الاجتياح البري لغزة.. كابوس الفشل يُرعب الإسرائيليين

يترقب العالم بين الساعة والأخرى تطورات المشهد في قطاع غزة بعدما حولته آلة التدمير العسكرية الإسرائيلية إلى أطلال مخضبة بدماء المئات من أبناء الشعب الفلسطيني ارتقوا على أيدي جيش الاحتلال الذي دمر الحجر والبشر ويخطط لإبادة ما تبقى من الغزاويين وهدم البنايات التي فلتت من قاذفات الطائرات الحربية حتى الآن.
استعدادات مكثفة يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذ هجوم بري محتمل استكمالًا لسياسة الأرض المحروقة التي يتبناها جنرالات الكابينت الإسرائيلي، بعد الضربة المؤلمة التي وجهتها المقاومة الفلسطينية له في 7 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ وخلفت وراءها حتى كتابة تلك السطور أكثر من 1300 قتيل إسرائيلي من بينهم 286 ضابطًا وجنديًا في صفوف الجيش.
الجيش الإسرائيلي: سوف نصفي كل من شارك في الهجوم على إسرائيل#الجزيرة_مباشر #غزة #غزة_لحظة_بلحظة pic.twitter.com/7haJsUyQdT
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) October 16, 2023
ودفعت تلك الضربة التي لم يتعرض لها الاحتلال منذ عام 1948 إلى تغذية روح الانتقام في محاولة لرد الاعتبار لكرامته التي لُطخت في التراب، وسط دعم غربي غير مسبوق، ما أدى إلى ارتقاء 2750 شهيدًا فلسطينيًا وأكثر من 10 آلاف مصاب، وسط مخاوف من كارثة إنسانية مروعة يتعرض لها قطاع غزة، تضع حياة مليوني فلسطيني على المحك، بين شهيد ونازح ومصاب.
سجال حاد بين العسكريين والسياسيين داخل الشارع الإسرائيلي إزاء عملية الاجتياح البري بصيغتها المعلنة من جيش الاحتلال، بين إصرار على تنفيذها أيًا كانت المخاطر وفي أسرع وقت، والمخاوف من احتمالية ما يمكن أن يتمخض عنها من تداعيات يتأثّر بها الكيان الإسرائيلي بشكل كامل، وتحول الهجوم من وسيلة لرد الاعتبار إلى تدمير ما تبقى من الصورة الذهنية التي تروج لها تل أبيب منذ احتلالها بأنها القوة التي لا تقهر والجيش الذي لا يمكن اختراقه.
ماذا تريد “إسرائيل” من العملية البرية؟
تحاول “إسرائيل” من خلال إصرارها على اجتياح غزة بريًا إلى تحقيق حزمة أهداف:
عسكريًا: البعد الأبرز والأهم بنسبة كبيرة، وهو رد الاعتبار للمنظومة العسكرية الإسرائيلية التي طالما روجت الآلة الإعلامية في داخل الكيان وخارجه على أنها لا تقهر، فالضربة التي تعرضت لها في السابع من الشهر الحاليّ حولتها من مثار الإعجاب والتقدير إلى السخرية، بعدما تلاعبت بها حركة حماس ونسفت جدارها الهش في دقائق معدودة.
ولعل حالة الانتقام التي تخيم على أداء الجيش الإسرائيلي خلال الأيام الماضية تعكس عمق الجرح الذي أحدثته المقاومة، ودفع قوات الاحتلال إلى ما يسمى بـ”التلويش” يمينًا ويسارًا لاستعادة كرامته المهدرة، وصل الأمر إلى تراجع زخم قضية الرهائن والأسرى وعدم النظر إليها كعقبة في طريق أي عملية عسكرية داخل القطاع، عكس ما كان معمولًا به في السابق.
