في السابع والعشرين من يناير الماضي نشر موقع نون بوست ملفا مميزا في طريقة عرضه بعنوان “جنرالات الذهب”. فقد صاحبت الدراسة التي كانت تبحث في أحد جوانب العلاقات المدنية – العسكرية في مصر مجموعة من الخرائط التي تعرض محتوى الدراسة على شكل شبكات من الأشخاص والمنظمات والمشاريع بينهم أنواع مختلفة من العلاقات تصف جوانب عديدة من الطبيعة المركبة للمشهد.
وقد تابعت بشكل شخصي ردود الأفعال والتعليقات المختلفة التي توالت عقب النشر، وتابعت أيضا التوضيحات والردود التي قدمها القائمون على الملف. ونظرا لحداثة تعامل الجمهور العربي مع الشبكات كفكرة وكأدوات رصد وتحليل وتنظيم وفعل، فقد وجدت – كشخص مهتم بالمجال – أنه من المفيد تسليط مزيد من الضوء على بعض الجوانب التي تكرر النقاش حولها من أجل توسيع الآفاق.
أولا، تكرر الكلام عن “الإحباط” الذي نشأ عند بعض القراء نتيجة توسع معرفتهم حول مدى تعقد موضوع الدراسة ومدى حجم وسعة اتساع ونفوذ وسيطرة خصومهم. وفي رأيي فإن أحد أهم أسباب ذلك الإحباط هو نمط التفكير الحدي، الثنائي المغلق، المؤدلج، المستند على الظن، والذي يسود عند قطاع كبير من الطيف المجتمعي. نمط التفكير هذا يحب دائما أن يلعب لعبة “تفاؤل / تشاؤم” ومن موقع المتفرج والمظلومية.
ولذلك فإنه من المهم – في رأيي – الاستمرار في عمل ونشر هكذا نوع من الأدوات والدراسات التي تتناول القضايا والمنظومات المعقدة التي تؤثر على حياتنا، ومن المهم أيضا ابتكار الأدوات التي تمكن من وضع وجهات النظر المختلفة حول تلك القضايا والمنظومات والتغيرات التي تحصل فيها عبر الزمن أمام الناس بشكل متجاور، وذلك من أجل محاولة العمل على تغيير ذلك النمط من التفكير بشكل صحي.
فعند الوصول إلى امتلاك تلك القدرات، ستزداد قدرة جميع من يبحث عن الحقيقة على رؤية وجهات نظرهم ووجهات النظر الأخرى المختلفة وتحديد موقع وسبب ذلك الاختلاف / التنوع وستزيد القدرة على الرؤية بشكل أشمل وأعمق.
في رأيي، إن وضوح الرؤية المبني على المعلومات المدعومة بالدلائل هو أول الطريق نحو البحث عن استراتيجيات الفعل المناسبة التي تفتح باب الأمل الواسع والمشاركة الواسعة.
ثانيا، تكرر الكلام الناقد للمعلومات التي قدمها الباحث وتم رسمها في الخرائط وخاصة في تعريف العلاقات بين الكيانات، بالإضافة إلى انتقاد إدراج أسماء معينة والدفاع عنها بأنها بريئة من تهمة الفساد على سبيل المثال.
لست هنا معنيا لا بالدفاع عن معلومات الباحث ولا عن الأشخاص، فلا أرغب الآن في نقاش محتوى الدراسة، ولكن ما أود لفت النظر إليه هو حاجة الباحث والناقد في آن معا إلى استخدام أدوات التفكير النظمي System Thinking ووضع خريطة النظام System Map – والتي كانت مفتقدة في هذه الدراسة – التي بنى كل منهم عليها نظرياتهم في الإثبات أو النقد أو النقض. في رأيي، إن وجود خريطة النظام بجانب خريطة شبكة العلاقات Relationships Network Map – والتي امتلأت بها الدراسة – سيجعل عملية النقاش ذات جدوى.
ومع أن هذه المساحة ليست مخصصة للتعريف بالتفكير النظمي وخريطة النظام، سوف أورد هنا أمثلة لما يمكن أن تكون عليه خريطة النظام حتى يستطيع القارئ تخيلها في سياق ملف جنرالات الذهب:
ثالثا، تساءل كثير من القراء، ها وقد امتلكنا هذه الخرائط، أو لو كنا امتلكنا هذه الخرائط في بداية الثورة، ماذا كنا سنفعل بها؟ ما الذي كانت ستحدثه هذه الخرائط من فرق على مستوى الفهم والتحليل وعلى مستوى التنظيم والفعل؟
في رأيي، إن وجود هذه الخرائط في حد ذاتها دون تحول وتطور في طريقة النظر والتفكير في القضايا المعقدة ونظمها وعلاقاتها البينية إلى مستوى التفكير النظمي ومن ثم استعراضها وتحليلها شبكيا، سيكون منخفض القيمة. كما أن وجودها لن يصنع فرقا على الأرض بدون تحول وتطور في أساليب وطرق التنظيم والحركة لتعتمد طرقا أكثر مرونة وفعالية من الهياكل التراتبية الصلبة وتزداد اعتمادا على التنظيم الذاتي والتشبيك المرن.
وعندما تعتمد هذه الأنماط من التفكير والتنظيم على البيانات الموثوقة التي تسند وجهات النظر المختلفة والمستعرضة بطرق فعالة – كالأسلوب الشبكي – لتنطلق منها في فهم بيئة القضايا والمنظومات المعقدة، ستتمكن القوى الحية من الوصول لفهم أعمق وتفتح أمامهم الأبواب للبحث عن استراتيجيات تنظيم وفعل أكثر كفاءة.
***
بناء على ما سبق، فإنني أقترح على من تابع ملف جنرالات الذهب واهتم به واستشعر أهمية المقاربة الشبكية أن يقوم بما يلي:
أولا، إن رسم خرائط نظم وشبكات علاقات القضايا المعقدة يحتاج دائما إلى الجهد والذكاء الجمعي بسبب تعدد زوايا النظر بالإضافة إلى الحركية العالية المستمرة داخل النظم والعلاقات، لذلك، فإن تكوين مجموعات اهتمام وممارسة هو أمر هام من أجل التعارف وتنسيق الجهود، وعند نضج الحالة، يمكن أن ينبثق من كل مجموعة اهتمام فريق عمل أو أكثر يعمل على قضية محددة.
ثانيا، التفكير بالمنطق النظمي والمنطق الشبكي يحتاج إلى التعلم والتأمل وتطوير القدرة الذاتية بشكل مستمر على جمع المعلومات والتواصل والتحليل وإبداع استراتيجيات ونماذج عمل مناسبة لكل حالة وزمان ومكان. هناك حول العالم تجارب وكتب ودراسات ومساقات تعليمية ومختصون يمكن التواصل معهم والاستفادة منهم.
***
أخيرا، يحضرني الآن جزء من قصيدة لتميم البرغوثي في بداية الثورة المصرية كان يقول فيها:
“الثورة دي بداية..
زي الهجرة والميلاد..
الثورة دي بسملة..
كمل بقى الآية..”
ونظرا لأننا على المستوى الجمعي توقفنا عند البداية ولم نكمل، حيث أننا جميعا لم نكن جاهزين على مستوى المعلومات ولا الخبرات ولا الأدوات، فإن الواجب يبقى كما هو، وعلى كل فرد يؤمن بمسؤوليته وواجبه، كل من موقعه، وبحسب سعة إدراكه ومدى قدراته، أن يكمل الآية.