ترجمة وتحرير نون بوست
تعتبر المملكة العربية السعودية من بين أبرز الدول التي تسجلأعلى معدلات لأحكام الإعدام في العالم. في المقابل، ينجح بعض المحكوم عليهم في الإفلات من هذه العقوبة عندما تقرر عائلة الضحية إسقاط الدعوى مقابل الحصول على مبلغ مالي مغر. وقد أفسحت هذه الممارسة، التي تعرف باسم “الدية”، المجال أمام ازدهار تجارة يغيب أو يُغيًب فيها الضمير البشري. وتجدر الإشارة إلى أن الدية تعد مفهوما إسلاميا، تتمثل أساسا في مبلغ من المال يُدفع من قبل مرتكب جريمة قتل (أو من عائلته) لعائلة الضحية مقابل التنازل عن تطبيق حكم الإعدام.
مؤخرا، تداولت وسائل الإعلام، مقطع فيديو، نُشر بتاريخ 26 مارس/ آذار، يصور أحد المحكومين بالإعدام في مدينة الطائف غرب المملكة العربية السعودية، على وشك أن يُقطع رأسه في ساحة عامة. ولكن فجأة، تعالى الضجيج ووردت معلومات مفادها تأجيل تنفيذ الحكم لأن عائلة الضحية وافقت على التفاوض مع عائلة الجاني لوقف قرار الإعدام.
في الواقع، يمكن أن يُعلق القرار في اللحظات الأخيرة بغض النظر عن ثبوت ارتكاب الجريمة وصدور حكم سابق في القضية. إثر ذلك، تم تأجيل الحكم بالإعدام لمدة ثلاثة أشهر؛ وهي مدة كافية حتى تتمكن عائلة الجاني من تجميع المبلغ الذي أقرته عائلة الضحية. وفي هذه المرحلة بالضبط، يبدأ دور الوسطاء.
“بتشجيع من الوسطاء، كثير من الأسر يطالبون بمبالغ خيالية”
أقر محمد السعيدي؛ وهو أحد المواطنين الذين شاهدوا على ما حدث يوم 26 مارس/آذار، والذي يقطن في القطيف وهي منطقة تقع شرق البلاد، بأنه حضر العديد من عمليات الإعدام العلنية. وأضاف محمد السعيدي أنه “عندما ترغب إحدى العائلات في طلب العفو عن ابنها الذي ارتكب جريمة قتل، تتجه في المقام الأول إلى وسيط يمكن أن يكون من الشخصيات المرموقة في المجتمع أو زعيم ديني كبير أو في بعض الأحيان أمير محلي”.
وأردف محمد السعيدي، أن “المهمة الأولى للوسيط تتمثل في إقناع أسرة الضحية بقبول مبدأ التسامح. وبمجرد أن تعلن هذه الأخيرة عن استعدادها للصفح، تنطلق المفاوضات مع عائلة الجاني. وقد عُرف عن الوسطاء أنهم غالبا ما يحثون أسرة المجني عليه على طلب مبالغ خيالية، يمكن أن تصل إلى 60 مليون ريال (وهو ما يقدر بحوالي 15 مليون يورو). في معظم الحالات، تكون عائلة الجاني غير قادرة على الدفع. فتطلق بمساعدة الوسيط، حملة لجمع التبرعات. وعلى إثر ذلك تقوم إدارة المحافظة بفتح حساب مصرفي بإذن من وزارة الداخلية يتم فيه إيداع أموال المانحين”.
وتابع محمد السعيدي، قائلا: “أما بالنسبة للوسيط، فيقوم بإطلاق حملة موازية في صفوف رجال الأعمال الأثرياء والقبائل الأكثر تأثيرا في محاولة منه لإقناعهم بالدفع. وتحت هاشتاغ “عتق رقبة” ( أي إنقاذ حياة)، تتكاثر حملات جمع التبرعات أيضا على تويتر”. ومن الشائع أيضا أن تنظم القبائل احتفالات أو عشاء خيري لإقناع الشخصيات البارزة في المنطقة بالمساهمة في جمع الدية.
