ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل سنوات، قمتُ بإجراء فحص على ما يقرب من عامين من تغطية صحيفتي نيويورك تايمز وشيكاغو تريبيون لعمليات القتل والوفيات الإسرائيلية والفلسطينية.
وما وجدته لم يكن مفاجئًا لأي شخص مطلع على الأدبيات الأكاديمية، والتي تظهر تماثلًا ملحوظًا.
لقد غطت الصحف الوفيات الإسرائيلية بشكل متكرر وبصورة أكثر وضوحًا من الوفيات الفلسطينية، على الرغم من وجود وفيات فلسطينية أكبر بكثير خلال فترة الدراسة التي دامت عامين تقريبًا.
وكانت الصحف أيضًا أكثر ميلًا إلى مصادر إسرائيليين، وذلك بغض النظر عما إذا كانت التقارير عن مقتل فلسطينيين أو إسرائيليين أو كل من الفلسطينيين والإسرائيليين في يوم محدد.
والأهم من ذلك، أنه كان من المرجح جدًا أن تقدم كلتا الصحيفتين مبررًا واضحًا للعنف الإسرائيلي، وتضع العنف الفلسطيني في إطار الإرهاب، وتتجاهل السياق الاجتماعي والسياسي الأكبر الذي يحرك الصراع.
ويبدو أن التقارير الصحفية عن الضحايا المرتبطين باندلاع أعمال العنف الأخيرة، والتي بدأت بهجوم مفاجئ شنته حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، تتبع نفس السيناريو.
فلا تزال الأحداث تتكشف، وسوف تمر أسابيع، وربما أشهر، قبل أن يتمكن الباحثون من فحص التقارير الإخبارية الغربية بشكل تجريبي ومنهجي.
وتشير الأدلة المتناقلة – استناداً إلى التحليلات الأولية للمقالات المسترجعة في قواعد بيانات الأرشيف – إلى أنه لم يتغير إلا القليل منذ أن أجريت دراستي على صحيفتي التايمز وتريبيون.
السياق بالغ الأهمية
إن المنظمات الإخبارية الغربية الرئيسية – بما في ذلك نيويورك تايمز، سي إن إن، الغارديان، بي بي سي، يو إس ايه توداي، وغيرها الكثير – تتبنى وجهات النظر الإسرائيلية بامتياز؛ وتسلط الضوء على الضحايا والإنسانية الإسرائيلية على حساب الضحايا والإنسانية الفلسطينية؛ وتتجاهل الأصوات والمظالم الفلسطينية؛ وتتعامى عن السياق الأوسع للصراع.
ولعل الأمر الأكثر وضوحًا هو أن في تلك التقارير صورت العنف الإسرائيلي باعتباره عملًا انتقاميًا من أعمال الحرب، وكل العنف الفلسطيني، بما في ذلك العنف الموجه ضد الجيش الإسرائيلي، باعتباره إرهابًا.
وقد قارنت عدة تقارير إخبارية هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر بهجمات 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 التي شنها تنظيم القاعدة على نيويورك وواشنطن، مع استخدام العديد من المنافذ الإعلامية وصف “11 سبتمبر الإسرائيلي” في عناوين الأخبار.
إن الآثار المترتبة على هذا النوع من التأطير واضحة: إسرائيل في حالة حرب، وعنفها انتقامي ومشروع، والعنف الفلسطيني همجي ولا معنى له.
إن تجنب السياق أمر بالغ الأهمية بشكل خاص، فالشخص الذي يتابع الأخبار الغربية السائدة حصريًا، قد يميل إلى استنتاج أن الفلسطينيين ميالون للعنف، وأنهم يستيقظون من نومهم ويقررون القتل.
وقد قمتُ، مثل العديد من معلمي الصحافة والإعلام، في كثير من الأحيان بتعليم الطلاب، العرب والأمريكيين، أهمية السياق في كتابة أي قصة إخبارية وخاصة القصص التي تتضمن تواريخ وأحداث متعددة الطبقات.
لقد أوضحت أنه بدون السياق، يمكن فقدان المعنى الحيوي للأمر.
المسؤولية الاجتماعية الصحفية
ومن المثير للاهتمام، أنني اعتمدت بشكل شبه حصري في تقديم الدروس حول السياق على كتيبات الصحافة الغربية وكتاباتها العلمية، وفي الواقع، يُعزى الفضل للتقاليد الإخبارية الغربية في إدخال فكرة المسؤولية الاجتماعية الصحفية، والتي تؤكد على الضرورة المطلقة للسياق من أجل الفهم.
ونظرًا لمركزيته في التقليد الصحفي الغربي، فمن الغريب أن يتم تجاهل السياق بالكامل تقريبًا في التغطية الغربية السائدة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهي نقطة تم التأكيد عليها مرارًا وتكرارًا على مدى عقود من قبل علماء الإعلام؛ حيث قالت ماردا دونسكي من جامعة نورث وسترن ذات مرة إن الافتقار إلى السياق في التغطية الأمريكية للصراع يمثل نوعًا من “التحيز الضمني في اللاوعي”.
