نخل ورمّان، صحاري وجبال، عيون تنبع من تحت الكثبان الرملية ومن الصخور الحجرية، إنّك في توزر، عروس الصحراء التونسية، رائحة المدن تحطّ الرحال في جولتها الأسبوعية لمدن المغرب العربي، في صحراء تونس، حيث تقع مدينة توزر وواحاتها الغناء وجداول مياهها العذبة ورمالها الذهبية ونخيلها الباسق الشاهق.
جنة الواحات
“زُر توزر إن شئت رؤية جنة، تجري بها من تحتك الأنهار”، كلمات للعالم ابن شباط، تعترضك عند مدخل المدينة التي تقع في الجنوب الغربي لتونس، على الحدود مع الجزائر، عند خط بداية الصحراء الكبرى، كلمات تختزل جمال المدينة وروعة طبيعتها الخلابة التي سحرت العقول وسلبت القلوب، فكانت مقصدًا لمحبّي الراحة والهدوء.
جنة الواحات توزر أو عروس الصحراء كما يحلو لأهلها أن يطلقوا عليها، ففيها أكثر من مليون نخلة تمتد على مساحة تفوق ألف هكتار، في قلب صحراء ساحِرٌ جمالها ونقيٌّ هواءها، زادتها الكثبان الرملية الممتدّة مدّ البصر، جمالاً على جمالها.
واحة توزر تتخللها ساقية ماء
واحات غناء خلابة، تفتح ذراعيها ليدخل عشاقها ويستنشقوا نفحاتها الطيب وروائح الفردوس المنبعثة من أرجائها، فتستقبلهم بأشجارِ نخيلها الباسق الشاهق الذي يعلو أشجار الزيتون والتين والرمان والعنب، وينتج أجود أصناف التمور العالمية – دقلة التمور عالية الجودة – وينابيع مائها العذبة، التي ينمو حولها أعشاب خضراء تكّون بساطًا يحلوا للعين رؤيته ويهب للسكّان الحياة، وظلّا يقي الإنسان حرّ الشمس وأشعتها.
إذا تجولت فيها يذهب عقلك إلى عالم الخيال من كِبرِ المكان وهدوئه، ففيها ألغاز وأسرار لا يدركها سوى عاشقيها، فهي مصدر سحر وإلهام ولوحة فنية من إبداع الخالق وجهد المخلوق الذي كرّس كل وقته لخدمتها.
عمارة.. ثمرة تعايش الناس مع ظروف المناخ الصحراوي
مباشرة عند أول بيت تشاهده في توزر، يخيّل إليك أن عمارة المدينة كأنها تخرج من قلب الرمال، منازل مبنية من الآجر، تتمتع بأشكال هندسية بديعة، تطالع المزروعات الزائر عند باب مدخل البيت، إلى جانب نافورة ونبع مياه، جدرانها سميكة صفراء متشابهة في كل أنحاء المدينة، لا تبنى دون منحنيات تفاديًا لريح السموم، بينما تتكفل طبيعة الآجر المحمي في الفرن أو المجفف تحت الشمس بأن يكون بردًا وسلامًا في الصيف ودافئًا في الشتاء.
جدران بنيت من الآجر المحمي في الفرن أو المجفف تحت الشمس
عمارة توزرية كانت ثمرة تعايش الناس مع ظروف المناخ الصحراوي الذي خبروه منذ آلاف السنين، ويمثّل الجامع الكبير ببلاد الحضر قبلة لمحبي ومستكشفي الآثار فهو يجلب اهتمام الزائر لا لروعة معماره فقط وإنما لبساطته، وشيد الجامع على أنقاض كنيسة بالحجارة والطين وغلفت جدرانه من الداخل والخارج وأرضيته بالآجر التقليدي وبنيت أسقفه من خشب النخيل ويحتوي على نحو 43 عمودًا من الآجر التقليدي، فكان تحفة معمارية مميزة.
محطات تختصر تاريخ تونس والبشرية جمعاء
قريبًا من وسط المدينة يوجد متحف دار شريط الذي بني حديثًا، محاولاً المزج بين ما هو عصري وأصيل في الجهة، في عمارته وما يحتويه، فهو مكان يجد فيه الزائر اختصار تاريخ تونس منذ النشأة وإلى اليوم من خلال مجسمات لشخصيات وأبطال عرفتهم البلاد عبر تاريخها الطويل مثل قادة قرطاج وكبارها والفاتحين المسلمين وقادة الحركة الوطنية وغيرهم.
