“إن السودان فرض تأشيرات على دخول المصريين الرجال إلى أراضيه من سن 18 إلى 50 عامًا” كان هذا ملخص التعليمات الصادرة عن مطار القاهرة لمكاتب شركات النقل الجوي العاملة في المطار، بناء على القرارات الجديدة الواردة من مطار الخرطوم، والتي حذرت من ترحيل أي مصري لا يحمل تأشيرة دخول.
شركة “مصر للطيران” أعلنت بدء تطبيق هذا القرار الجمعة الماضية، وهو ما أثار غضب واحتجاج الكثيرين لا سيما أنه جاء دون سابق إنذار أو تمهيد مسبق، وتسبب في إحداث حالة من الارتباك داخل حركة الطيران المتجه إلى السودان، مما يعد سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البلدين.
ورغم محاولة التقليل من وطأة هذا القرار من قبل الجانب السوداني، كما جاء على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية قريب الله الخضر، حيث قال: “التأشيرة ستمنح (للمصريين) مجانًا، مثل هذا القرار منفذ فعليًا على السودانيين عند دخول مصر منذ فترة من الزمن”، فإنه سيفتح صفحة جديدة ربما تزيد من تأزم الوضع بين الجارتين، القاهرة والخرطوم، خاصة في ظل حالة الضبابية التي تخيم على أفق العلاقات بينهما نظرًا لتباين وجهات النظر حيال بعض الملفات، ليبقى السؤال قائمًا: هل هذا القرار يأتي في إطار الإجراءات الأمنية المتخذة لتأمين السودان من أي تهديدات خارجية كما هو معمول في كل دول العالم، أم قرار سياسي في المقام الأول وإن اكتسى بعباءة أمنية؟
المعاملة بالمثل
التفسير الأول الذي قدمته الخرطوم لتبرير هذا القرار هو “المعاملة بالمثل” وهو ما كشف السفير السوداني في القاهرة عبد المحمود عبد الحليم، والذي قال: “القرار يأتي حسب مبدأ المعاملة بالمثل مع مصر والتي تفرض تأشيرات أيضًا على نفس الفئة العمرية من الرجال، وهو إجراء روتيني في إطار المراجعات المستمرة للداخلين والواصلين للسودان من الدول الشقيقة والصديقة”.
السفير السوداني أوضح أنه وفق الإجراءات المعمول بها في مصر ما كان يسمح للمصريين بالسفر للسودان دون موافقة أمنية مسبقة، وهو ما يتقارب بشكل كبير من شرطية الحصول على التأشيرة والتي تعد في مضمونها موافقة أمنية أيضًا، خاصة أن القرار لا يشمل النساء والأطفال وما فوق 50 عامًا من الرجال.
جدير بالذكر أن حركة التنقل بين القاهرة والخرطوم حددها البروتوكول الموقع عام 2004 تحت عنوان اتفاقية “الحريات الأربعة” والتي نصت على حرية الإقامة والحركة والتنقل بين المصريين والسودانيين دون الحصول على تأشيرات دخول هنا أو هناك.
السفير السوداني بالقاهرة يقول إن القرار يأتي حسب مبدأ المعاملة بالمثل مع مصر والتي تفرض تأشيرات أيضًا على نفس الفئة العمرية من الرجال
وطيلة السنوات الـ13 الماضية التزم السودان بتنفيذ هذه الاتفاقية ولم يفرض أي تأشيرات دخول على المصريين، في الوقت الذي تجاهلت فيه القاهرة بنود الاتفاقية وأصرت على تمسكها بالحصول على التأشيرة كشرط لدخول السودانيين أراضيها.
ولم تعلق الخرطوم على خرق القاهرة للاتفاقية إلا أنه وفي السنوات الأخيرة ومع زيادة عمليات القبض على السودانيين المقيمين في مصر بدعوى عدم حصولهم على تأشيرات أو انتهاء مدة إقامتهم المحددة، فضلاً عن تعرض بعض السودانيين إلى عدد من المضايقات، إضافة إلى تصاعد الخلاف بسبب أزمة حلايب وشلاتين، خرجت بعض الأصوات السودانية التي تنادي بمعاملة المصريين بالمثل، وهو ما كان بالفعل.
