فتحت معركة “طوفان الأقصى” التي شنتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023 الجاري سيناريوهات اندلاع هبة جماهيرية واسعة النطاق على الصعيد الداخلي الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة أو حتى في الأراضي المحتلة عام 1948.
وشكلت العملية صدمة للمستويات الرسمية في الاحتلال أمنيًا وسياسيًا وعسكريًا، فضلاً عن الصدمة الأمريكية المترتبة على العملية نظرًا لسيرتها وعدم اكتشافها في اللحظات الأولى لتنفيذها، والحرفية التي أظهرها المقاومون خلال وقتٍ قصير وضيق.
ودشنت هذه العملية المتواصلة حتى لحظة كتابة هذه السطور لمرحلة جديدة في عمر القضية الفلسطينية بعد معركة سيف القدس التي خاضتها المقاومة الفلسطينية خلال عام 2021 التي رسمت شكلاً مغايرًا للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي مقارنة ببقية الجولات.
وتعتبر هذه المعركة بمثابة ضربة للطموحات الإسرائيلية الرامية لتمرير واقع مختلف يتمثل في “الهدوء مقابل الاقتصاد”، بمعنى توفير حالة هدوء مقابل تسهيلات اقتصادية محدودة كمنح مالية أو إدخال للأيدي العاملة إلى داخل الأراضي المحتلة دون أي أفق سياسي.
وتبدو الخشية الإسرائيلية حاضرة من اندلاع هذه الهبة الجماهيرية وتحديدًا في الأراضي المحتلة عام 1948 وهو ما عبر عنه وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير قبل أيام خلال تواجده في مستوطنة سديروت التي شهدت جزءًا من عمليات المقاومة.
وقال بن غفير خلال زيارته لسديروت المحاذية للقطاع إن سيناريو تكرار أحداث “هبة الكرامة” التي اندلعت في أيار عام 2021 قد يتكرر قريبًا في ضوء استمرار المواجهة مع حركة حماس وارتفاع أعداد القتلى لأكثر من 1500 معظمهم من الجنود والضباط.
هل تندلع هبة جماهيرية؟
قبل الولوج في الحديث عن فرص اندلاع انتفاضة جديدة بالضفة والداخل المحتل يجب الإشارة إلى هبة الكرامة التي اندلعت بالتزامن مع معركة “سيف القدس” ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والمسجد الأقصى، وبالرغم من مرور عامين، إلا أن “إسرائيل” ما زالت تتعامل مع تبعاتها بصعوبة وحذر، وتخشى تجددها.
ومنذ عام 2021، يحاول الاحتلال كبح جماح فلسطينيي الداخل، والانتقام من ساحة أراضي الـ48، التي هبت دفاعًا عن الأقصى وغزة، في الوقت الذي كانت تظن فيه أنها تتعامل مع “مواطنين على مقاسها” في دولتها المزعومة، إذ إن الهبة التي شكلت صدمة للاحتلال وطعنة في خاصرة مشاريع الأسرلة، جعلت من “إسرائيل” تحتجز معتقلي “هبة الكرامة” إلى اليوم؛ فبعد عامين ما زال العشرات في السجون، وآخرون في الحبس المنزلي.
وحاولت “إسرائيل” تلفيق تهم أمنية كبيرة لعدد من معتقلي الهبة، والذين بلغ عددهم ما يزيد عن 2800 معتقل، جرى الإفراج عن معظمهم، لكنهم ما زالوا تحت الرقابة، أما من تبقوا في المعتقلات فيزيد عددهم عن 350 فلسطينيًا من الداخل والنقب، وتوجه إليهم محاكم الاحتلال تهمًا عديدة أبرزها “محاولة قتل يهود، وإلقاء حجارة وزجاجات حارقة”، وآخرين تتعامل مع ملفاتهم وكأنها أمنية، وتمنع عنهم الزيارة، بعدما أطلقت عليها “ملفات سرية”.
إذن، هل الظروف الحالية مواتية لهبة جماهيرية؟
في الواقع، يبدو المشهد في الأراضي المحتلة متهيئًا لاندلاع الهبة الجماهيرية بطريقة تقلق المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية نظرًا للحالة الفلسطينية الداخلية.
إذ تلعب الظروف الميدانية داخل الأراضي المحتلة من ارتفاع في أعداد القتلى نتيجة للجرائم الداخلية التي يغطيها جهاز الأمن العام “الشاباك” دورًا في تحقيق هذه الهبة الجماهيرية، على اعتبار أن الاحتلال متورط بهذه الجرائم ومتهم فلسطينيًا بضعضعة المجتمع العربي وإغراقه بالفساد والمخدرات والتغاضي عن المجرمين الجنائيين.
أما جبهة الضفة الغربية المحتلة فتبدو هي الأخرى منفتحة على إمكانية اندلاع انتفاضة جماهيرية واسعة تعيد للأذهان ما جرى خلال الانتفاضات السابقة خصوصًا مع تسجيل عشرات الشهداء وآلاف المصابين منذ بداية معركة “طوفان الأقصى” على صعيد الضفة.
وتبدو هذه الإمكانيات متاحة بشكلٍ أكبر في ساحة الضفة لاعتبارات كثيرة من أبرزها حالة الانتشار الكبيرة في المقاومة بالضفة الغربية المحتلة والتشكيلات العسكرية وتسجيل قرابة 40 قتيلًا في صفوف المستوطنين بالضفة نتيجة للعمل المقاوم الفلسطيني على مدار 10 شهور في مشهد يعيد للأذهان ما حصل خلال سنوات الانتفاضة.
وإلى جانب هذا الأمر تلعب حالة الغضب الشعبي والتأثر دورًا في إمكانية اتساع الحالة الجماهيرية سيما وأن السلطة الفلسطينية متمثلة في رئيسها محمود عباس غائبة عن المشهد وثمة حالة من الحنق والغضب من الموقف الرسمي الخاص بالسلطة.
عقبات وعراقيل
لا يمكن القول إن الصورة وردية لاندلاع هبة جماهيرية جديدة بالرغم من أن المشهد والظروف الميدانية والعملياتية والشعبية مهيئة لذلك، إذ ثمة أسباب وعوامل تمنع اندلاع الهبة الجماهيرية لعل من أبرزها القبضة الأمنية والتشريعات القانونية التي عملت المنظومة الإسرائيلية على إصدارها فيما يخص الداخل المحتل عام 1948.
وبمحاذاة ذلك الدور الأمني وحالة التنسيق المتبادل بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي فيما يخص الضفة الغربية المحتلة بهدف منع أي تحرك جماهيري خارج الإطار الشعبي المقبول، أو حراك مقاوم يفتح معه جبهة الضفة بطريقة عسكرية تستهدف المستوطنات.
وشهدت الأيام الأخيرة عمليات اعتقال طالت الكثير من قيادات الفصائل الفلسطينية المحسوبة على حركة حماس والجهاد الإسلامي بشكلٍ خاص من أجل عرقلة أي حراك فصائلي بالضفة يؤدي إلى تخفيف الضغط عن غزة أو خلق واقع غير مقبول إسرائيليًا.
أما السلطة الفلسطينية فتبدو هي الأخرى في موقف صعب وحرج أمام جمهورها الداخلي إذ أن الضربة التي وجهتها المقاومة الفلسطينية للاحتلال في الأيام الأولى لمعركة “طوفان الأقصى” رفعت الآمال والمعنويات لا سيما وأن الأذرع الأمنية والإعلامية لطالما روجت لفكرة أن حركة حماس تخلت عن العمل المقاوم وتحولت إلى العمل السياسي بحثًا عن المكاسب الاقتصادية.