قبل نحو شهر من الآن، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن أهل درنة عاشوا وماتوا في بؤرة من اللامبالاة بهم، حين هطلت أمطار غزيرة في 24 ساعة زادت كميتها بمئات المرات عن المعدلات الشهرية لسقوط الأمطار، وتصدعت السدود بعد سنوات من الحرب والإهمال، ومُحي كل شيء يعرفونه من الخريطة.
وأضاف غوتيريش أن درنة تصور بشكل محزن حالة عالمنا: فيضان من انعدام المساواة والظلم وعدم القدرة على مواجهة التحديات.
مرّ شهر على هذا الكلام والوضع على حاله، بل يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، في ظل البطء الشديد في التعامل مع الكارثة وتأجيل الانقسام السياسي والمؤسساتي الحاصل في البلاد منذ سنوات لعمليات إعادة الإعمار.
كل طرف سواء في الشرق أم الغرب يسعى لاستغلال هذا الملف لتعزيز نفوذه وسيطرته على مؤسسات الدولة، دون أن يولي أي اهتمام لمعاناة الليبيين في هذه المدينة المنكوبة قبل الفيضانات وبعدها، فهمهم الوحيد تحقيق مصالحهم وإن كانت على حساب الضحايا.
معاناة ودمار كبير
يتواصل إلى اليوم في درنة انتشار الضحايا، رغم تباطؤ أعمال البحث عن الجثث التي خلّفتها كارثة الفيضانات التي شهدتها المدينة ومحيطها البحري في 10 سبتمبر/أيلول الماضي بشكل ملحوظ، ووفق آخر إحصاء نشره المتحدث الرسمي باسم قيادة مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، أحمد المسماري، على صفحته الرسمية على “فيسبوك”، فإن حصيلة الوفيات بلغت 4209.
إلى الآن لا يعرف العدد الحقيقي للضحايا، فسلطات شرق البلاد أوقفت نشر الحصيلة اليومية للجثث المنتشلة، كما توقف وزير الصحة في حكومة الشرق، عثمان عبد الجليل، عن عقد مؤتمراته الصحافية اليومية للحديث عن تفاصيل عمليات انتشال الجثث، مع أنه كما قلنا انتشال الجثث متواصل وإن كان بدرجة بطيئة مقارنة بالأيام الماضية، ذلك أن كل الفرق الأجنبية غادرت البلاد.
وتقدّر الأمم المتحدة عدد ضحايا الفيضانات بنحو 11 ألف شخص، فيما تقدرها منظمات إنسانية أخرى بأكثر من 12 ألف، وفي ظل توقف السلطات عن تقديم معطيات جديدة في هذا الموضوع فمن الصعب معرفة العدد الحقيقي.
لم تدفع كارثة درنة الإنسانية القادة الليبيين إلى وضع خلافاتهم جانبًا وتجاوز حالة الانقسام
من الصعب جدًا أن يتم العثور على كل المفقودين الذين جرفتهم سيول الفيضانات إلى البحر، لصعوبة المهمة على فرق الإنقاذ الليبية المحلية نظرًا لقلة الخبرة وأيضًا نتيجة الطبيعة الصخرية لغالبية شواطئ المنطقة كونها محاذية لسفوح الجبل الأخضر، كما أن العديد من الضحايا يتوقع أنه لم يبق منهم شيء نظرًا لقوة السيول التي اقتلعت المباني، كما أن التعرف على هويات أصحاب الجثث الآن تبدو مهمة صعبة لتحلل أغلب الجثث التي يتم العثور عليها.
تسبب “إعصار دانيال” في تحويل مدينة درنة إلى جزء شرقي وآخر غربي، وبينهما حطام وأنقاض ومبان، وحياة بأكملها اختفت من الخريطة، وتظلل المأساة كل شيء في درنة الساحلية، ما جعل عودة النازحين إلى ما تبقى من منازلهم صعبة.
ركزت السلطات على البحث عن الجثث والمفقودين، لكنها أهملت في الوقت نفسه الناجين وتركتهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم، ما يرجح ارتفاع أعداد الضحايا، فالمستلزمات الصحية غائبة والماء الصالح للشرب جزء كبير منه ملوث ويوجد نقص كبير في الطعام.
الانقسام يزيد حجم المعاناة
تتحمل سلطات الشرق، على رأسها خليفة حفتر الذي يقود مليشيات الكرامة، جزءًا كبيرًا من مسؤولية ارتفاع أعداد الضحايا، فما إن ضربت أمواج السيول المدينة، حتى فرضت قوات حفتر إجراءات أمنية مشددة أمام المساعدات وفرق الإنقاذ القادمة من غرب ليبيا، ما تسبب في تأخر تقديم المساعدات لمنكوبي السيول، فلا يدخل شيء للمدينة دون موافقة حفتر، ما أخر عمليات الإنقاذ.
