال سيرهقه ويربكه، وسيخفّف الضغط عن توجيه ثقل ضرباته إلى قطاع غزة وحدها.
مسيرات الحدود قبل شهر من الطوفان
الخدعة الأخيرة التي مارستها القسام كانت قبيل الحرب، بمسيرات أطلقتها غزة قرب السياج الحدودي شرق القطاع المحاصر، مشابهة إلى حد كبير بمسيرات العودة عام 2018، وأطلقتها نصرة لقضايا وطنية من بينها المسجد الأقصى والأسرى، وللمطالبة بكسر الحصار الإسرائيلي عن القطاع.
لم تكن الخدعة في انطلاق المسيرات، بل كانت الخدعة في طريقة إنهائها، حيث أنهتها مجموعة “الشباب الثائر” التي تدعمها حركة حماس، بعد تعهُّدات قدمها الاحتلال الإسرائيلي للوسطاء بفكّ الحصار عن غزة ووقف إجراءاته القمعية، وجاء في نص بيان “الشباب الثائر”: “تعهّد الوسطاء بأن هناك إجراءات للتخفيف عن شعبنا في قطاع غزة، وأننا على أهبّة الاستعداد والجهوزية للعودة للحراك الشعبي الثائر في حال لم يلتزم الاحتلال بتعهداته للوسطاء”.
وجاء هذا الإعلان عقب سماح سلطات الاحتلال لمواطني قطاع غزة الحاصلين على تصاريح للعمل داخل الخط الأخضر والضفة الغربية، بالمرور عبر معبر بيت حانون، بعد إغلاقه منذ 17 سبتمبر/ أيلول الماضي بدعوى “تقييم الأوضاع في القطاع”.
أوهمت حماس “إسرائيل” أن هذا ما تريده من تصعيدها، أن تفكَّ الحصار عن قطاع غزة، ووقف تصعيدها مرتبط بهذا الشرط، وعلى ذلك ركنت “إسرائيل”، في حين يشير مراقبون إلى أن حماس استفادت من المظاهرات في تعزيز خطتها لطوفان الأقصى بالبيانات اللازمة عن نقاط الضعف وثغرات الحدود.
قد تكون عوامل أخرى دخلت في خطط حماس، منها تنفيذها مناورات شبيهة لما ستفعله في “طوفان الأقصى”، لكنها استطاعت أن تبقي خطتها سرًّا بعيدًا عن أي تسريب، واستغلت الأعياد اليهودية وفترة إجازات الاحتلال، والأزمة في التعديلات القضائية، وعزوف عدد كبير من الجيش عن التدريب والخدمة، إضافة إلى ورودها تقارير مؤكدة نية الاحتلال تنفيذ ضربته لغزة بعد انتهاء أعياده، فقررت ساعة الصفر، وطافت بمظليها وجنودها وضفادعها البشرية على مستوطنات غلاف غزة.