في بداية معركة “طوفان الأقصى”، طُلب مني كصحفية إعداد تقرير مصور عن النازحين في مراكز الإيواء، سواء في المستشفيات الحكومية أو عيادات ومدارس وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، التي اعتاد سكان شمال وشرق قطاع غزة النزوح إليها وقت العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كونها أماكن تحظى بأمان نسبيّ.
بعد ساعات قليلة من تكليفي بإعداد التقرير، لم أتخيّل أني سأكون نازحة، خاصة أنني أسكن غرب مدينة غزة، المنطقة التي ينزح إليها عادةً عشرات العائلات من شمال القطاع مع بداية أي تصعيد عسكري، لكن تبدّلَ الحال هذه المرة ونزح سكان المنطقة ومن جاء ليحتمي فيها، بعد التهديد المستمر من قبل جنود الاحتلال عبر أسطوانة مسجّلة كانت تأتي عبر الهاتف المحمول، تدعو إلى ضرورة إخلاء المنطقة تمهيدًا لقصفها بحزام ناري سيقضي على المربعات السكنية.
ولخطورة استخدام السيارات، خرج الجميع على أقدامهم إلى أقرب مركز إيواء، وكان سكان النصر الأكثر حظًّا لوجود 4 مستشفيات متلاصقة هي مستشفى العيون والأطفال والأمراض النفسية والرنتيسي لأطفال السرطان، فوجدوا في ذلك أمنًا وأمانًا، لكن بقيت التهديدات والقصف مستمرَّين حول النازحين، ثم قذف عليهم الاحتلال الفسفور الأبيض.
خرجتُ وبقية سكان البناية التي أسكنها والجيران إلى المستشفيات، نحمل حقائب صغيرة فيها القليل من الملابس والأطعمة المعلّبة والأغطية، فكانت وجهتنا مستشفى الرنتيسي للأطفال.
وصل الجميع بعد دقائق قليلة مشيًا على الأقدام، نبكي شارعنا المعروف بهدوئه لكن هذه المرة حزينًا، فيمينه ويساره وحتى طرقاته جعلها الاحتلال مجنونة، فلم يعد بيت فلان موجودًا بعدما كان دليلًا لتحديد وجهة معينّة لمن يتوه في المنطقة.
كيف تبدو الحياة في مركز الإيواء؟
وصلنا أخيرًا، جيران جدد من المنطقة وآخرون جاءوا من شمال المدينة قُصفت بيوتهم وشبعوا من غاز الفسفور، في المستشفى الذي تحول إلى مركز إيواء، ترى العجوز الذي يحمله أحفاده ليجدوا له ركنًا ينام فيه، والمريض الذي سارع أبناؤه إلى حجز ركن آخر فيه هواء أكثر، أما السيدات اللواتي توحّدت أزياؤهنّ بلباس الصلاة كونه الأسرع عند الارتداء وقت الهرب من الصواريخ، كل واحدة منهن تحمل حقيبة فيها “تحويشة العمر”، من مصاغ ذهبية وأموال ومفتاح البيت وأدوية والقليل من الخبز والمعلبات والمياه.
فجأة امتلأ المشفى بمئات النازحين، وصريخ صغارهم مخلوط بالبكاء، وفي قبو المستشفى جاءت عائلة تقول: “الصاروخ طيّرنا ووقعنا على الأرض”، بينما صغيرهم حمزة الذي لم يتجاوز الـ 5 سنوات بكى كثيرًا وهو يردد: “بحبكم يا ماما ما بدي حد منكم يموت”، بينما شقيقته الأصغر شهد تبكي أكثر وتشدّ بوالدتها تسألها: “بيتنا انقصف؟ يعني ألعابي ماتت”، تحاول الأم طمأنتهما: “سنبني أجمل بيت، ونشتري ألعابًا جديدة”.
هدأ الصغار قليلًا وتعرّفوا إلى بعضهم، ثم ضجَّ المكان بصوت ضحكاتهم وأغاني الكرتون التي حفظوها من يوتيوب، ثم تحول الضحك إلى صراخ وهلع حين قصف الاحتلال مرة أخرى محيط المستشفى، ليحضر الإسعاف مجموعة من المصابين بينهم طفل استحال إلى أشلاء.
مرة أخرى حاول الأهالي السيطرة على صغارهم بقِطَع الحلوى وعبارات الطمأنة، ووعدهم بالذهاب إلى أماكنهم المفضلة فور انتهاء الحرب.
عند المشي بين النازحين قسرًا قصص وحكايا في كل ركن، عند باب العناية المركزة افترشت النساء “كافرته” -غطاء صيفي-، يحملن المصاحف ويقرأن ما تيسّر من آي القرآن الكريم، وفي مقابلهن كبيرات السن تلهج ألسنتهن بالدعاء ويحاولن طمأنة الجميع بالقول: “حنرجع على بيوتنا يما سالمين غانمين تخافوش”.