لقد تجاهلت التقارير الصحفية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الخلفية والسياق الحيويين للقضية مرة أخرى.
بداية، نادرًا ما أشارت التقارير الغربية الرئيسية إلى احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، مع عدم ورود أي ذكر تقريبا لحقيقة مفادها أن الاحتلال غير قانوني بموجب القانون الدولي.
وفي إحدى قواعد البيانات، التي تضم عدة مئات من التقارير الإخبارية الغربية الرئيسية المنشورة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم يتم ذكر الاحتلال إلا بشكل ضئيل، وقد حددت ثلاث إشارات فقط إلى عدم شرعيته.
كما أن التغطية الغربية تجنبت إلى حد كبير الوحشية اليومية التي يفرضها الاحتلال على حياة الفلسطينيين ومجتمعاتهم، فضلًا عن الحقائق المروعة المرتبطة بالحياة في غزة؛ حيث يخضع القطاع لحصار غير قانوني منذ عام 2006، ولا يستطيع سكانه الوصول إلى مياه الشرب النظيفة تقريبًا، وقد وصفته منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمات حقوقية أخرى مرارًا وتكرارًا بأنه أكبر “سجن في الهواء الطلق” في العالم.
وتجاهلت التقارير الإخبارية الغربية الأخيرة المعاملة اللاإنسانية للأسرى الفلسطينيين، بما في ذلك أكثر من 1000 فلسطيني محتجزين دون تهمة في الاعتقال الإداري.
ووصفت منظمة “بتسيلم”، وهي منظمة إسرائيلية رائدة في مجال حقوق الإنسان، معاملة المعتقلين الفلسطينيين بأنها “تعذيب”، مشيرة إلى أن معاملتهم “قاسية وغير إنسانية ومهينة” وتعد “انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي”.
البراعة في إضفاء شرعية على الهجمات
حتى السياق الأساسي على مدار الأشهر القليلة الماضية تم تجاهله إلى حد كبير من قبل معظم التقارير الغربية حول الأحداث الجارية، على الرغم من ارتباطه المباشر باندلاع أعمال العنف مؤخرًا.
وقد تكرر هذا التجاهل في وسائل الإعلام الغربية، سواء للاقتحامات الأخيرة للمسجد الأقصى المبارك من قبل المستوطنين الإسرائيليين؛ أو للجريمة الأخيرة المتمثلة في قيام إسرائيليين بالبصق على المصلين المسيحيين الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة؛ ولجرائم الحرب المحتملة في الضفة الغربية؛ وللتوسع الاستيطاني الإسرائيلي غير القانوني على الأراضي الفلسطينية؛ ولبرنامج إسرائيل المستمر للهدم غير القانوني لمنازل الفلسطينيين؛ ولموجة الهجمات الإرهابية التي يشنها المستوطنون الإسرائيليون على القرى الفلسطينية؛ ولمحو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لفلسطين من خريطة الشرق الأوسط الجديدة التي عُرضت الشهر الماضي في الأمم المتحدة.
إن قيام إسرائيل بتنفيذ تطهير العرقي وفصل عنصري ضد الفلسطينيين ليس حتى أمرًا مثيرًا للجدل، وقد قامت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وبتسيلم بتوثيق الأدلة على ذلك، كما فعل العديد من الباحثين والمحللين.
ومع ذلك، تجنبت التغطية الإخبارية الغربية السائدة عمومًا هذه المصطلحات الأساسية.
والأمر الأكبر من كل ذلك هو أن الإنسانية الفلسطينية قد تم التقليل من أهميتها من قبل وسائل الإعلام الغربية الرئيسية.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الرئيسية قد أنتجت تقارير عن القصف الإسرائيلي والإصابات الفلسطينية التي تسبب فيها، إلا أن هذه القصص تميل إلى التقليل من خطورة الهجمات من خلال إضفاء الشرعية عليها بمهارة عن طريق الاعتماد الكبير على مصادر إسرائيلية والتأطير الشامل لـ “الإرهاب الفلسطيني”.
على سبيل المثال، استخدم تقرير صدر في 10تشرين الأول/أكتوبر في صحيفة “يو إس ايه توداي” عنوانًا رئيسيًا – “القصف الإسرائيلي يقتل المئات” – والذي سلط الضوء على الخسائر في الأرواح الفلسطينية.
لكن المصدر الأول المذكور في التقرير هو جيش الدفاع الإسرائيلي، المذكور في الجملة الثانية من التقرير.
وسلطت المعلومات التي قدمها جيش الدفاع الإسرائيلي الضوء على حقيقة أن “مسلحي حماس اخترقوا حاجزًا وقاموا بغزو أدى إلى مقتل أو اختطاف أكثر من 1000 إسرائيلي”.