استجابة الخارجية السودانية لدعوات مواطنيها بشأن معاملة المصريين بالمثل، لم يكن هو السبب الوحيد لإقدام الخرطوم على هذا القرار، وإلا لماذا لم تتخذه منذ سنوات عدة حين تعرض بعض مواطنيها للمضايقات من قبل السلطات المصرية سواء في عهد مبارك أو بعد الثورة؟ وهذا ما يدفع للتساؤل عن أسباب أخرى ربما تفسر اتساع الهوة بين القاهرة والخرطوم في السنوات الأخيرة.
المعاملة بالمثل.. سبب فرض السودان تأشيرات على المصريين
زيارة البشير لأديس أبابا.. كلمة السر
قرار الخرطوم بفرض تأشيرة دخول على المصريين جاء بعد ثلاثة أيام فقط من الاتفاق المبرم بين السودان وإثيوبيا بشأن تطابق وجهات النظر بينهما في كثير من القضايا المحورية، مما يدفع للتساؤل عن تأثير هذا الاتفاق ودوره على إقدام حكومة البشير على هذه الخطوة.
الاتفاق المبرم بين الرئيس السوداني عمر البشير، ورئيس الوزراء الإثيوبي هيلي ماريام ديسالين، جاء في أعقاب زيارة البشير لأديس أبابا للمشاركة في الاحتفال بالذكرى السادسة لبناء سد النهضة (محل الخلاف مع القاهرة)، حيث اتفقا على عدة محاور للتعاون فيما بينهما، منها استفادة السودان من كهرباء سد النهضة من خلال إنشاء خط لنقل الكهرباء من السد إلى العاصمة السودانية الخرطوم، كذلك إنشاء خط سكة حديد لنقل البضائع من إثيوبيا إلى ميناء بورتسودان من أجل مساعدة أديس أبابا على نقل البضائع إلى الخارج، إضافة إلى مشروعات الأمن الغذائي، وتسهيل إثيوبيا نقل النفط من جنوب السودان.
وفي مؤتمر صحفي عقده البشير وديسالين تطرقا إلى بحث التكامل في المجالات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث قال الرئيس السوداني: “أي تهديد لأمن إثيوبيا هو تهديد مباشر لأمن السودان” وعلى الفور كان رد رئيس الوزراء الإثيوبي: “أي تهديد للسودان هو تهديد للأمن القومي الإثيوبي”.
وخلص البشير في المؤتمر إلى أن ما يمس إثيوبيا ينعكس على السودان، وإن ما يمس السودان ينعكس على إثيوبيا، لذلك فإن البلدين مصممان على التعاون الوثيق في هذه المجالات كلها، ليعلن رئيس الوزراء الإثيوبي ديسالين بعدها زيارته السودان قريبًا.
صحيفة الأهرام المصرية (حكومية) عنونت تقريرًا عن هذه الزيارة بـ(حرارة استقبال البشير في إثيوبيا بخرت التنسيق مع مصر) استعرضت خلاله أبرز الاتفاقيات المبرمة بين البلدين، كما أنها تناولت المغريات التي تدفع السودان إلى الارتماء في أحضان إثيوبيا.
عمر البشير: “أي تهديد لأمن إثيوبيا هو تهديد مباشر لأمن السودان”، وديسالين يرد: “أي تهديد للسودان هو تهديد للأمن القومي الإثيوبي”
الصحيفة الحكومية اختتمت تقريرها ببعض الأسئلة المفتوحة التي تعكس الحال الذي وصلت إليه العلاقات بين القاهرة والخرطوم، حيث تساءلت قائلة: هذا التقارب، يثير حفيظة المصريين، ويدفعهم للتساؤل، إذا كان السودان له هذه العلاقات المترابطة مع إثيوبيا، فلماذا لم تنجح وساطته في حل أزمات مفاوضات النهضة بين أديس أبابا والقاهرة؟ ولماذا لم يستطع السودان بـ”دلاله” على إثيوبيا إطالة الفترة الزمنية لملء بحيرة السد دون اللجوء للمكاتب الاستشارية؟ وهل سيظل التعاون بين البلدين على هذا المنوال دون إلحاق ضرر بدول الجوار، أم أن الهدف كان بالأساس التحكم بقطرات مياه النيل التي يحيا بها المصريون تحت رغبة سودانية في تقليل التنسيق مع مصر ومزاعم الخرطوم بمشكلات حدودية مع المحروسة؟
