في العام الماضي رحل أحد أهم حراس ذاكرتنا الفلسطينية، سلمان ناطور الكاتب والأديب الفلسطيني الذي انشغل بحفظ هويتنا الجمعية وقاوم الاحتلال الذي فشل في منعه من الكتابة واعتقله بعد صدور روايته الأولى “أنت القاتل يا شيخ”، ومارس ضده كل الأساليب القمعية لردعه لكنه كان دومًا ينتصر ويعود بنا بذاكرته إلى حيفا ويافا وإلى كل فلسطين.
رحل عنا تاركًا فينا صرخة أبو صلاح اللواح أحد أبطال “ذاكرته” محذرًا “ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة، ستأكلنا الضباع”.
الناقد السينمائي الفلسطيني الراحل بشار إبراهيم
هذا العام، وفي يوم الأرض الفلسطينية يرحل الكاتب والناقد السينمائي الفلسطيني بشار إبراهيم الذي عمل على جمع وأرشفة ما يمكن من الأفلام الفلسطينية القديمة والحديثة، بالإضافة إلى تحليلها ونقدها وتوثيقها سواء عبر المقالات أو في الكتب التي قام بتأليفها عن الموضوع ومنها “السينما الفلسطينية في القرن العشرين”، “فلسطين في السينما العربية” وغيرها، إيمانًا منه بأهمية الحفاظ على تراثنا السينمائي لتأكيد الهوية الفلسطينية، كضرورة من ضرورات الحفاظ على الذاكرة التي تسعى “إسرائيل” إلى محوها وإلغائها بكل أشكالها المكتوبة والبصرية وحتى الشفوية، لما لهذه الذاكرة من أهمية في حفظ وتوثيق حياة الشعب الفلسطيني وقضيته بما فيها من تفاصيل وحكايات، وبما تشكله من وثائق تعزز من حقوقنا المشروعة أمام العالم كله، وتدين الاحتلال في الكثير من المراحل المفصلية في تاريخنا.
نُشر هذا الإعلان في جريدة الدفاع الفلسطينية بتاريخ 31-8-1934 وفيه تتوجه شركة السينما الفلسطينية الوطنية للجمهور الفلسطيني لشراء أسهم في الشركة
كنا قد خسرنا جزءًا كبيرًا من الأرشيف الفلسطيني بما فيه من ذاكرة بصرية وسينمائية خلال الاجتياح “الإسرائيلي” لبيروت عام 1982، وما تبقى منه ضاع في ظل الخروج من لبنان وضعف منظمة التحرير، مما انعكس بشكل سلبي على العديد من صُناع الأفلام الذين كانوا يومًا ما تحت لواء الثورة الفلسطينية بمختلف فصائلها، وتشتت الكثيرون منهم في بقاع مختلفة من الأرض مثل المخرجين العراقيين قاسم حَوَل وقيس الزبيدي، عدا من رحل إلى رحمة الله منهم وأبرزهم المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي.
لا يمكن أن نغفل ضرورة العمل على تطوير السينما الفلسطينية كأداة مقاومة ولأهمية حضور السينما في هذا العالم
هذه الخسارة مستمرة إلى يومنا هذا بسبب عدم وجود مؤسسات فاعلة لجمع ما تبقى من هذا الأرشيف وحفظه أو حتى لدعم صناعة الأفلام فلسطينيًا، ويغيب التوثيق الممنهج والمؤسسي لما يتم إنتاجه حاليًا عن فلسطين، يضاف لها طبعًا الأثر السيء الذي تركه الانقسام وتشرذم الفصائل على الساحة الفلسطينية بشكل عام.
ولا يمكن أن نغفل ضرورة العمل على تطوير السينما الفلسطينية كأداة مقاومة ولأهمية حضور السينما في هذا العالم، وقد لعبت العديد من الأفلام ومنذ العشرينات من القرن الماضي أدوارَا مهمة كالترويج للدعاية الشيوعية والاشتراكية في فيلم “المدرعة بوتمكين” لسيرغي أزنشتاين، والذي يمكن وصفه حقًا بالفيلم الثوري، وفي فيلم “الأم” – المقتبس عن رواية مكسيم غوركي بنفس العنوان – لفيسفولد بودفكين، كما روجت المخرجة الألمانية ليني رفينشتال بدعم من هتلر للدعاية النازية في العديد من أفلامها.
بوستر فيلم “شندلر ليست”
كما أن الاهتمام “الإسرائيلي” بالسينما بدأ منذ المؤتمر الصهيوني الأول بقيادة هرتزل حيث تمت مناقشة استثمار السينما في الدعم والترويج لفكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
الحضور”اليهودي” ملحوظ وبشكل واضح في هوليوود بما تقدمه باستمرار عن الإنسان اليهودي، وتحديدًا عن الهولوكست
والحضور “اليهودي” ملحوظ وبشكل واضح في هوليوود بما تقدمه باستمرار عن الإنسان اليهودي، وتحديدًا عن الهولوكست واضطهاده تاريخيًا في أوروبا، ومن أبرز الأفلام “قائمة شندلر” عام 1993 لستيفن سبيلبرغ والحاصل على سبع جوائز أوسكار، وفيلم “عازف البيانو” عام 2002 لرومان بولانسكي الحاصل على ثلاث جوائز أوسكار.