ويأتي أول ذكر للضحايا الفلسطينيين في الجملة الرابعة من التقرير، ومصدره ضابط إسرائيلي برتبة مقدم، والذي قال “إنه تم العثور على جثث 1500 مسلح [فلسطيني] حول جنوب إسرائيل”.
وبشكل عام، اعتمد التقرير على أربعة مصادر إسرائيلية مقارنة بمصدرين فلسطينيين فقط.
تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم
وأيضًا، وحسب التقارير السابقة المرتبطة بموجات العنف السابقة في الصراع، تم التركيز بشكل أكبر بكثير على الحداد والحزن والخوف الإسرائيلي مقارنة بالفلسطينيين، وعندما ينقشع الغبار عن التحليلات التجريبية، فليس هناك شك تقريبًا في أنه سيكون هناك عدد أكبر من هذه الصور للإسرائيليين مقارنة بالفلسطينيين، وهذا على الرغم من ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين حتمًا.
ويقدم حساب “سي إن إن” على إنستغرام، والذي يتابعه ما يقرب من 20 مليون شخص، مثالًا مفيدًا.
وبين 7 و10 تشرين الأول/أكتوبر، نشر حساب”إنستغرام” التابع لشبكة “سي إن إن” ما مجموعه 23 منشورًا حول إسرائيل وفلسطين، جميعها تقريبًا كانت تتمحور حول إسرائيل وتسلط الضوء إما على الدفاع الإسرائيلي عن النفس، أو الخسائر الإسرائيلية، أو العنف الفلسطيني، كما توضح العناوين الرئيسية المصغرة.
وتضمنت النصوص الإرشادية المصغرة للعناوين الرئيسية ما يلي: “مشهد مروع في بلدة في إسرائيل”؛ “مسلحو حماس يلقون قنبلة يدوية على ملجأ”؛ “مراسل يحتمي في مطار إسرائيلي”؛ “يبدو أن الفيديو يظهر امرأة إسرائيلية محتجزة كرهينة”؛ “أم إسرائيلية ابنها مفقود ترسل رسالة إلى حماس”؛ “مسلحون في غزة يهاجمون مهرجانًا موسيقيًا ويأخذون رهائن”؛ “التجربة المروعة لرواد المهرجان أثناء الهروب من الهجوم”؛ “بلينكن: الولايات المتحدة تتحقق من التقارير عن قتلى ومفقودين أمريكيين في إسرائيل”؛ “رجل يقول إن الفيديو يظهر أن حماس تأخذ عائلته”؛ “صاروخ استقر في سقف مبنى سكني إسرائيلي”؛ و”كيف تعمل القبة الحديدية الإسرائيلية”؛ “نتنياهو يقول إن الانتقام في غزة هو مجرد البداية”؛ “القبة الحديدية تعترض هجومًا صاروخيًّا”؛ “عائلات الأمريكيين المفقودين تتبادل آخر الاتصالات”؛ “أصول حركة حماس وارتباطها بإيران”؛ و”كلاريسا وارد من سي إن إن تحتمي من الصواريخ القريبة”.
فيما تناولت ثلاثة فقط من منشورات شبكة سي إن إن على إنستغرام البالغ عددها 23 منشورًا العنف الذي ترتكبه إسرائيل في غزة: “أبراج غزة تنهار بعد انفجار”؛ “انفجارات جديدة في سماء غزة”؛ و”الغارة الجوية الإسرائيلية تضرب مخيم اللاجئين في غزة”.
شبكة سي إن إن ليست وحدها في تقديم هذا النوع من التفاوت غير المتوازن؛ حيث تتابع نصوص إخبارية متطابقة تقريبًا على شبكات التلفزيون الغربية الرئيسية والصحف وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأماكن أخرى في العالم الغربي.
وفي أفضل السيناريوهات التي تقدمها التقارير الغربية، يُعرض على مستهلكي الأخبار نوع من التوازن المضلل؛ حيث يتم إعطاؤهم اقتراحات واضحة بأن العنف في إسرائيل وفلسطين هو في الأساس عنف متبادل.
ومع ذلك، إذا كان السياق يخبرنا بأي شيء، فإنه يخبرنا إنه لا يوجد شيء متبادل في هذا الصراع.
هناك احتلال ومحتل، هناك دولة فصل عنصري من جهة، وشعب بلا دولة من جهة أخرى، هناك مطهِّر عرقي وشعب يتم تطهيره عرقيًّا، هناك معتد واضح وضحية واضحة.
ونأمل أن تتمكن الصحافة الغربية السائدة يومًا ما من فهم الأمر بشكل صحيح، لأن الإنسانية الفلسطينية تعتمد على ذلك.
المصدر: ميدل إيست آي