أمنيًا: لا يختلف كثيرًا عن البعد العسكري، وهو توسعة مساحة المنطقة المعزولة بين غلاف غزة ومناطق التماس الفلسطيني في القطاع، وهو ما تتناقله بعض التقارير الإعلامية من أن الحكومة الإسرائيلية تسعى لتفريغ مساحة تتأرجح بين 2 إلى 3 كيلومترات من بداية الغلاف إلى داخل العمق الفلسطيني في القطاع، الأمر ذاته على الحدود مع لبنان، بما يعزز الوضعية الأمنية لسكان المستوطنات القابعة في الغلاف، ويجعلهم نسبيًا بمأمن عن صواريخ المقاومة.
عاجل | الجيش الإسرائيلي: تفعيل خطة لإجلاء سكان 28 بلدة بالشمال على مسافة تصل إلى 2 كيلومتر من الحدود اللبنانية#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/HLPCOU22kC
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) October 16, 2023
سياسيًا: يعلم رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أن رصيده السياسي بدأ ينفد بصورة كبيرة منذ صبيحة السابع من الشهر الحاليّ، والحل الوحيد لبقائه على قيد الحياة السياسية هو تحقيق انتصار كبير يداري به عورة فشله، وليس أمامه إلا اجتياح غزة وتعزيز سياسة الأرض المحروقة لتبريد الشارع الإسرائيلي الثائر ضده بسبب عملية “طوفان الأقصى”.
وهنا تتلاقى رغبة نتنياهو مع رغبة الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يحاول هو الآخر توظيف المشهد لصالح حسابات دعائية انتخابية تعزز من شعبيته المتراجعة داخليًا بسبب فشله الاقتصادي والسياسي، فلأول مرة يتفق الطرفان على موقف واحد، بعد أشهر عدة من الجفاء بين الحكومتين، وعليه يرى الرجلان أن الاجتياح الغاشم لغزة سيخدمهما، كل في موقعه.
ارتباك وتردد
في 14 من الشهر الحاليّ، وبعد أسبوع تقريبًا من انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، أعلن جيش الاحتلال عن عملية برية موسعة داخل القطاع، ونقلت “رويترز” عن المتحدث العسكري باسم الجيش أن القوات مستعدة استعدادًا كاملًا، منوهًا أن الهدف هو تدمير قدرات حماس بالكامل، مطالبًا سكان شمال غزة بمغادرة منازلهم وعدم العودة إلا حين يطلب منهم ذلك.
وبدأ جيش الاحتلال في تعزيز قواته على مداخل ومخارج القطاع كافة، إيذانًا بقرب عملية الاجتياح، وأعطى السكان هناك مهلة للمغادرة، محذرًا – عبر منشورات قذفتها طائراته الحربية – من مغبة الوجود في المنازل والبقاء في القطاع الذي سيتحول إلى كومة رماد كما أشار البعض في ضوء المؤشرات الأولية.
لكن فوجئ الجميع بإرجاء عملية التوغل لعدة أيام، بسبب – وفق ما أعلنت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية – الظروف الجوية السيئة، حيث نقلت عن 3 ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي، لم تكشف عن هويتهم، أن الهجوم كان يفترض أن يكون نهاية الأسبوع الماضي لكن تم تأجيله بسبب السماء الملبدة بالغيوم التي تصعّب من مهمة توفير غطاء جوي للقوات البرية.
#الأمم_المتحدة تؤكد أن #غزة تشهد “كارثة إنسانية غير مسبوقة”#غزة_تحت_القصف https://t.co/314U7Ogww8
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) October 16, 2023
لم تكن الظروف الجوية وحدها السبب وراء تأجيل عملية الاجتياح، فحالة التردد والارتباك التي تعاني منها حكومة الطوارئ المشكّلة مؤخرًا، تعيق عملية اتخاذ القرار سريعًا، خاصة في ظل عدم الجاهزية الكاملة، والمخاوف من تبعات تلك الخطوة حال فشلها، بجانب انتظار أكبر مستوى ممكن من الحشد السياسي الدولي لإعطاء الضوء الأخضر لـ”إسرائيل” لتنفيذ اجتياحها للقطاع.