ولكن هذا لا ينفي وجود أفلام فلسطينية حققت حضورًا عالميًا وحصدت العديد من الجوائز ومنها – مؤخرًا – الفيلم الروائي “عمر” لهاني أبو أسعد، والفيلم الوثائقي “أنا مع العروس” لخالد الناصري، إلا أنه وللأسف لا تصل مثل هذه الأفلام بسهولة إلى المشاهد العادي.
تريلر فيلم “أنا مع العروس”
وفي سياق الحديث عن ضرورة حفظ الذاكرة البصرية، قبل نحو تسع سنوات كنت أعمل على فيلم قصير عن فرقة العاشقين الفلسطينية، تنتجه شركة طيف للإنتاج التليفزيوني ومقرها الأردن لصالح قناة الجزيرة الوثائقية، وحاولت البحث عما يمكن أن يوثق لهذه الفرقة من أرشيف صوتي وبصري بما فيه من حفلات أحيتها الفرقة في العديد من البلدان العربية والأجنبية، وتبين لي وجود أرشيف لهم في دائرة الإعلام والثقاقة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية أو ما تبقى منها في دمشق.
نجحنا يومها وبعد محاولات بما فيها من صعوبة، في إقناع أحد المسؤولين من الفصائل المشرفة على الدائرة بفتح الغرفة التي كانت فيها المواد، وقمنا، بسبب ضياع المفتاح، بكسر الخزائن المكتظة بأشرطة (يوماتيك) يعلوها الغبار، يومها وبعد مشادة طويلة مع الشخص الذي تم إرساله معنا ليشرف على الأمر، لأنه كان يريد فقط تزويدنا بشريط أو شريطين، استطعت الحصول على 5 أو 6 أشرطة لنسخها على أن يتم إعادتها لاحقًا.
بالإضافة إلى ما وجدته من صور للفرقة بل حتى كُتب تعيينهم، والسير الذاتية للعديد من أعضائها، مهملة في أحد الأدراج، وتفاجأت يومها بما شاهدته من أشرطة (ريل) سينمائية في مخزن موجود في الدائرة، وقيل لي يومها إنها ربما تكون لمسلسلات فلسطينية أنتجتها الدائرة وبعض الأفلام، وللأسف لم يتنس لي معرفة محتواها.
شريط “ريل” لفيلم “تل الزعتر”
وقد تكون هذه القصة للإشارة إلى الإهمال والتقاعس في حفظ ذاكرتنا وهويتنا، بل وعدم إدراك لأهميتها، حتى في ظل ما يتوفر منها من مواد ووثائق مهمة، يتم إهمالها حتى تضيع أو تتلف.
لاحقًا وبعد عدة سنوات، بدأت العمل على فكرة فيلم “سينما لم تكتمل”، عن سينما الثورة الفلسطينية، وتحديدًا منذ عام 1968 وحتى منتصف الثمانينات تقريبًا، ولكن للأسف لم يكتب لهذا الفيلم أن يكتمل، لأسباب إنتاجية.
كان لافتًا جدًا خلال عملي، تاريخ السينما الفلسطينية بما فيها من أفلام، حتى ما قبل النكبة، وما فيها من تفاصيل مهمة تستدعي البحث ومحاولة التوثيق خصوصًا بسبب تضارب الروايات حولها.
مؤسسة السينما الفلسطينية
السينما في فلسطين كما في العديد من الروايات، تعود بداياتها إلى عام 1935، على يد إبراهيم سرحان والذي قام بتصوير أول فيلم تسجيلي عن زيارة الملك سعود بن عبد العزيز إلى فلسطين بكاميرا اشتراها آنذاك بمبلغ 50 جنيهًا فلسطينيًا.
علمًا بأن بعض الباحثين الفلسطينيين يعودون بتاريخها إلى ما قبل ذلك، وتحديدًا مع الأخوين إبراهيم وبدر لاما الفلسطينيين الذين كانا عائدين إلى فلسطين من تشيلي، التي هاجرا إليها مطلع القرن العشرين، مع معدات التصوير والتحميض لإنشاء صناعة سينمائية في فلسطين، ولكن بسبب الأوضاع في فلسطين اتجها إلى الإسكندرية حيث كانت الظروف مناسبة لممارسة النشاط السينمائي، وليكون أول فيلم لهما هو ” قُبلة في الصحراء” عام 1927، وليستمر إنتاجهما في مصر من خلال شركة “كوندور فيلم”، وإن كان العديد من الباحثين يعتبرون أنهما لم يساهما في صناعة السينما في فلسطين كونهما لم ينجزا أي فيلم فيها أو عنها.
