كوكب التنس، المايسترو، الأسطورة الحية، أيقونة التنس، كل تلك الألقاب والأسماء وغيرها أسبغت على نجم التنس السويسري روجر فيدرير، الذي أبهر العالم بأدائه الراقي ومهاراته الاستثنائية التي قادته للانفراد بالرقم القياسي التاريخي في عدد مرات الفوز ببطولات التنس الكبرى “غراند سلام”، بإحرازه 17 لقبًا في الفترة الممتدة بين عامي 2003 و2012، قبل أن يبتعد عن الألقاب الكبرى مدة 4 سنواتٍ ونصف تقريبًا، ظن خلالها معظم النقاد والمتابعين بأن نجمه آيلٌ للأفول، وشعلته آخذةٌ في الخبو، وأنه في طريقه لتعليق مضربه وإعلان اعتزاله اللعبة.
وفجأةً، نهض البطل من غفوته، ونفض غبار سنوات عمره التي ناهزت الـ36، وسجل عودةً تاريخيةً رسخت مكانته كأسطورةٍ للعبة، من خلال سيطرته على معظم ألقاب التنس منذ مطلع عام 2017، مثبتًا بأن الذهب العتيق لا يصدأ، وأن عدد سنوات العمر ما هي إلا أرقامٌ واهية، ليس لها أن تقف في وجه طموح المرء وإرادته.
أولى البطولات الكبرى لفيدرير تحققت في ويمبلدون عام 2003
وبدايةً، نذكر بأصول النجم وبداياته، حيث ولد في مدينة بازل السويسرية يوم 8 من أغسطس من عام 1981، وبدأ مشواره الاحترافي مع الكرة الصفراء منتصف عام 1998، تمامًا عقب تتويجه بلقب بطولة ويمبلدون للناشئين، وقد استغرق فوزه بأول ألقابه ضمن سلسلة بطولات محترفي التنس نحو 3 سنوات، حين توج بلقب بطولة ميلانو الإيطالية عام 2001، وبعدها بعامٍ واحد تقريبًا، حقق فيدرير أول ألقابه في سلسلة بطولات الماسترز ذات الـ1000 نقطة، وكان في بطولة هامبورغ الألمانية، قبل أن تُفتح أمامه أبواب الشهرة والنجومية في العام التالي، عندما تُوج بأول ألقابه الكبرى، بإحرازه لقب بطولة ويمبلدون البريطانية العريقة لعام 2003.
فيدرير بقي في صدارة تصنيف محترفي التنس مدةً قياسية بلغت 302 أسبوعًا
ولم تكن تلك القطرة سوى أول الغيث، حيث تتالت البطولات والألقاب على مدى 9 سنوات، شكلت الحقبة الذهبية في تاريخ المايسترو السويسري، فحقق 17 لقبًا في البطولات الكبرى، منها 4 في أستراليا المفتوحة أعوام: 2004 و2006 و2007 و2010، و5 متتاليةٌ في أمريكا المفتوحة بين عامي 2004 و2008، ولقبٌ وحيدٌ في رولان غاروس الفرنسية عام 2009، فضلًا عن 6 ألقابٍ جديدةٍ في بطولته المفضلة ويمبلدون، جاءت أعوام: 2004 و2005 و2006 و2007 و2009 و2012.
كما أحرز فيدرير خلال حقبته الذهبية ألقاب العديد من بطولات الماسترز ذات الـ1000 نقطة، في ملاعب سينسيناتي وإنديانا ويلز وهامبورغ وميامي ومدريد وتورونتو وباريس، وحقق لقب بطولة الأساتذة الختامية، التي تجمع أفضل 8 لاعبين خلال الموسم، 6 مراتٍ بين عامي 2003 و2011، محطمًا الرقم القياسي التاريخي الخاص بالبطولة، ومكث في صدارة تصنيف محترفي التنس مدةً قياسيةً بلغت 302 أسبوعًا، منها 237 أسبوعًا متتاليًا!
ومثّل تاريخ 29 من أكتوبر لعام 2012، نهاية الحقبة الذهبية للنجم السويسري، حيث فشل من وقتها في استعادة صدارة ترتيب محترفي التنس، الذي تناوب عليه منافسوه الـ3 الكبار، الصربي نوفاك دجوكوفيتش والإسباني رافائيل نادال والبريطاني أندي موراي، كما فشل في تحقيق المزيد من ألقاب البطولات الكبرى، رغم تأهله إلى 3 نهائياتٍ، منها اثنان في ويمبلدون عامي 2014 و2015، وواحدٌ في أمريكا المفتوحة عام 2015، وقد خسرها جميعًا أمام العملاق الصربي دجوكوفيتش.
كما خسر نهائي فردي الرجال في أولمبياد لندن أمام البريطاني موراي، لتقتصر إنجازاته المهمة خلال 4 سنواتٍ، على 3 ألقابٍ في بطولات الماسترز ذات الـ1000 نقطة، منها اثنان في سنسيناتي عامي 2014 و2015، ولقبٌ وحيدٌ في شنغهاي عام 2014، علمًا بأنه ابتعد عن ملاعب الكرة الصفراء تمامًا مدة 6 أشهر، بدءًا من منتصف العام الماضي، نتيجة تأثره بإصابةٍ بليغةٍ في الركبة، اضطر على إثرها للخضوع إلى تدخلٍ جراحي، لينهي عام 2016 وهو في الترتيب الـ17 بين محترفي التنس في العالم! وهو المركز الأسوأ له منذ صعوده.