دار الأحلام بدار شريط توزر
وفيه توجد مدينة الأحلام، وهي مجسمات متحركة لشخصيات وديكورات قصص ألف ليلة وليلة، فيطالعك علاء الدين ومصباحه وبساطه الطائر والسندباد ورحلاته العجيبة وعلي بابا ولصوصه والبجع الأبيض الجميل ينساب في نهر اصطناعي بين جنبات المدينة سائرًا صوب مدينة النحاس.
غير بعيد عنه يوجد متحف رشيق البناء والهندسة في شكل غابة، يطلق عليه اسم “شاق واق” يسرد قصة الإنسان وكيفية خلق الكون بتقنيات وتأثيرات صوتية وضوئية، وباعتماد المجسمات الضخمة، مجسمات تحكي قصص تطور الإنسان وأهم المراحل التي مر بها منذ خلقه الله، استئناسًا بالنظريات العلمية والقصص الدينية، وتضم قاعات المتحف مجموعات نادرة من اللباس التقليدي، ومجموعة من المصاحف القرآنية النادرة، والمخطوطات من التوراة والإنجيل، إلى جانب مجسمات لديناصورات ضخمة ومجسمات طريفة لأحداث تاريخية مهمة، بينها مجسم لسفينة سيدنا نوح.
ربوة أبي القاسم الشابي
في توزر أيضًا لك أن تزور روضة شاعر تونس – شاعر الطبيعة والحرية – أبي القاسم الشابي الذي نادى للحياة وردّدت شعوب العالم بيته “إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلا بدّ لليل أن ينجلي”، وربوة الشابي المحاطة ببعض الآلات الموسيقية المجسدة والعملاقة المنتصبة فوق القمة.
صناعات تقليدية ومأكولات تستهوي الزائر
عند التجوّل في طرقات توزر تستهويك حرفية معروضاتها فتستدرجك لشراء بعض الهدايا المصنوعة من وبر الإبل وسعف النخيل، وعلى أرصفة الدكاكين وفضاءات الصناعات التقليدية توضع منسوجات عالية الجودة كالمرقوم والكليم اللذين يعتبران من أشهر أنواع السجاد في المنطقة، والبرنس الذي يقي لابسه برد الشتاء.
صناعة المرقوم
إضافة إلى جمال صناعاتها التقليدية تستهويك توزر ببعض مأكولاتها التي عرفت بها وسمّيت على المنطقة كخبز المطبقة الذي يتكون من عجين وحشو فيه فلفل وبصل وشحم وهاروس (نوع من الهريسة)، وأيضًا البركوكش شبيه الكسكسي، وإن زرت توزر لا يمكن أن تخرج منها دون أن تشرب من “اللاقمي” وهو شارب حلو يخرج من بطن النخلة.
سحر الصحراء
في توزر لك أن تصعد فوق سفينة الصحراء، الإبل، أو السيارات رباعية الدفع حتى تستمتع بجمال صحراء لا حدود لها تقيدك ولا أحجار تؤذيك وتمعن نظرك في رمالها الذهبية الصفراء وتشاهد لحظة غروب شمسها المتدرج لونها من البرتقالي والـحمر، ونجومها المتلألئة، وبدرها الساطع، فيزداد ذهنك صفاءً وفكرك انطلاقة.
لحظة غروب الشمس في الصحراء
وإن كنت من هواة الحيوانات الصحراوية، فستجد ضالتك في حديقة الحيوانات التي جمعت في أرجائها كل نماذج الحيوانات الصحراوية من الغزال الجميل إلى الإبل والذئب والفنك والحبار والعقرب الخطير والثعابين، فهي تنقل لك الصحراء وما تزخر به إلى المدينة.
بواحاتها الخضراء الشاسعة ونخيلها الشاهقة الباسقة ومساكنها المميزة وقلوب أهلها الدافئة ومياهها المتدفقة وهوائها النقي وهدوئها، تسحرك عروس الصحراء توزر، تاركة كل أثر جميل فيك، ففيها يطيب العيش وتحلو لك الحياة.