كما أن الأوضاع المتوترة على الحدود اللبنانية ودخول حزب الله على خط المواجهة بين الحين والآخر، أحد العوامل التي ساعدت على زيادة حالة الارتباك تلك، فشتان شتان بين الدخول على خط مواجهة واحد والدخول على مسارات متعددة الجبهات، خاصة إذا ما تدخلت الجولان على الخط، الأمر الذي أجبر جيش الاحتلال على التريث قبل بدء عملية التدخل البري.
سجال سياسي عسكري
رغم تشكيل حكومة حرب، بانضمام الجنرالين بيني غانتس وغادي آيزنكوت، بجانب وزير الأمن الحالي يوآف غالانت، فإن عملية الاجتياح لم تُحسم بعد بشكل نهائي، في ظل سجال بين السياسيين والعسكريين بشأن الخطوة وتبعاتها وقدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق الأهداف الكاملة من وراء التوغل البري.
ويشير محلل الشؤون الحزبية في صحيفة “هآرتس” يوسي فيرتر، إلى أنه رغم الإجماع على ضرورة العملية والاتفاق بشأنها بصفة عامة، فهناك مخاوف كبيرة على المستوى السياسي من تداعياتها، وتباين كبير في وجهات النظر بشأن الأهداف المتوقعة وقدرة الجيش على تحقيقها، في ظل التحذيرات من مغبة الفشل في ذلك واحتمالية تعزيز ثورة الغضب على الحكومة وقيادتها، خاصة أن الأخيرة حتى الساعة ترفض تحمل المسؤولية وتلقي بالكرة في ملعب المنظومة الأمنية والعسكرية.
وهناك 5 محاور أساسية تعزز من هذا السجال وتضعه كعقبة مؤقتة أمام تنفيذ العملية بالسرعة المطلوبة والمعلن عنها:
الأول: مدى الاستعداد الكافي.. هناك شكوك تساور بعض الساسة بشأن عدم الاستعداد الكامل للقيام بعملية كتلك، رغم التسليح الهائل والدعم الكبير من أمريكا وأوروبا، حيث نجحت حماس وبقية فصائل المقاومة في تبني تكتيكات وإستراتيجيات عسكرية متطورة كفيلة بأن تورط جيش الاحتلال إن لم يأخذ في حسابه كل الاعتبارات، وهنا يتساءل الشارع الإسرائيلي: كيف للجيش الذي فشل في القبض على قادة المقاومة طيلة 9 أيام كاملة أن ينجح في ذلك عقب دخول بري، في ظل الفشل الاستخباراتي في تحديد أماكن اختبائهم وما يترتب على ذلك من مفاجآت؟
الثاني: المدة الزمنية المحددة.. ليس هناك تصور كامل عن الوقت الكافي لإنهاء العملية البرية، وهو ما يعني أن كل السيناريوهات متاحة، فقد تستمر لأيام وربما أسابيع وقد تمتد إلى شهور طويلة كما حدث في عملية السور الواقي في الضفة عام 2002، وهو ما لا تتحمله “إسرائيل”، عسكريًا وسياسيًا، كما قد يتسبب في فتور الدعم الغربي المقدم إذا تجاوزت المدة حدودها المقبولة، فضلًا عما يمكن أن يترتب على إطالة أمد العملية من تداعيات عكسية على القوات الإسرائيلية، سياسيًا وأمنيًا، بجانب قدراتها الاقتصادية.
الثالث: إمكانية حسم المعركة بشكل كامل.. العملية البرية الكاملة للقضاء على حماس والفصائل وفق ما ذكر قادة “إسرائيل” تتطلب تمشيط كل منزل وكل حارة وكل شارع، فوق الأرض وتحتها من أنفاق ومخابئ يجهلها جيش الاحتلال، ما يعني أن العملية ستتحول إلى حرب شوارع ومدن، وهو أمر شاق ومعقد، لا سيما أن المقاومة أكثر تمرسًا لهذا النوع من المعارك من الإسرائيليين، ما يجعل من الحسم المبكر والكامل أمرًا مشكوكًا فيه.
