مع انطلاقة الثورة الفلسطينية، أدركت منظمة التحرير والفصائل أهمية التوثيق لهذه المرحلة، وما تلعبه السينما ليس فقط في المساهمة بتشكيل وعي الأجيال، بل أيضًا كرسالة وسلاح فعال في الترويج والدعاية لمشروعية المقاومة وللحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتسليط الضوء على قضيته.
خلال مرحلة الثورة أُنتجت العديد من الأفلام، وبمشاركة العديد من المخرجين الفلسطينين والعرب، وتم تأسيس العديد من الوحدات لصناعة الأفلام، منها وحدة أفلام فلسطين، جماعة السينما الفلسطينية، مؤسسة السينما الفلسطينية، مؤسسة صامد للإنتاج السينمائي، اللجنة الفنية التابعة للجبهة الديمقراطية، لجنة الإعلام المركزي التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
مؤسسة السينما الفلسطينية
بدأت سينما الثورة الفلسطينية من خلال قسم صغير للتصوير الفوتوغرافي أواخر عام 1967، كان يتم فيه توثيق صور شهداء الثورة، وقد ساهم في تأسيسه سلافة جاد الله، التي تعتبر بحسب بعض المراجع، أول مخرجة ومصورة سينمائية عربية، ومصطفى أبو علي وهاني جوهرية، وعلى إثره تم تأسيس وحدة السينما التابعة لقسم التصوير الفوتوغرافي في حركة فتح والتي صارت لاحقًا “وحدة أفلام فلسطين”، وشهد عام 1968 إنتاج الفيلم الأول وهو “لا للحل السلمي” من إخراج مصطفى أبو علي، والذي كان يتناول الرفض الشعبي لمشروع روجرز.
المخرج الفلسطيني الشهيد هاني جوهرية
شهدت الثورة إنتاج العديد من الأفلام مثل “النهر البارد” عام 1971 لقاسم حَوَل، “حرب الأيام الأربعة” إخراج سمير نمر عام 1973، “ليس لهم وجود” لمصطفى أبو علي عام 1973، “الانتفاضة” لرفيق حجار عام 1975، “رؤى فلسطينية” لعدنان مدانات عام 1977، “لأن الجذور لا تموت” لنبيهة لطفي عام 1977، و”أنشودة الأحرار” لجان شمعون 1978، وأيضًا “عائد إلى حيفا” وهو الفيلم الروائي الوحيد الذي تم إنجازه في سينما الثورة الفلسطينية، بحسب الباحث بشار إبراهيم، والمقتبس عن رواية للشهيد غسان كنفاني بنفس العنوان، وأخرجه العراقي قاسم حول عام 1982، ومن إنتاج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
من الأفلام المهمة والتي تم إنتاجها من قبل دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير، فيلم “سجل شعب” للمخرج قيس الزبيدي عام 1984
ومن الأفلام المهمة والتي تم إنتاجها من قبل دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير، فيلم “سجل شعب” للمخرج قيس الزبيدي عام 1984 والذي تضمن مواد أرشيفية تقدم لأول مرة تم جمعها من عدد من الدول الأوروبية، وقدم قيس الزبيدي العديد من الأفلام المهمة التي أحدثت تحولاً في مسيرة السينما الفلسطينية منها “وطن الأسلاك الشائكة” و”ملف مجزرة” وغيرها.
المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي
وكان المخرج مصطفى أبو علي قد أسس في 1973 جماعة السينما الفلسطينية، وشملت السينمائيين المعنيين بفلسطين كافة وذلك لخلق سينما ترافق نضال الشعب الفلسطيني ولتوثيق ما يتعلق بالقضية.
يُذكر بأن عددًا من المصورين استشهدوا في أثناء توثيقهم للأحداث ومنهم المصور هاني جوهرية والذي يعد من المؤسسين للسينما الفلسطينية واستشهد عام 1976 وإبراهيم ناصر (مطيع إبراهيم) وعبد الحافظ الأسمر (عمر المختار) اللذين استشهدا عام 1978.
شهداء السينما الفلسطينية
نتيجة للخروج الفلسطيني من بيروت عام 1982، وفقدان الكثير من الأرشيف الفلسطيني، بما فيه العديد من الأفلام، إثر الاجتياح “الإسرائيلي”، ومن ثم الانقسام الفلسطيني في عام 1984، بدأ الإنتاج السينمائي الفلسطيني يتراجع، ولم تصنع دائرة الثقافة والإعلام في دمشق سوى عدة أفلام من بينها “المنام” للمخرج السوري محمد ملص، ولتبدأ رحلة الشتات بالنسبة إلى المخرجين مثل مصطفى أبو علي (الذي توفي عام 2009 )، والمخرج العراقي سمير نمر (توفي عام 2005 )، والمخرج العراقي قيس الزبيدي وغيرهم.