فيدرير حاملًا كأس بطولة أستراليا الكبرى لعام 2017
وعاد فيدرير إلى الملاعب مطلع العام الحالي، مع توقعاتٍ عريضةٍ باستمرار ابتعاده عن الألقاب، وقرب اعتزاله مع مناهزته سن الـ36، ولكن ما حصل كان العكس، إذ استعاد المايسترو شبابه وحيويته، وأعاد إلى الأذهان توهجه الماضي في بطولة أستراليا الكبرى، بعدما أزاح من طريقه 3 مصنفين من الـ10 الأوائل، هم التشيكي توماس بيرديتش والياباني كي نيشيكوري ومواطنه السويسري ستان فافرينكا، ليبلغ نهائي أولى بطولات غراند سلام لهذا العام، ويجد في مواجهته خصمًا عنيدًا عائدًا بعد غياب، هو الماتادور الإسباني رافائيل نادال، الذي تعاون معه على تقديم وجبةٍ دسمةٍ، روت ظمأ عشاق رياضة التنس، وأحضرت ذكرى منافساتهما القديمة، التي تعتبر من كلاسيكيات التنس المرموقة.
وفي نهاية الملحمة التي استمرت 3 ساعاتٍ و38 دقيقة، استطاع المايسترو السويسري حسم الفوز بعد عناءٍ كبير، بنتيجة 3 مجموعاتٍ مقابل مجموعتين، ليحقق لقبه الأول في البطولات الكبرى منذ عام 2012، ويرفع رقمه القياسي في عدد مرات إحرازها إلى 18، بفارق 4 ألقابٍ عن ملاحقه الإسباني نادال.
فيدرير حقق مؤخرًا لقب بطولة ميامي الأخيرة على حساب رافا نادال
ولم يكتفِ النجم السويسري العائد بذلك الإنجاز، بل تابع تقديم مستوياته المدهشة، ونجح في حصد لقب بطولة إنديانا ويلز، أولى بطولات الماسترز لهذا العام، بفوزه في النهائي على مواطنه فافرينكا، قبل أن يحقق لقبه الـ26 في بطولات الماسترز، بفوزه بلقب بطولة ميامي منذ أيام، على حساب نده الإسباني نادال، ليرتقي إلى المركز الرابع في ترتيب محترفي التنس العالمي الصادر في 3 من أبريل، خلف كلٍ من البريطاني موراي والصربي دجوكوفيتش والسويسري فافرينكا.
لعنة الإصابات كانت سببًا رئيسيًا في ابتعاد فيدرير عن الألقاب
وإذا بحثنا عن أسباب تلك العودة المذهلة لكوكب التنس السويسري، نجد في مقدمتها ابتعاده عن الإصابات، والتي شكلت العائق الأبرز أمامه خلال السنوات الماضية، إذ أدرك المايسترو أخيرًا أنه لم يعد في الـ24 من عمره، وبالتالي فمن الصعوبة بمكانٍ أن يشارك في جميع بطولات الموسم كما كان يفعل إبان حقبته الذهبية، وهو ما دعاه للتصريح مؤخرًا بأنه سيغيب عن المشاركة في موسم الملاعب الترابية كاملًا، فيما عدا بطولة رولان غاروس، وذلك في سبيل منح جسده الراحة اللازمة، مما يجنبه خطر الإصابات اللعينة.
تراجع مستوى نوفاك دجوكوفيتش وأندي موراي ساهم في عودة فيدرير إلى الواجهة
ثاني الأسباب الكامنة وراء عودة فيدرير، يكمن في تراجع مستوى أبرز عمالقة التنس في الأعوام الأخيرة، وهما الصربي نوفاك دجوكوفيتش والبريطاني أندي موراي، حيث خفت بريق النجم الصربي بشكلٍ واضحٍ عقب فوزه التاريخي بلقب بطولة رولان غاروس العام الماضي، وبدا أنه فقد جزءًا كبيرًا من شغفه وتعطشه للبطولات، وهذا ما يعاني منه النجم البريطاني أيضًا، والذي بدا وكأنه يحمل عبئًا ثقيلًا على كاهله، منذ تبوأه صدارة تصنيف محترفي التنس للمرة الأولى في تاريخه قبل عدة أشهر، ذلك التراجع منح الضوء الأخضر للمايسترو لاستعادة الثقة، والعودة إلى الواجهة خلال البطولات الـ3 الماضية التي ابتعد غريماه عن أجواء المنافسة فيها، سواءً بسبب الخروج المبكر أو الانسحاب.
بفوزه في أستراليا، عزز فيدرير رقمه القياسي في عدد مرات الفوز ببطولات غراند سلام برصيد 18 لقبًا
ويبقى السبب الأبرز والعامل الأكثر حسمًا في عودة المايسترو السويسري إلى سابق عهده، هو عامل التحدي وإثبات الذات، وهذا ما عبر عنه بوضوحٍ من خلال تصريحه الذي تلا تتويجه بلقب بطولة أستراليا، عندما قال بأن اللقب جاء في الوقت الذي شكك فيه البعض بقدرته على العودة لحصد البطولات، بعد إصاباته المتكررة وتقدمه في السن، ويبدو بأن ذلك الاستخفاف كان له مفعول السحر على المايسترو، فشحذ عزمه واستنهض همته، ليصبح قادرًا على إيقاظ روح البطولة الكامنة في جوارحه، والعودة إلى طريق الانتصارات والإنجازات التي توجته أسطورةً للكرة الصفراء عبر تاريخها.