انتشرت في فلسطين – قبل النكبة – الكثير من دور العرض السينمائية، التي تعرض أفلامًا عربية وأجنبية مثل صالة أديسون وصالة ركس في القدس، وفي حيفا كانت هناك سينما الكرمل وسينما الحمراء في يافا وسينما البرج في عكا وغيرها الكثير.
صورة لسينما الحمراء الشهيرة في يافا عام 1937
وكان هناك مجلة سينمائية متخصصة أصدرها إبراهيم تلحمي في العام 1937 بعنوان “الأشرطة السينمائية” وكانت تصدر باللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى صحف ومجلات أخرى اهتمت بالسينما مثل مجلة “الحقيقة المصور” أصدرها محمد مصطفى غندور عام 1937 في عكا، وصحيفة “الرياضة والسينما” لصاحبها ومحررها جبرائيل شكري ديب، وصدرت في القدس عام 1945، بالإضافة إلى صحف أخرى تهتم بمواضيع متنوعة ومن بينها السينما.
في عام 1945 أسس أحمد حلمي الكيلاني مع جمال الأصفر وعبد اللطيف هاشم “الشركة العربية لإنتاج الأفلام السينمائية”، وأخرج صلاح الدين بدر خان عام 1946 أول فيلم روائي في فلسطين بعنوان “حلم ليلة”
وفي عام 1945 أسس أحمد حلمي الكيلاني مع جمال الأصفر وعبد اللطيف هاشم “الشركة العربية لإنتاج الأفلام السينمائية”، وأخرج صلاح الدين بدر خان عام 1946 أول فيلم روائي في فلسطين بعنوان “حلم ليلة” وعرض في القدس ويافا وعمان.
ويذكر حسان أبو غنيمة في كتابه “فلسطين والعين السينمائية” أن محمد صالح الكيالي الذي درس السينما في إيطاليا كُلف من مكتب الجامعة العربية بإخراج فيلم عن القضية الفلسطينية ولكن الفيلم لم ينجز بسبب نكبة 1948.
ويشير الناقد والباحث السينمائي بشار إبراهيم في مقاله “روايات روّاد السينما الفلسطينية” الذي نُشر على الموقع الإلكتروني للجزيرة الوثائقية “إن ما بين أيدينا عن ولادة السينما العربية في فلسطين، قبل العام 1948، هو مجموعة روايات متضاربة، على الأقل من ناحية الفلسطينيين أنفسهم، وفيما بينهم، خاصة دون توفر وثائق صريحة وحاسمة، فلا الأفلام موجودة، ولا ثمة كتابات واضحة عنها، ولعل فيما حدث لفلسطين من نكبة، المُبرِّر في عدم وجود هذه الوثائق، وفي ضياعها، فضلاً عن الدور الذي لعبه الانتداب البريطاني، قبل النكبة والاحتلال الصهيوني، منذ ذلك الحين”.
بل إن الروايات متضارية وغير واضحة أيضًا عن إبراهيم سرحان نفسه وما إذا كان فعليًا هو من أنجز الفيلم؟ إذ يشير حسان أبو غنيمة في كتابه “فلسطين والعين السينمائية” نقلاً عن المخرج أحمد حلمي الكيلاني إلى أن سرحان كان مساعدًا لجمال الأصفر، وهو فعليًا من أنجز الفيلم عن زيارة الملك سعود لفلسطين.
وعلى الرغم من تضارب الروايات، فإن هذا لا ينفي أنه كانت هناك بوادر صناعة سينمائية فلسطينية قبل عام 1948، وكان يمكن أن تتطور قبل أن يحول بينها وبين ذلك احتلال فلسطين عام 1948.
فيلم “المخدوعون” عن رواية “رجال في الشمس” عام 1972
وحتى عام 1968 لم يكن هناك سوى مساهمات محدودة لعدد من صناع السينما الذين لجأوا إلى عدة دول عربية إثر النكبة، ومنها على سبيل المثال: مشاركة إبراهيم سرحان في إنجاز أول فيلم روائي أردني “صراع في جراش” عام 1958، كما أخرج عبد الله كعوش الفيلم الروائي “وطني حبيبي” عام 1964، وأنجز محمد صالح كيالي عدة أفلام في القاهرة منها فيلمه الوثائقي “قاعدة العدوان” عام 1964، وكذلك أخرج عبد الوهاب الهندي عام 1969 فيلمين روائيين وهما “كفاح حتى التحرير” و”الطريق إلى القدس”، وفي سوريا عام 1969 أخرج كيالي الفيلم الروائي الطويل “ثلاث عمليات داخل فلسطين”.