ليغيب الحلم بسينما نضالية مؤسسية، ويضيع الكثير من الأرشيف المتعلق بقصة السينما الفلسطينية الثورية، وهو أرشيف ضخم يوثق للكثير من الأحداث والنشاطات وكان مصدرًا بصريًا مهمًا للكثير من السينمائيين.
في العام الماضي أعلن منتدى فلسطين الدوليّ للإعلام، تأسيس “مركز الفيلم الفلسطيني”، وهو مؤسسة دولية تسعى إلى توثيق الأفلام الفلسطينيّة والتي تتعلّق بفلسطين
وكانت هناك مبادرات سعت إلى جمع هذا الأرشيف السينمائي وتوثيق للروايات المختلفة، ومن هذه المبادرات مبادرة “جماعة السينما الفلسطينية”، والتي أُعْلِنَ انطلاقها قبل أكثر من عشرة أعوام، وكان رئيسها المخرج الراحل مصطفى أبو علي، وكان أبو علي نفسه قائمًا على مشروع الجماعة، الذي تأسس بداية السبعينيات من القرن الماضي، حيث تتبع الجماعة لمؤسّسة الأبحاث الفلسطينية قبل أن يتوقّف المشروع وكان هدفه إنشاء صندوق للسينما وتأسيس وحفظ الأرشيف الفلسطيني السينمائي.
وفي العام الماضي أعلن منتدى فلسطين الدولي للإعلام، تأسيس “مركز الفيلم الفلسطيني”، وهو مؤسسة دولية تسعى إلى توثيق الأفلام الفلسطينية والتي تتعلّق بفلسطين، والتعريف بها وتسهيل نشرها بطريقة عصريّة وسريعة تتلاءم مع المنصات الرقمية، وذلك خدمة للذاكرة البصرية الفلسطينية، وجزءًا من مسار أرشفتها والحفاظ عليها.
أما الكتب التي صدرت عن السينما الفلسطينية في السبعينيات لقاسم حول ولمصطفى أبو علي وغيرهما ويمكن الاستناد عليها كمرجع سينمائي فلسطيني، فالحصول عليها ليس بالأمر السهل.
سينما الثورة ليست سوى نموذج لمرحلة من المراحل الرئيسية التي مرت بها السينما الفلسطينية وتشكل وثيقة تاريخية ليس فقط بما فيها من أفلام بل بما تشكله من قراءة مهمة لهذه المرحلة، والاستفادة منها كمادة بصرية يمكن الاتكاء عليها اليوم في صناعة الأفلام، وثائقيًا وروائيًا، والتي تسير بعدة مسارات مختلفة، إنتاجيًا، وبمعزل عما إذا كانت تليفزيونية أو سينمائية، فإنها تتفرع ما بين الأفلام التي يتم إنتاجها في الداخل أو تلك التي في المنافي والشتات وتحكمها ظروف إنتاجية مختلفة سواء تلك التي تنتج بتمويل ودعم من مؤسسات مختلفة أو أفلام مستقلة، يصل العديد منها إلى المهرجانات العربية والعالمية، وبالكاد تجد طريقها إلى المشاهد الفلسطيني والعربي، وبين تلك المنتجة لصالح قنوات أبرزها الجزيرة والتي ساهمت في إنتاج المئات من الساعات الوثائقية عن فلسطين وتصل إلى المشاهدين في بيوتهم.
سلسلة وثائقي “النكبة” للمخرجة الفلسطينية روان الضامن
وهذا ما يؤكد ضرورة وجود جهة مرجعية تسهم في تأسيس قاعدة بيانات لكل ما تم إنتاجه سابقًا أو يُنتج في أيامنا هذه، لن يشكل إضافة نوعية لصناع الأفلام فقط، بل ويحفظ هذه الذاكرة البصرية من الضياع مرة أخرى.
ولا بد من الإشارة إلى أن هناك أفلام فلسطينية أخرى تم إنتاجها خلال نفس المرحلة الزمنية لسينما الثورة، منها على سبيل المثال الفيلم الوثائقي “ذاكرة خصبة” لميشيل خليفي، والذي أُنتج عام 1980، ويعده البعض من الأفلام المؤسسة لما يعرف بتيار السينما الفلسطينية الجديدة أو السينما المستقلة، وكان خليفي قد حاز أيضًا في عام 1987، على الجائزة الأولى للنقاد الدوليين في مهرجان كان السينمائي عن فيلمه الروائي الأولي “عرس الجليل”.
