واحدة من أهم أوجه القصور في الدماغ ميله في بعض الأحيان للكسل على خلق الجديد واعتماده على ما هو سابق، عند محاولتك لحل إحدى مشاكلك أو اتخاذ قرار جديد، قد يلجأ دماغك إلى استخدام ما هو مختصر جدًا بعيدًا عن الغوص في أعماق القرار أو ما وراءه، أو قد يلجأ أحيانًا إلى الحلول والقرارات التي قمت بتجربتها في وقتٍ سابق ووجدتَ أنها تعمل بشكلٍ جيد.
في كثير من الأوقات، قد يكون اللجوء للاختصارات العقلية أمرًا جيدًا، إذ يساعدك على اتخاذ القرارات بسرعة دون الحاجة للتفكير العميق، لكن المشكلة أن مثل هذه الاختصارات والمعروفة في علم النفس بمصطلح “الاستدلال” أو “Heuristic” وهي الآلية التي يلجأ الإنسان من خلالها لحل المشاكل واتخاذ القرارات بسرعة وكفاءة، يمكن أن تؤدي إلى ارتكاب الأخطاء والتحيزات المعرفية “cognitive biases“.
قد نقوم باتخاذ المئات أو الآلاف من القرارات بشكل يوميّ، ماذا سنأكل صباحًا؟ ماذا يجب أن أرتدي اليوم؟ هل آخذ الحافلة أم سيارة أجرة؟ هل أدرس الآن أم أخرج مع أصدقائي؟ في الحقيقة، قائمة القرارات التي تتخذها بها كل يوم لا نهائية ومتنوعة بشكلٍ قد لا تستطيع إحصائه.
تسمح لك آلية الاستدلال الخاصة بدراسة النتائج المحتملة بسرعة والتوصل إلى قرار من شأنه العمل على حل مشكلتك الشخصية
على سبيل المثال، عندما تفكر في أثناء خروجك من المنزل ما إذا كان يجب عليك قيادة سيارتك أو ركوب الحافلة إلى العمل، قد تتذكر فجأة أن هناك عدة مشاريع بنائية في الطريق التي تمرّ منها الحافلة مما قد يبطئ وصولك ويجعلك متأخرًا عن العمل، لذلك تقرر بكل بساطة أن تغادر قبل الوقت المحدد بقليل وتقود سيارتك حتى تصل بالوقت المناسب لمكان عملك؟
آلية الاستدلال الخاصة تسمح لك بدراسة النتائج المحتملة بسرعة والتوصل إلى قرار من شأنه العمل على حل مشكلتك الشخصية.
أنواع الاستدلال
الاستدلال المتاح
أي اتخاذ القرارات بناءً على الأمور والعوامل التي تخطر على عقلك أولًا بكل سهولة، بمعنى أننا في خضم مواقفنا اليومية ومحاولتنا لاتخاذ القرارات قد نتذكر الكثير من الأشياء بسرعة أكبر من غيرها، والتي غالبًا ما تكون مشابهة وذات صلة للموقف الذي نحن فيه، وبما أن هذه الأشياء هي الأكثر سهولةً على ذاكرتك لاستخراجها وجعلها على البال، فإنك على الأرجح سوف تعتقد أنها الأكثر شيوعًا.
على سبيل المثال، في حال كنت على وجه السفر وقررت حجز تذكرة طيران، إلا أنك تقرر فجأة السفر بالسيارة بدلًا من السفر الجوي، لأنه تبادر إلى ذهنك وذاكرتك عددًا من حوادث الطيران الأخيرة، فتشعر بأنك قد تكون معرضًا للخطر، لماذا؟ لأن الأمثلة على الكوارث الجوية كثيرة ويمكن لها أن تتبادر إلى الذهن بسهولة، وبهذا الاستدلال تعتقد أنّ تحطم الطائرات أكثر شيوعًا وحدوثًا مما هو عليه بالواقع.
في حين أن عملية الاستدلال يمكن أن تسرّع من قدرتنا على حل مشكالنا واتخاذ أو صنع قراراتنا، إلا أنها يمكن أن تؤدي إلى أخطاء متفاوتة
مثال آخر قد يوضح فكرة هذا النوع من الاستدلال، لو سألتك أيهما أكبر عددًا في اللغة، الكلمات التي تبدأ بحرف التاء أم الكلمات التي تبدأ بحرف الكاف؟
قد تبدأ بالتفكير بالكلمات التي تبدأ بكلا الحرفين بدايةً، ولنقل أنك قد تستطيع عدّ وإحصاء الكلمات التي تبدأ بحرف التاء أكثر من تلك التي تبدأ بحرف الكاف، إذًا ستجيب فورًا أن عدد كلمات حرف التاء أكثر، قد يكون صحيحًا أو خاطئًا طبعًا، لكنك هنا استعنت بما خطر على بالك بشكلٍ أسرع وأسهل لاتخاذ قرارك بالإجابة.