حين يعرف أحدهم أني أعمل صحفية يكون السؤال: “احكي لنا يا صحفية: هل يوجد هدنة، ما هي أخر الأخبار؟”، أحاول طمأنتهم، لكن “الحجّات” يقطعن الحديث ليجبن: “يا بنشمل يا بلاش”
وفي ركن آخر رجل كبير في السن يحمله ابنه إلى مكان وجده مناسبًا لينام فيه، بعدما وضعه على فراش رقيق جدًّا، ثم راح يضع الماء البارد على ساقيه، بينما ابنه الآخر كان يوفّر له التهوية بورق الكارتون، فيسمعهم: “الله يرضى عنكم يابا، البيت معوض إن شاء الله”، في إشارة واضحة إلى قصف منزلهم.
بينما في زوايا الدرج عائلات تفترش وتنام فمنذ أيام لم تغفَ أعينهم، لكن في المستشفى غفوتهم لم تزد عن 5 دقائق، فكل مرة يفزعون من القصف المحيط لكنهم يتذكرون وجودهم في مستشفى، فيعودون إلى النوم.
تفزع إحداهن من النوم وهي تحتضن طفلَيها، وتقول: “تخيلت ضوءًا أحمر دخل المكان”، في إشارة منها إلى القنابل الضوئية التي تلقيها الطائرات الحربية حين تحدد المنطقة المستهدفة.
أما في الطابق الثالث من المستشفى يرقد الأطفال المصابون بالسرطان في أقسامهم، أحدهم وقف أمام الزجاج الحاجز ينظر إلى هذا العدد الذي تجاوز الـ 1000 شخص، راح يبحث عن الصغار والتلويح لهم، انتبهوا له فنادوه للنزول فأشار إليهم بالنفي، لم يفهموه، حاولوا الصعود إليه لكن باب القسم مغلق كونه معزولًا ولا يمكن الاقتراب منهم، لحمايتهم من رائحة الفسفور والركام التي تعبق ملابس الصغار.
تحليلات الجدّات بفعل انقطاع الأخبار
وعن الزاد والزواد، لا ينسى الغزيون مونتهم، فقد تعلموا منذ أيام النكبة ألا يغادروا دون مياه وطعام أساسي كالخبز والجبن والتمور، وفي المكان يتقاسمون الطعام فيما بينهم، تناديك سيدة سبعينية لتسأل: “معك خبز يا خالتي؟ لو ناقصك شي في كتير وبزيادة”.
بينما سيدة كبيرة تحاول تلطيف الأجواء حين ترى العيون تراقب بعضها والسؤال واحد: “هل يوجد هدنة؟”، فتحمّسهم وتقول: “يلا نرجع على الجورة (قرية فلسطينية محتلة)، ما بدنا هدنة خلينا نكمل للأخير ونرجع على بلادنا”، ثم تضحك كثيرًا وتردد أغاني وطنية تثير حماسهم.
ما كان مقلقًا في هذه الحرب هو عدم معرفة تفاصيل الأحداث أو معرفة أحوال الأهل والأقارب، بسبب انقطاع الكهرباء والإنترنت
وغالبًا يتخذ الرجال من بوابة المشفى مكانًا لهم يراقبون الطائرات، ويحاولون العثور على أي شبكة إنترنت علّهم يعرفون خبرًا عن هدنة قريبة هنا أو هناك.
يحاول الصغار الذين غلبهم النوم اللعب قليلًا قرب البوابة، أحد الآباء ينهر ابنه: “روح عند أمك”، فيردَّ صغيره: “والله ما تخاف ما راح أموت”، فالصغار على ما يبدو أدمنوا على أخبار الموت ولم يكترثوا له.
أما دورة المياه كانت اثنتَين لا أكثر، والموقف حدّث ولا حرج، يصطفّ الجميع على الدور يضحكون ويسخرون من الواقع، وكأنها بروفة للنكبة الثانية التي حكاها الأجداد لهم.
ولا أنسى حين كنت أرصد المشاهد التي لا يزال الكثير والكثير منها عالقًا في الذاكرة ويحتاج إلى تقارير أكثر لتدوينها، وحين يعرف أحدهم أني أعمل صحفية يكون السؤال: “احكي لنا يا صحفية: هل يوجد هدنة، ما هي أخر الأخبار؟”، أحاول طمأنتهم، لكن “الحجّات” يقطعن الحديث ليجبن: “يا بنشمل يا بلاش”، في إشارة إلى شمال فلسطين للعودة إلى البلاد التي هجّرن منها، ويرفضن الأكذوبة التي يروج لها الاحتلال بترحيل الغزيين إلى سيناء.
ما كان مقلقًا في هذه الحرب هو عدم معرفة تفاصيل الأحداث أو معرفة أحوال الأهل والأقارب، بسبب انقطاع التيار الكهربائي وفصل خطوط الإنترنت وتعطُّل في شبكة الاتصالات، بعد قصف الاحتلال لمبنى الاتصالات.
– كتبتُ هذا النص على وقع الصواريخ الحربية وقذائف الهاون التي تنزع الروح من الجسد، لكن هذه المرة دون خوف كوني جلست في مستشفى، ووفق القانون الإنساني من المفترض عدم المساس بالمرافق الصحية، لكن بعد ساعات قليلة من كتابته غادرتُ المستشفى نازحة مرة أخرى إلى منطقة بعيدة جنوب القطاع، بعد تهديدات بقصف المستشفى مرة أخرى، وما ذُكر هو القليل والقليل من واقع مزرٍ لا يمكن أن توضّحه حتى كاميرات التلفاز.