بوستر فيلم “عرس الجليل” عام 1987
ومع انتهاء سينما الثورة، بدأت مرحلة جديدة من السينما الفلسطينية – روائيًا ووثائقيًا، من روادها ميشيل خليفي، إيليا سليمان، هاني أبو أسعد، مي المصري، إياد الداود وغيرهم.
في نفس السياق، لا يمكن تجاهل تلك الأفلام التي تُصنع عن فلسطين من قبل مخرجين عرب وأجانب سواءً، سابقًا واليوم، ليس بدءًا بالمخرج الفرنسي الشهير جان لوك غودار وفيلمه “هنا وهناك” والذي تم تصويره عام 1970 عن بدايات الثورة الفلسطينية، ولا مرورًا بالمخرج الأمريكي المعروف أوليفر ستون صاحب الفيلم الوثائقي “شخص غير مرغوب به” (Persona Non Grata) عن الصراع العربي الإسرائيلي، ولا انتهاءً بالمخرج الأرجنتيني هرنان زين الفائز بجائزة التحكيم للأفلام الطويلة في مهرجان الجزيرة الدولي عام 2015 عن فيلمه “وُلد في غزة”.
مشاهد من فيلم “من هنا وهناك” لجان لوك غودار عام 1970
وسأمر على تجربة أخرى شخصية، مر بها العديد من صُنّاع الأفلام في سياق بحثهم عن الأرشيف، في فيلمي “أغانٍ لفلسطين: بين مبادئ الثورة وحلم السلام” والذي تم إنتاجه من قِبل شركة طيف للإنتاج التليفزيوني في عام 2009 لصالح قناة الجزيرة، ضمن برنامج “فلسطين تحت المجهر”، ويحكي قصة الأغنية الثورية الفلسطينية وتطورها وكيف أصبحت مرافقة للسلاح، ويناقش حال هذه الأغنية بعد اتفاقية أوسلو عام 93.
كان لا بد من الاستعانة بأرشيف يعزز بصريًا الحديث عن مراحل هذه الأغنية، وكنت، ومن خلال البحث، قد قرأت بأن المغني المصري الراحل عدلي فخري كان يحمل عوده ويزور الجرحى في المستشفيات ويزور المقاتلين في ثكناتهم ويغني لهم.
من فيلم “أغاني لفلسطين”
بحثت مطولاً ولم أستطع الوصول إلى أي مادة بصرية، وبالصدفة أجد مقطعًا مصورًا له ضمن أحد الفيديوهات المنشورة على اليوتيوب فلم أعرف من أي فيلم هذا المقطع أو من صاحبه، وفي النهاية اضطررت إلى استخدام المقطع لما يشكله من أهمية كوثيقة في الفيلم، ونفس الأمر واجهته حينما عملت على فيلمي “فدائي.. سابقًا” ويحكي قصص عدد من مقاتلي الثورة الفلسطينية وما آلت إليه أحوالهم بعد انتهاء زمن الثورة والكفاح المسلح والذي قادت زمامه منظمة التحرير الفلسطينية وعدد من الفصائل الفلسطينية قبل توقيع اتفاق أوسلو.
وكنت أجد الأرشيف مبعثرًا هنا وهناك أو على صفحات اليوتيوب ودون تصنيف ولا تنظيم بل حتى دون وجود مصدر واضح.
وثائقي فيلم “فدائي سابقًا”
اليوم لدينا مئات المخرجين الفلسطينين في أنحاء مختلفة بالعالم، ونتاجهم هو جزء من الذاكرة البصرية الجمعية، ونحن أمام وثائق بصرية تعزز من وجودنا وحضورنا، ليس فقط سينمائيًا، بل إن تأسيس قاعدة بيانات لها والبحث عن الأفلام وحتى موادها الخام بما تحمله من معلومات وبما تعكسه من زوايا متعددة تلقي الضوء على الكثير من تفاصيل حياة شعب بأكمله، وبما فيها من شهادات حية ليس فقط لتاريخنا النضالي وإنما لتاريخنا الفلسطيني الحديث، فهو بحد ذاته مقاومة سلاحها الذاكرة البصرية التي علينا أن نتمسك حتى لا تضيع وتأكلنا الضباع.