رغم أن البعض يرى أن الصهيونية في ازدهار إلا أن هناك مؤشرات على انهيارها في السنوات القليلة القادمة، والصهيونية هي حركة سياسية يهودية، كان هدفها الرئيسي إقامة دولة يهودية في فلسطين، وذلك بتشجيع هجرة اليهود في أنحاء العالم كافة إلى فلسطين أو “إيريتس يسرائيل” حسب التسمية اليهودية التقليدية وإقامة تجمعات يهودية جديدة في هذه البلاد، وفي مايو 1948 توجت الحركة الصهيونية خطواتها في العمل لتحقيق هذا الهدف، بتأسيس “دولة إسرائيل” واعترفت بعض دول العالم بها، أما بعد تأسيس إسرائيل فتستهدف الحركة الصهيونية تعزيز العلاقات بين المجتمعات اليهودية في أنحاء العالم وإسرائيل وتشجيع اليهود من البلدان المختلفة لزيارتها والهجرة إليها.
وقد وجه للصهيونية نقد من كثير من الأكاديميين العرب والغربيين، مثل عبد الوهاب المسيري، وجارودي والمفكر الشهيد إسماعيل راجي الفاروقي وغيرهم إلا أن نقد الصهيونية من أكاديميين يهود أو رجال دين يهود هو أكثر تأثيرا في المجتمع الإسرائيلي من غيرهم خصوصا إذا كان النقد باسم التوراة كما في أدبيات ياكوف ربكن، منها أنه يمثل تيار من اليهود أنفسهم ممن ينتقد الصهيونية مثل الإعلامي آلان هارت مراسل البي بي سي سابقا صاحب كتاب “الصهيونية العدو الحقيقي لليهودية”، وكتاب باسكال بونيفاس “من يجرؤ على نقد إسرائيل”، بالإضافة إلى كتاب جون روز “أساطير الصهيونية” وغيرهم.
ورغم أن هذا التيار كان له وجود منذ نشأة الحركة الصهيونية إلا أن صوته لم يكن قويا ولم يكتب له حجم الانتشار الموجود حاليا، وقد وقع اختياري على ياكوف ربكن لثراء أفكاره وعدم تناولها من قبل في أبحاث علمية بصورة تفصيلية، ولعدم معرفة بعض المتخصصين في مجال الدراسات الصهيونية به، ولأنه من خلال مؤلفاته ومقالاته أراد التواصل مع العرب والأكاديميين العرب والإعلام العربي، ولأن هذا المقال سيلقي الضوء على بعض ما خفي على القراء العرب من نقد رجل دين يهودي وأكاديمي متخصص للصهيونية.
يرى ربكن أن دولة إسرائيل تكونت من أشخاص تمردوا على الدين اليهودي، ورأى أن المشروع السياسي الصهيوني يسير في الاتجاه المعاكس وينقطع عن الاستمرارية والبقاء اليهودي
نشأته
وقد ولد ربكن في سان بطرس برج في عام 1945، وغادر روسيا في أوائل السبعينيات، وهو مؤرخ وأستاذ التاريخ في جامعة مونتريال في كندا وكذلك هو رجل دين يهود، وله الكثير من المؤلفات والأبحاث التي تناولت التاريخ اليهودي والروسي والحركة الصهيونية فضلا عن أبحاثه في العلوم والحضارات والعلاقات الدولية والتكنولوجيا.
نظرة ربكن للصهيونية وإسرائيل
لربكن أبحاث تاريخية ولاهوتية حول الحركة الصهيونية والفكر الصهيوني ويرى ياكوف “أن الصهيونية ودولة إسرائيل يشكلان تمزقا في التاريخ اليهودي .. لأن الصهيونية حركة سياسية ترمي إلى تحويل الهوية اليهودية العابرة للقوميات إلى هوية سياسية قومية (أمة)، وقد كان معظم اليهود يعارضون الصهيونية عندما ظهرت، واعتبرها اليهود والفلسطينيون، وكثير من اليهود العرب، تهديدا للتعايش العربي اليهودي، ولا تزال ثمة حركة بين اليهود تعادي الصهيونية”.