الاستدلال التمثيلي
ويتضمن اتخاذ القرارات عن طريق مقارنة الوضع الحالي الذي أنت فيه بما يتمثّل في دماغك وذاكرتك عن ذلك الوضع تبعًا لتجارب سابقة وعوامل قد عايشتها في الماضي.
وبطبيعة الحال، فإنّ الاعتماد على التجارب السابقة يمكن أن يكون مفيدًا ويتيح التوصل إلى استنتاجات سريعة، لكنها في كثير من الأحيان قد تفتقد الدقة والمصداقية، في الحقيقة فإنّ اللجوء للتجارب السابقة للحكم على الأشياء واتخاذ القرارات الحالية قد يكون غير جديرٍ بأن يتم تطبيقه على الوقت الحالي والواقع.
في تجربتهم الكلاسيكية، قدم عالما النفس تفرسكي وكانمان الوصف التالي لمجموعة من المشاركين:
“توم دبليو ذو ذكاء مرتفع، إلا أنه يفتقر للإبداع ويحتاج للتنظيم والترتيب، كتاباته مملة نوعًا ما وشبه آلية، يتمتع بكفاءة عالية لكنه لا يحبّذ التفاعل مع الآخرين ويمتلك قليلًا من التعاطف معهم، أنانيّ ومع ذلك لديه حس عالٍ من الأخلاق”
ثم قُسم المشاركون إلى ثلاث مجموعات منفصلة وأُعطيت لكل مجموعة مهمة مختلفة. المجموعة الأولى سُئلت عن مدى تشابه “توم” مع تسعة تخصصات جامعية مختلفة، أي إلى أي تخصص يظن المشتركون أن توم ينتمي أكثر من الآخر، غالبية المشتركين اعتقدوا أن توم أقرب لتخصص الهندسة في حين أنهم استبعدوا أن يكون طالبًا في كلية العلوم الاجتماعية.
طُلب من المجموعة الثانية أن تُعطي نسبًا تقريبية للتخصصات التسع بناءً على احتمال أن يكون توم طالبًا فيها، الاحتمالات التي قدمها المشاركون في هذه المجموعة كانت مشابهة جدًا للردود التي قدمها أولئك في المجموعة الأولى.
في المجموعة الثالثة، وُجه للمشاركين سؤال لا علاقة له بشخصية توم، فقد طلب منهم تقديم نسب مئوية تقديرية لعدد طلاب الدراسات العليا في السنة الأولى في كلٍ من التخصصات التسعة التي أُعطيت للمجوعتين الأولى والثانية.
ووفقًا لنتيجة المجموعة الثالثة، فقد وجد عالما النفس أنّ المشتركين يؤمنون أن عدد طلاب الهندسة قليل نسبيًا مقارنة بعدد الطلاب في الكليات الأخرى، ومع ذلك فقد فضّل المشتركون الاعتقاد بأنّ توم طالبًا في كلية الهندسة وفقًا للمعلومات والأوصاف التي قُدمت إليهم في بداية الدراسة، وبالتالي فقد توصلوا لذلك الاستدلال بناءً على معلومات سابقة في ذاكرتهم عن طلاب الهندسة ومواصفاتهم وميولهم، متجاهلين معلومات أخرى مهمة قد تكون سببًا في تغيير استدلالهم.
يمكن أن تؤدي آلية الاستدلال إلى التمييز العنصري والتحيز، لأنها عملية قائمة على تصنيف الأشياء والأشخاص بناءً على أفكار وتجارب سابقة
الاستدلال قد يؤدي إلى التحيز والتمييز
ففي حين أن عملية الاستدلال يمكن أن تسرّع من قدرتنا على حل مشكالنا واتخاذ أو صنع قراراتنا، إلا أنها يمكن أن تؤدي إلى أخطاء متفاوتة، فحدوث أمرٍ أو شيءٍ في الماضي لا يعني أن تكراره يناسب الحدث الحالي، وقراراتك الناجحة التي اتخذتها فيما مضى لمواقف مشابهة، لا يعني أبدًا أنها ستنجح مرةً أخرى، عوضًا عن أنّ الاستدلال قد يجعل من الصعب رؤية حلولٍ بديلة أو الخروج بأفكار وقرارات جديدة أكثر مناسبة ونجاحًا.
ويمكن أن تؤدي آلية الاستدلال إلى التمييز العنصري والتحيز، لأنها عملية قائمة على تصنيف الأشياء والأشخاص بناءً على أفكار وتجارب سابقة، فلذلك غالبًا ما تجعل الفرد يغفل المزيد من المعلومات ذات الصلة، ويخلق تصنيفات نمطية لا تتفق أبدًا مع الواقع والحقيقة، فعلى سبيل المثال، قد تكون مررتَ بتجربة سلبية أو سيئة مع شخص من مجموعة أخرى، الأمر الذي قد يجعلك عرضةً للحكم على جميع أبناء تلك المجموعة بناءً فقط على تجربتك السابقة مع ذلك الشخص.