خصصت الموازنة العامة المصرية للعام المالي المقبل 2017/2018 أكثر من ثلث نفقاتها أي ما يعادل 382 مليار جنيه لخدمة الديون، وذلك بعد أن ارتفعت نسبة الدين العام لتصل إلى 131% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2016، بحسب البنك المركزي المصري، متخطيًا بذلك الناتج المحلي الإجمالي والحدود الآمنة عند 60% وفقًا لصندوق النقد.
يعد ارتفاع حجم الدين العام من المؤشرات الاقتصادية السلبية، لأنه يدفع الحكومات إلى طبع أموال جديدة “البنكنوت”، وبالتالي ارتفاع مستوى التضخم وعزوف المستثمرين، وبالتبعية ارتفاع معدل البطالة وتدهور المستوى المعيشي للمواطنين.
يمثل الدين العام مصدرًا من مصادر الإيرادات العامة، تلجأ إليه الدولة لتمويل نفقاتها العامة، عندما تعجز عن توفير إيرادات أخرى لا سيما من الضرائب، فتقترض إما من الأفراد أو هيئات محلية أو دولية أو دول أجنبية، من خلال طرح أذون وسندات خزانة أو سندات دولية أو الاقتراض المباشر.
الاقتراض لتمويل عجز الموازنة، يؤدي إلى تضاعف أعباء خدمة الدين عامًا بعد عام، وهو ما يعد نفقات إضافية في الموازنة، ومع سوء إدراة الدين يزداد عجز الموازنة أيضًا، وبذلك يستمر الدين العام في الزيادة من خلال حلقة خبيثة مفرغة لا تبقي ولا تذر
من بديهيات الاقتراض العام، أن يكون استخدام القرض في مجالات ذات جدوى اقتصادية واجتماعية لكي تكون لديه القدرة على تحقيق تدفقات نقدية تمكن من المقدرة على سداده، مثل أي فرد يقترض فإنه يستثمر القرض في مشروع يدر عليه ربحًا يمكّنه من تحقيق أرباح، فضلاً عن سداد مستحقات القرض، وهذا ما نراه غائبًا في القروض المصرية، التي تتسم سياسة الحكومة فيها بالاقتراض من أجل ترقيع القروض، في ظل إصابتها بالحول التنموي وغياب الأولويات.
يؤثر الاقتراض خاصة الداخلي منه على الاستثمار، حيث إن طروحات الحكومة من أذون وسندات، تزاحم القطاع الخاص في الحصول على التمويل اللازم من المصارف والبنوك، التي تفضل الاستثمار في أدوات الدين الحكومي لانعدام الخطورة بها وارتفاع معدل عائدها، ولهذا الأمر تبعات أسوأ تأثيرًا، حيث إن الحكومة ترد دين البنوك من خلال طبع نقود جديدة “البنكنوت”، تضخ في السوق أمولًا لا يقابلها إنتاج حقيقي، وبالتالي زيادة أسعار كل السلع والخدمات، ما يسمى بـ “التضخم”.
كل مواطن وافد لم يبلغ من العمر يومًا واحدًا محملًا بدين بقيمة 44.716 ألف جنيه
الاقتراض لتمويل عجز الموازنة، يؤدي إلى تضاعف أعباء خدمة الدين عامًا بعد عام، وهو ما يعد نفقات إضافية في الموازنة، ومع سوء إدراة الدين يزداد عجز الموازنة أيضًا، وبذلك يستمر الدين العام في الزيادة من خلال حلقة خبيثة مفرغة لا تبقي ولا تذر، كما أن زيادة مخصصات خدمة الدين تحرم المواطنين من التمتع بحقوقهم تجاه الدولة، وهذا ما نراه جليًا في واقعنا الحالي، فالخدمات الصحية متدهورة والتعليمية منتهية الصلاحية وقس على ذلك.
الاستدانة تعدٍ سافر على حقوق الأجيال اللاحقة، إن كل مواطن وافد لم يبلغ من العمر يومًا واحدًا محملًا بدين بقيمة 44.716 ألف جنيه، وهو مبلغ قابل للزيادة في ظل اقتراض الحكومة الذي يغلب عليه سد عجز الموازنة وليست إقامة مشروعات استثمارية يمتد نفعها للأجيال المقبلة.
عندما يتحول الاقتراض إلى غاية للحكومة ولا سيما الخارجي، يمثل صورة من صور الاستعباد للمواطن المصري في الداخل، واستعباد للوطن كافة بما فيه من ثروات وسيادة للخارج، كما يفتح الباب على مصراعيه لجدولة الديون بفائدة مغالى فيها، والوقوع في فخ الإفلاس.
في ظل الإفراط في الاقتراض، ومع افترض بقاء الوضع الاقتصادي المتردي، من انخفاض الموارد الدولارية وتمدد العسكر الاقتصادي ومزاحمتهم القطاع الخاص الذي أصابه الانكماش والتأثير السلبي لذلك على الإنتاج والبطالة، فإن النتيجة الطبيعية الاقتراض بفائدة مبالغ فيها لانخفاض التصنيف الائتماني، والمقرضين جاهزين لتوريط مصر كما حدث في عهد إسماعيل، ووقتها لن يكون أمام الحكومة سوى التوقف عن الدفع وإعلان إفلاس مصر.
إن علاج هذه الأزمة يستلزم وجود إرادة سياسية وطنية وإدارة رشيدة تغلق أبواب الفساد، والاعتراف بأزمة الدين العام، وصدماتها المالية المتوقعة، ووضع أهداف واضحة لإدارة الدين
إن أزمة الدين العام المصري يعكسها تزايد الدين من سنة إلى أخرى، والخلل التنموي في استخدام القروض في مشروعات باهظة التكاليف قليلة العائد، واستمرار عجز الموازنة العامة، وازدياد أعباء خدمة الدين العام، والاقتراض بسعر فائدة مرتفع، واستمرار الحكومة في الاقتراض لسداد القروض السابقة وأعبائها دون أن يكون لديها تصور واضح عن كيفية الخروج من هذه الحلقة الخبيثة، بل أصبح تسابقها في الحصول على ديون غاية ومنهاجًا.
إن علاج هذه الأزمة يستلزم وجود إرادة سياسية وطنية وإدارة رشيدة تغلق أبواب الفساد، والاعتراف بأزمة الدين العام، وصدماتها المالية المتوقعة، ووضع أهداف واضحة لإدارة الدين، وتقدير حجم المخاطر في ضوء اعتبارات التكلفة، ووضع حدود للتوسع في الاقتراض، وعلاج هيكلي للاقتصاد المصري بتعديل بنيته الاقتصادية نحو الاهتمام بالصناعات التحويلية، وتفعيل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والإحلال محل الواردات وزيادة الصادرات، بما يخفف العجز المزمن في الموازنة العامة وميزان المدفوعات.
بالاضافة إلى تشجيع التعاون الاقتصادي مع الدول الأخرى لا سيما الدول الإفريقية بما ينمي الصادرات ويصب في ميزان المدفوعات، والاستفادة قدر الإمكان من التكتلات الاقتصادية التي تنتمي لها مصر، وتطبيق نظام الدفع الثنائي مع الدول العربية والاسلامية والإفريقية من أجل خفض الاعتماد على العملات الأجنبية، وتعديل وتطوير المنظومة الضريبية للحد من التهرب الضريبي، وتطبيق موازنة برامج الأداء لترشيد ومراقبة النفقات العامة، هذا ما يجب أن يكون غاية الحكومة ومنهاجها.