ربكن كذلك يرى أن دولة إسرائيل تكونت من أشخاص تمردوا على الدين اليهودي، ورأى أن المشروع السياسي الصهيوني يسير في الاتجاه المعاكس وينقطع عن الاستمرارية والبقاء اليهودي، ويقول ربكن أنه حاول في كتابه “المناهضة اليهودية للصهيونية” نقل وجهات نظر عدد من الحاخامات اليهود وعدد لا بأس به من علماء الاجتماع اليهود فضلا عن انطباعاته وأفكاره الخاصة في دولة إسرائيل وحكم إقامتها.
يرى ربكن أن كره أو بغض الصهاينة لليهود يعود لأن الفريق الأخير يمثل الصورة التي يجب ألا تكون موجودة، فالصهيونية تدعو ليكون اليهود بصورة الجندي
ويتابع أنه بالرغم من علمه بقلة التيار الذي ينزوي تحته إلا إنه يؤكد أن هذا التيار الرافض للصهيونية أصبح لديه آذانا صاغية من قبل فئات أخرى سواء فئات يهودية أو غربية، ويرى ربكن أن الدولة الصهيونية الحالية خيبت أمال الحريديم وكذلك الوطنيين المتدينين سواء من خلال مضايقات وضغوطات الشرطة أو من عوامل أخرى كإخراجهم من غزة وبعض مناطق الضفة، ويضيف ربكن أنه رغم أن هؤلاء الأكثر صهيونية بين سكان الدولة إلا أن الكثير منهم اليوم يقول إن مشروع إسرائيل ربما كان خاطىء.
كما يقول ربكن أن اليهود أمة متحدة بفضل التوراة وأحكام الشريعة، ولكن المشروع الصهيوني جعل من اليهودي أحد أفراد مجموعة قومية لا علاقة لها باليهود كشعب، وهو ينتقد الحركة الصهيونية، معتبراً إنها “أعادت تكوين ماهية اليهود، فنقلتهم من التعريف الديني إلى المفهوم المدني الأكثر واقعية ومنطقية”،
اليهودية والصهيونية
يرى ربكن أن كره أو بغض الصهاينة لليهود يعود لأن الفريق الأخير يمثل الصورة التي يجب ألا تكون موجودة، فالصهيونية تدعو ليكون اليهود بصورة الجندي، وأضاف أن مسألة العنف تتطرق أيضاً إلى مسألة تهجير الفلسطينيين باستخدام القوة وإرغامهم على مغادرة أراضيهم، ويدافع ربكن عن فكره أمام وسام سعادة المفكر اللبناني الذي اتهمه بالتناقض في كثير من أفكاره حول الصهيونية واليهودية، فيقول “حاول العديد من اليهود إيجاد حلول للتباينات بين اليهودية التي يؤمنون بها وجعلها تتواءم مع الإيديولوجيات الصهيونية التي قبضت عليهم، والبعض منهم كالمؤرخ النيويوركي طوني جوت والنائب السابق لرئيس بلدية القدس ميرون بنفنيستي يتساءل علناً الآن عما إذا كانت إسرائيل دولة عرقية محاصرة على الدوام في الشرق الأوسط وهل هذا «أمر طيب لليهود».
تعتقد جماعات يهودية أرثوذكسية أن يوم قيام دولة إسرائيل يوم حزن بالنسبة للشعب اليهودي والإنسانية جمعاء، وهي تتعامل معه بصيام وحداد
يواصل ربكن “الكثيرون أبدوا القلق من أن الصهيونية النضالية تدمر القيم الأخلاقية اليهودية وتجلب المخاطر إلى اليهود في إسرائيل وغيرها من الأماكن، فالسجال دخل حيز الثقافة الشعبية أيضاً فمثلا يركز فيلم ستيفن سبيلبرغ «ميونيخ» بحدة على الكلفة الأخلاقية لاعتماد إسرائيل المزمن على القوة، ونشر العديد من الكتب على امتداد الأعوام القليلة الماضية («منبوذو الأنبياء» و«الصراع مع صهيون» «سؤال صهيون» و«خرافات الصهيونية») ألّفها يهود معنيون بالنزاع الأساسي بين الصهيونية والقيم اليهودية”.