زيارة البشير لإثيوبيا وما تكشف خلالها من تطابق في الرؤى والمواقف بين الخرطوم وأديس أبابا بشأن ملف سد النهضة، والتلويح بحماية كل طرف للآخر حال تعرض أي منهما لأي تهديد، والذي ربما يفهم منه ضمنيًا أنه إشارة للقاهرة بجانب بعض الأطراف الأخرى، جاءت قبل يومين من الزيارة التي كان من المقرر أن يقوم بها وزير الخارجية المصري سامح شكري للسودان، مساء أمس السبت، والتي تم إعلان تأجيلها قبل ساعات قليلة من موعدها، فهل للزيارة دور في هذا التأجيل؟
البشير خلال زيارته لأديس أبابا للمشاركة في الاحتفال بالذكرى السادسة لبناء سد النهضة
زيارة شكري.. بين التأجيل والإلغاء
في قرار أثار الكثير من الجدل واللغط بشأن دوافعه، أعلن المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية تأجيل زيارة الوزير سامح شكري، إلى السودان، والتي كان مقررًا لها أمس السبت، لعقد جولة من المشاورات السياسية بين البلدين، والتمهيد للاجتماع المزمع عقده نهاية أبريل الحاليّ بين الدول الثلاثة السودان ومصر وإثيوبيا لتقييم الدراسة التي قدمتها الشركة الفرنسية عن الآثار المترتبة على إنشاء سد النهضة وكانت الدراسة تمت مناقشتها في اجتماع الخرطوم الأخير.
الخارجية المصرية في بيان لها بررت تأجيل الزيارة بأن “السبب وراء تأخر إقلاع طائرة مصر للطيران التي كانت متجهة إلى الخرطوم وكان على متنها وزير الخارجية سامح شكري هو وجود عواصف ترابية في مدينة الخرطوم”، مضيفة: “جارٍ حاليًا التنسيق مع الجانب السوداني لترتيب موعد بديل لعقد جولة المشاورات”.
“العواصف الترابية وراء تأجيل زيارة شكري للسودان” بحسب المتحدث باسم الخارجية المصرية
بعيدًا عن تفسير بيان الخارجية المصرية لتأجيل زيارة شكري بسبب تعرض مطار الخرطوم لعاصفة ترابية تسببت في انخفاض مستوى الرؤية لأدنى معدلاتها، وهو ما نجم عنه تعليق مغادرة بعض الرحلات لمدة 12 ساعة ثم تم استئنافها صباح اليوم الأحد، إلا أن تفسيرًا آخر يفرض نفسه بشدة، ألا وهو رأي الشارع السوداني، فماذا قال؟
السودانيون يرفضون الزيارة
دشن عدد من السودانيين هاشتاجًا تحت عنوان: #اطردوا_الوزير_المصري عكس حالة التوتر الشديدة بين القاهرة والخرطوم، حيث طالبوا الحكومة السودانية بمنع استقبال وزير الخارجية المصري، وطرده فور وصوله، تنديدًا منهم بما أسموه تدخل مصر لعدم رفع العقوبات عن السودان، والمعاملة السيئة التي يتعامل بها السودانيون داخل مصر.
مصر طالبت بعدم رفع العقوبات عن السودان ،مصر تسب وتشتم السودان ، مصر تدعم الحركات المسلحة بئس الجار وبئس الجوار #اطردوا_الوزير_المصري
— ☆★Africa Queen☆★ (@seamoelnegr) April 7, 2017
بينما طالب البعض بوقف الاستيراد من مصر، ودعم المنتج المحلي:
مصنع كريمه لتعليب الفاكهه والخضر اليوم اﻻحد ان شاءالله باكورة الانتاج المحلي اللهم زد وبارك ..#اشتري_المنتج_السوداني#اطردوا_الوزير_المصري pic.twitter.com/UGAxAdLUP3
— Hosam Mustafa?? (@hosamfabrey) April 9, 2017
كما طالب أحد المغردين السعوديين بطرد سفير مصر تضامنًا مع السودان:
وهكذا يبدو أن القرار السوداني بفرض تأشيرة دخول على المصريين والذي جاء بعد أيام من الاتفاق المبرم بين الخرطوم وأديس أبابا وقبيل تأجيل زيارة وزير الخارجية المصري للسودان في ظل حالة الرفض الشعبي لتلك الزيارة، لم يكن قرارًا أمنيًا خالصًا، فالسياق الزمني والسياسي له يعكس اتساع الهوة بين الجارتين، ويفتح صفحة جديدة في تأزم العلاقات بينهما.