فضلًا عن ذلك، ساهم تأخر تعاطي باقي المؤسسات سواء في الغرب أم الشرق مع ملف الإعصار، في ارتفاع حجم الخسائر، فالبرلمان مثلًا لم يتحدث عن الكارثة إلا بعد 5 أيام، فيما اكتفت حكومة الشرق وحكومة الدبيبة بإبعاد المسؤولية عنهما، ودعا الرئاسي للتحقيق فيما حصل.
كانت زاهرة، وكانت درنة .. pic.twitter.com/XigStQysrW
— Tarek Tagouri (@tareeeekk1982) October 12, 2023
لم تدفع كارثة درنة الإنسانية القادة الليبيين إلى وضع خلافاتهم جانبًا وتجاوز حالة الانقسام، ومن شأن الانقسام الحاصل في مؤسسات البلاد أن يعمق حجم المعاناة ويؤخر عمليات إعادة الإعمار، ومطلع هذا الشهر أعلنت سلطات الشرق تأجيل موعد انعقاد المؤتمر الدولي لإعادة إعمار درنة إلى الأول والثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، وكان هذا المؤتمر من المقرر عقده في 10 أكتوبر/ تشرين الأول.
إلى الآن لا يُعرف من سيشارك في هذا المؤتمر ولا أهدافه، فالجهة التي دعت إليه غير معترف بها دوليًا، وحكومة الوحدة التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة لم تعلق على هذا المؤتمر، ما يعني إمكانية عدم مشاركتها فيه.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد ألمحت في وقت سابق إلى إمكانية مقاطعة المؤتمر المزمع عقده، فقد جاء في بيان للسفير الأمريكي في ليبيا ريتشارد نورلاند، أن “عقد مؤتمر لإعادة الإعمار في بنغازي في 10 أكتوبر/تشرين الأول سوف يكون أكثر فاعلية إذا تم إجراؤه بشكل مشترك وشامل”.
في ظل هذا الانقسام ستزداد معاناة أهالي مدينة درنة وسيتأخر لبعض الوقت ملف إعادة إعمار المدينة
سبق أن أعرب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا عبد الله باتيلي، عن قلقه إزاء ظهور مبادرات محلية وصفها بـ”أحادية ومتضاربة” لإعادة إعمار مدينة درنة والمدن المتضررة من إعصار دانيال، وأوضح باتيلي أن “من شأن هذه الجهود الأحادية أن تعطي نتائج عكسية وتعمق الانقسامات القائمة في البلاد وتعرقل جهود إعادة الإعمار”.
استغلال الملف لتعزيز النفوذ
يُفهم من دعوة حكومة البرلمان، المجتمع الدولي للمشاركة في مؤتمر إعادة إعمار درنة، وجود رغبة من هذه الحكومة لاستغلال ملف إعادة إعمار درنة لانتزاع اعتراف دولي بدلًا من حكومة الوحدة الوطنية، مستغلة وقوع المدينة المنكوبة تحت نفوذها.
وتحاول حكومة أسامة حماد في الشرق الاستفادة من المساعدات والهبات التي تدفقت من أكثر من 20 دولة وهيئة إغاثية عالمية، حتى تملأ موازنتها المالية الفارغة، ذلك أن هذه الحكومة تعاني نقصًا في الموارد المادية والمالية.
سعي سلطات الشرق للاستفادة من الكارثة يظهر أيضًا من خلال مسارعة مجلس النواب، لاعتماد ميزانية تقدر بـ10 مليارات دينار ليبي (أكثر من ملياري دولار) لإعادة إعمار درنة، الأمر الذي رفضه المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الثانية للبرلمان)، باعتباره سابقة لم تحدث من قبل في أي دولة، فعادة رصد الأموال يتم من الحكومات وليس البرلمانات.
شوف البحر شنو رامي على شواطئ طبرق
تقريباً 170 كيلو شرق #درنة !! pic.twitter.com/n8nMd8r3an
— Hatem Ben Mussa (@Teemo95) October 5, 2023
في المقابل، وجّهت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس خطابًا رسميًا إلى البنك الدولي للمساعدة في إدارة أموال إعادة إعمار المناطق المتضرّرة، وحددت الحكومة طلب مساعدتها من البنك بتقييم سريع للأضرار الناجمة عن الفيضانات وإنشاء برامج للتحويلات النقدية السريعة والطارئة للمتضررين بالمناطق المنكوبة وإدارة أموال إعادة الإعمار المرتقبة.
نفهم من هنا أن حكومة الوحدة تسعى لقيادة جهود إعادة الإعمار، لكن حكومة مجلس النواب ترفض بشكل حاد هذا الأمر، حتى إنها ترفض أي وجود رسمي لحكومة طرابلس في مناطق شرق البلاد، وذلك رغم أن أكثر الدعم والإعانات الدولية وصلت إلى الغرب.
في ظل هذا الانقسام ستزداد معاناة أهالي مدينة درنة وسيتأخر لبعض الوقت ملف إعادة إعمار المدينة، إذ لا توجد مؤسسة يثق فيها الليبيون ولا المجتمع المدني بشكل كامل، وهو ما يطرح العديد من الأسئلة عن مستقبل البلاد في ظل هذا الانقسام وانعدام الثقة بين الليبيين.