وهو يرى أن تيار الانعتاق اليهودي من دولة إسرائيل وسياساتها عمق بعض الانقسامات القديمة وخلق انقسامات جديدة، ومنها أن نقداً فائقا من الأرثوذكسية الإسرائيلية، المخاصم عادة لليهودية الإصلاحية، يدين الرابي الإصلاحي لقوله «عندما يصمت مناصرو إسرائيل اليهود في الخارج عن السياسات الكارثية التي لا تضمن سلامة مواطنيها ولا تنتج المناخ المناسب، وتتوصل إلى سلام عادل مع الفلسطينيين … فإنهم يخونون الحد الأدنى من القيم اليهودية ويتصرفون ضد مصالح إسرائيل بعيدة المدى». وتعتقد جماعات يهودية أرثوذكسية أن يوم قيام دولة إسرائيل يوم حزن بالنسبة للشعب اليهودي والإنسانية جمعاء، وهي تتعامل معه بصيام وحداد.
لقد استقطبت علاقات كبار الرابيين بدولة إسرائيل وبالصهيونية اليهود، ولا يتعلق المحور الذي جرى الاستقطاب حوله بأي من الانقسامات المعتادة الأشكناز والسفارديم، الملتزمون وغير الملتزمون، الأرثوذكس وغير الأرثوذكس. فكل من هذه الفئات تشمل يهودا يؤمنون بأن فكرة الدولة اليهودية بحد ذاتها والثمن الإنساني والأخلاقي الذي تتطلبه، يزعزع كل ما تعلمه اليهودية، وخصوصاً صميم قيم التواضع والتعاطف واللطف. والانقسامات بشأن إسرائيل والصهيونية حادة إلى الدرجة التي قد تؤدي إلى تقسيم اليهود، والأمر على سبيل المثال وصل إلى إجبار بعض يهود اليمن الذين هاجروا إلى إسرائيل على العمل يوم السبت المقدس لدى اليهود، بل قام الصهاينة بقص خصلات شعورهم المتدلية التي جرى اليهودي المتدينين على تربيتها.
ربكن ورؤيته للسلام مع العرب
خص ياكوف ربكن الإعلاميين العرب بجزء من مقدمة كتابه في نسخته العربية أن هناك خلطا كبيرا في الإعلام العربي بين الصهيونية وأفكارها وبين الدين اليهودي
ربكن يرفض الصهيونية باسم التوراة فاسم كتابه بالفرنسية هو “Au nom de la Torah : Une histoire de l’Opposition juive au Sionisme” أي باسم التوراة تاريخ المعارضة أو المناهضة اليهودية للصهيونية، فربكن يستمد أفكاره ومنهجه من التوراة، ولهذا لا يمكن أن يتم وصمه بالمعادي للسامية ويستخدم في نفس الوقت المنهج العلمي في أبحاثه ولهذا لم يجد من يرد عليه ردا علميا، ويرى ربكن أن هناك نقاط مشتركة بين العرب واليهود الشرقيين وأنهم يستطيعون التفاهم مع بعضهم البعض لأنهم شرقيين يملكون الشعور الشرقي الروحي نفسه، ويستطيع كل منهم فهم الأخر بخلاف الصهاينة الغربيين الماديين، وربكن ليس فقط أكاديمي وإنما رجل دين يهودي درس الدين اليهودي على يد عدد من الحاخامات، وهو يضع نصب عينيه ما قاله الحاخام بلاو “أن الصهيونية كبدت اليهود أضرارا كبيرة، وإذا كان العرب قد خسروا منازلهم وأرضهم فإن اليهود فقدوا هويتهم التاريخية بقبولهم الصهيونية”.