ومن هنا فإن الشكوك في معظمها الآن تنصب في هذا السياق، عدم قدرة جيش الاحتلال على الحسم الكامل والسريع، وعليه يتساءل الإسرائيليون اليوم: إذا كان الجيش قد فشل في مواجهة قادة حماس على الحدود في المناطق المفتوحة، فكيف له أن يتعامل معهم في أرضهم وعلى مسارح طالما أجادوا فيها وحققوا انتصارات كبيرة؟
رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الأسبق، إيهود #باراك: "لا يمكننا القضاء على حــمـ..ـاس بالكامل..حــم…ــاس أيديولوجية، إنها موجودة في أحلام الناس، قلوبهم، وفي رؤوسهم".
صدق وهو كذوب#غزة_الآن #غزة_تزحف_الى_القدس #غزة_تقصف_والأوبرا_تعزف #غزه_تحت_القصف_ pic.twitter.com/TsShRbD6Py
— أحمد حفصي || HAFSI AHMED (@ahafsidz) October 16, 2023
رابعًا: سوء تقدير إمكانات حماس ورد فعلها.. يتخوف كثير من ساسة الاحتلال من عنترية التصريحات الصادرة عن قادة الجيش وجنرالاته بشأن سحق حركة المقاومة الفلسطينية وإبادتها بالكامل، حيث يقرأها البعض في سياق المبالغة والحرب النفسية التي تشنها “إسرائيل”، وهو ما فندته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول حين لقنت الجيش الإسرائيلي درسًا قاسيًا في فنون القتال ولطخت صورة المنظومة الأمنية الإسرائيلية في مجملها.
التخوف الأبرز هنا أن تتحول العملية البرية إلى مستنقع للجيش الإسرائيلي لا يمكن الخروج منه، وأن ينقلب الهدف من البحث عن انتصار يرمم الجراح إلى الغوص في وحل هزيمة نكراء تطيح بالحكومة والجنرالات معًا، وتفرض حالة من التشكيك والاضطرابات الداخلية بين أطياف المجتمع الإسرائيلي، بجانب إعلاء قيمة ومكانة حماس في القطاع واحتمالية تمددها خارجه.
خامسًا: القلق من مغبة الشخصنة.. رغم كل تلك التحفظات فإن نتنياهو وائتلافه الحكومي يصرون على إنجاز المهمة، يقينًا منهم أنها الحل الأخير لإنقاذ مستقبلهم السياسي الذي بات على المحك بعد “طوفان الأقصى”، ومن هنا جاءت الهرولة لإتمام الاجتياح بأي طريقة كانت ودون أي اعتبار لحسابات الإقليم والمجتمع الدولي.
ليس لدى نتنياهو أي حرج في تكرار تجربة مناحم بيجين عام 1982 حين تسبب اجتياح الدولة اللبنانية في مقتل أكثر من 320 إسرائيليًا وفقد العشرات، ورغم اضطراره لتقديم استقالته حينها بسبب تلك الخسائر، فذلك لا يمثل أي مشكلة لدى نتنياهو الذي لا يمانع مطلقًا في شن العملية وهناك عشرات الرهائن الإسرائيليين في قبضة حماس داخل القطاع.
البعض قد يرى أن طموحات نتنياهو الشخصية تتناغم وأهداف “إسرائيل” القومية من حيث ضرورة رد الاعتبار وترميم الشروخ التي أحدثتها عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن هناك صوتًا آخر ربما يرى في ذلك تعريض أمن إسرائيل للخطر بسبب رغبة رئيس الحكومة في تحصين منصبه واسترداد شعبيته المتراجعة.
على كل حال فإن المشهد الآن مفتوح على الاحتمالات كافة، مساعٍ حثيثة للانتقام في أسرع وقت، في مقابل استعداد ميداني كبير من المقاومة بحسب تصريحات قادتها، ليبقى القطاع مهيأ تمامًا لمعركة قد تعيد ترتيب خريطة المنطقة خلال السنوات المقبلة، معركة لا يجد فيها المحتل حرجًا في إنهاء حياة مليوني شخص انتقامًا من بضعة مئات من المقاتلين مرغوا أنفه في التراب وجردوه من شعارات القوة الجوفاء التي طالما تشدق بها وأخاف بها جيرانه وحلفاءه معًا.