صدر سنة 2011، مرسوم ملكي يحدد قيمة الدية بأربعة مئة ألف ريال أي ما يعادل 100 ألف يورو
في السياق ذاته، وحسب محمد السعيدي، تعتبر هذه الممارسات انتهاكا وتحريفا لمبدأ التسامح. وقد فسر ذلك قائلا: “يمنع القانون السعودي دعم حملات جمع التبرعات لفائدة الدية في وسائل الإعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن الإعلانات من هذا النوع تنتشر بسرعة على تويتر”. علاوة على ذلك، صدر سنة 2011، مرسوم ملكي يحدد قيمة الدية بأربعة مئة ألف ريال أي ما يعادل 100 ألف يورو.
في المقابل، قلة هي العائلات التي تلتزم بهذا المبلغ، علما وأن المراسيم الملكية في السعودية ليست ذات طابع إلزامي. وفي السنوات الأخيرة، تواترت المزايدات حول مسألة الدية. فقد تحولت إلى تجارة تتخذها العائلات، حيث لا تقوم بمنح الصفح للجاني لتجسيد القيم الفاضلة التي أوصى بها الإسلام، وإنما بغية جمع ثروة طائلة.
تحديد الحد الأقصى للدية
في واقع الأمر، يعتبر الوسطاء أهم المسؤولين عن هذا الوضع، نظرا لأنهم يضطلعون بدور بارز لدفع العائلات للمطالبة بمبالغ مالية ضخمة، خاصة وأنهم سيتقاضون عمولة مقابل ذلك، على حد تعبير محمد السعيدي. وبين المصدر ذاته، أنه “يمكن القول بأن هذه الفئة عبارة عن انتهازيين يجمعون الثروات على حساب الموتى. بالتالي، ينبغي على السلطات فرض رقابة صارمة على هذه الممارسة، وذلك من خلال تحديد حد أقصى للدية”.
من جانب آخر، وبمجرد حصوله على العفو، يستطيع الجاني الخروج من السجن في غضون بضعة أشهر أو حتى أسابيع. وبالتالي، يقضي المتهم عادة عقوبة بسيطة جدا مقارنة بالجريمة التي ارتكبها، الأمر الذي يشجع الآخرين على انتهاك القانون والإفلات من العقاب. ومع ذلك، طلبت المحكمة العليا في المملكة العربية السعودية، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة المنقضية، من القضاة سن عقوبة تصل إلى السجن خمس سنوات، وتسليطها على المتهمين في جرائم قتل حتى في حال حصولهم على العفو وإفلاتهم من الإعدام.
وفي هذا الإطار، أورد عبد الرحمن الهمام، وهو محام سعودي متخصص في حقوق الإنسان، في مقال نشر على الموقع الإخباري “الرياض دوت كوم” أن هذا الأمر غير كاف. وأضاف عبد الرحمن الهمام، قائلا: “أنا لست ضد هذه الإجراءات. ولكن، في حال تم العفو على المتهم، يجب على المحكمة إقرار حكم بالسجن ضد مرتكب جريمة القتل لا يقل عن 25 سنة.
الإفلات من الإعدام لا يعني أن الجريمة يمكن أن تمر دون عقاب، فضلا عن أن استعادة القاتل لحريته يمكن أن يشكل خطرا كبيرا على المجتمع. فعدم معاقبته يعني الانتقاص من قيمة الحياة البشرية”. في الأشهر الأخيرة، دعا محامون ومثقفون وزعماء دينيون، مرارا وتكرارا، إنطلاقا من منصات وسائل الإعلام، الدولة إلى وضع حد لممارسة “وسطاء الدم”. في المقابل، ظلت هذه النداءات حبرا على ورق.
المصدر: فرانس24