لذا فهو يرى أن الصهيونية حركة علمانية ليس لها علاقة بالتوراة ولا بالدين اليهودي، وأن الكثير من اليهود يعادونها، وربكن ينتقد ليس فقط المشروع الصهيوني وإنما ينتقد أيضا ما يعرف بالأصولية المسيحية التي ترى في إسرائيل مشروعا دينيا، والمميز في أفكار ربكن أنه لا يكتفي بآرائه، وإنما يعرض أراء مفكرين وحاخامات يشاطرونه نفس الآراء والأفكار والمنطلقات بل وأحيانا المنهج العلمي في نقد الصهيونية مثل الحاخام إسرائيل دومب والمناضل الحاخام أمرام بلاو وتوماس كولسكي وغيرهم، وهو يشاطرهم الرأي في القول إن العداء العربي والإسلامي لليهود يمكن عكسه لو تخلى اليهود عن الصهيونية، وحولت إسرائيل إلى دولة مزدوجة الجنسية، فقد كانت العلاقات بين العرب واليهود ممتازة قبل وصول الصهاينة.
وفي مقدمة النسخة العربية من كتابه خص ياكوف ربكن الإعلاميين العرب بجزء من مقدمة كتابه في نسخته العربية أن هناك خلطا كبيرا في الإعلام العربي بين الصهيونية وأفكارها وبين الدين اليهودي، حيث يرى أن المعاداة للسامية مستورد من أوربا، وهذا الأمر غريب عن الثقافتين العربية والإسلامية التي تعايش معها اليهود لقرون طويلة في سلام وتعايش.
ربكن ومستقبل الصهيونية
يرى الأكاديمي ياكوف ربكن أن مستقبل المناهضة اليهودية للصهيونية مبشر رغم أن هذا التيار أقلية بين اليهود، ورغم نجاحات دولة إسرائيل العسكرية والسياسية، إلا أن تياره صلب في عدم الاعتراف بإسرائيل ورفض الاعتراف بالحلول السياسية للمشكلة اليهودية مستندين في ذلك على التوراة وهو وتياره يرون أن دولة إسرائيل لم تنقذ اليهود من الجيتو في أوربا، فوضع إسرائيل الحالي يشبه الجيتو الإقليمي محاط بجيران عدائيين، وهو وتياره يؤكدون أن ما يعرف باسم دولة إسرائيل ستنتهي خلال مئة عام أو 300 عام وستزول ، إلا أن الشعب اليهودي سيبقى آلاف السنين وأن يهود العالم يستطيعون العيش جيدا من دونها.
خلاصة أفكار ربكن، أن اليهودية لا علاقة لها بالصهيونية، فالصهيونية حركة علمانية حاولت التلبس بالدين اليهودي والصهيونية في اندثار اليوم رغم أنها لازالت الغالبة على اليهود
ويرى أن الحل الأمثل لإنهاء النزاع في الشرق الأوسط هو إقامة دولة واحدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط تجمع الجميع إلا أن أرباب المشروع الصهيوني يرفضون هذا الحل ويرونه نهاية لدولتهم، ويشدد ربكن على ضرورة تعويض المهجرين ومن سلبت أراضيهم، وهو يرى أن دولة اليهود مع داوود وسليمان تختلف كثيرا عن الدولة القائمة، فالدولة سالفة الذكر مشروعها كان الحفاظ على الهوية والأمة اليهودية، أما الدولة الصهيونية الحالية فتكونت من أفراد تمردوا على الدين والأمة اليهوديين.
خلاصة أفكار ربكن، أن اليهودية لا علاقة لها بالصهيونية، فالصهيونية حركة علمانية حاولت التلبس بالدين اليهودي والصهيونية في اندثار اليوم رغم أنها لازالت الغالبة على اليهود، إلا أن اليوم يجابها بعض أبنائها ممن أمنوا بها سابقا وأيدوها بكل السبل فيما مضى، والدولة الصهيونية إلى زوال، وذلك ليس رأي ربكن فقط كما أسلفنا بل هو رأي تيار لا يستهان به من اليهود أنفسهم من الأكاديميين والحاخامات، وأن السلام ممكن بين العرب واليهود الشرقيين بعيدا عن الأشكناز وماديتهم، وأن الحل لهذا السلام الذي سيتم بعض القضاء على الصهيونية هو دولة واحدة تجمع العرب واليهود كما كانوا من قبل في المشرق العربي ومحافظات الدولة العثمانية، ولذا أرى أن التواصل مع ربكن وأمثاله فرض عين على مفكرين أمتنا، لأنهم رأس الحربة في هدم الدولة العنصرية الاستيطانية الصهيونية.