أعلنت الدول الغربية منذ الساعات الأولى لعملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري دعمها الكامل لـ”إسرائيل”، فيما تبنت أنظمة تلك البلدان خطابًا تصعيديًا استثنائيًا ضد المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني بأكمله.
وتبارت الولايات المتحدة وأوروبا لتقديم يد العون والمساعدة للحكومة الإسرائيلية، فيما يشبه المزاد لنصرة الحليف الشرق أوسطي في مأزقه غير المسبوق، حيث أعلنت واشنطن إرسال حاملة الطائرات “جيرالد فورد” إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، ثم حاملة الطائرات “دوايت أيزنهاور” والسفن المرافقة لها إلى المنطقة، بجانب كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة وحزم المساعدات.
أما بريطانيا فنشرت تجهيزات عسكرية للمراقبة البحرية والجوية وسفينتين في شرق البحر المتوسط لدعم “إسرائيل”، كذلك ألمانيا التي وضعت تحت تصرف الاحتلال طائرتين مسيرتين حربيتين من طراز “هيرون تي بي” تحمل كل منهما طنًا من الذخائر، فيما اكتفت فرنسا بتقديم معلومات استخبارية.
علاوة على هذا الدعم العسكري والاستخباراتي، اتسم الخطاب السياسي والإعلامي الغربي بالعنف والتصعيد والانحياز الفج وازدواجية المعايير، فقد أعلنت معظم تلك الدول تأييدها الكامل لما أسمته “حق إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، بما في ذلك الاجتياح البري لقطاع غزة بزعم القضاء على حركة المقاومة حماس، حتى لو كان المقابل وضع حياة مليوني مواطن على المحك، دون أي اعتبارات للمناشدات الدولية التي تحذر من كارثة إنسانية محققة.
غير أنه وخلال اليومين الماضيين لوحظ تراجع حدة الخطاب الغربي تجاه غزة، حتى لو بمستويات قليلة، فلم يعد الدعم المطلق لـ”إسرائيل” دون سقف كما كان بداية الطوفان، وسط اشتعال الشارع العربي والغربي تنديدًا بهذا الموقف الذي يضرب بكل قوانين حقوق الإنسان عرض الحائط.. فما الذي حدث ودفع لهذا التغيير؟
دعم كامل وخطاب تصعيدي
لم تنتفض الدول الغربية لدعم “إسرائيل” منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 كما انتفضت خلال الأيام القليلة الماضية، فالضربة المزلزلة التي تعرضت لها في السابع من الشهر الحاليّ هزت الكبرياء الغربي وأشعرته لأول مرة بالقلق على مصالحه وأهدافه في الشرق الأوسط.
لا يمكن قراءة التحرك الغربي وخطابه المتصاعد في إطاره الضيق الخاص بدعم حليفه الإسرائيلي الذي يتعرض لأزمة حادة، لكن المسالة أكبر من ذلك، فالأمر هنا تجاوز دعم حليف إلى الدفاع عن المصالح والنفوذ المرهون ببقاء “إسرائيل” قوية في مواجهة خصوم الغرب في تلك المنطقة، لذا كان التناغم الغربي على المسارات كافة، سياسية وعسكرية وإعلامية، وقوفًا إلى جانب تل أبيب.
ومن المرات القليلة التي تتفق فيها العواصم الغربية على مسألة واحدة، إذ تبنت كل من واشنطن وباريس وبرلين ولندن وتورنتو شعارًا واحدًا هو دعم الكيان الإسرائيلي بشتى السبل، اتصالات مكثفة بين قادة تلك الدول والسلطات الإسرائيلية لطمأنتها بتقديم كل أوجه المساعدات الممكنة.
وفي خلال أقل من 48 ساعة زار تل أبيب وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيين، بجانب المشرف على القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، الجنرال مايكل إريك كوريلا، إضافة إلى زيارة وزير خارجية بريطانيا، فضلًا عن الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن لـ”إسرائيل” غدًا الأربعاء.
تخفيف حدة التصعيد
الساعات الماضية شهدت تراجعًا ملحوظًا في لغة الخطاب الغربي الداعم للتوجهات الإسرائيلية الانتقامية من غزة، فتراجع الدعم المطلق لفكرة اجتياح القطاع بريًا وترحيل سكانه إلى مناطق مجاورة كمصر وغيرها، وتغيرت نسبيًا اللغة المستخدمة لتميل نسبيًا إلى التحذير من مغبة ذلك، وربما التنصل منه أحيانًا.
في 11 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، أي بعد 4 أيام من بدء عملية “طوفان الأقصى”، أفادت تقارير إعلامية بأن بايدن تحدث مع نتنياهو من أجل العمل لإجلاء الفلسطينيين في غزة، وبحسب التقارير فإن البيت الأبيض “يناقش تلك الخطوة مع دول أخرى للبدء في هذا الإجراء”.
لكن بعد يومين فقط من تلك التقارير قال البيت الأبيض في الثالث عشر من الشهر إن تل أبيب لم تتشارو مع واشنطن بشأن أمرها بإخلاء سكان القطاع لمنازلهم، حيث قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي: “لم تكن هناك مشاورات مسبقة على حد علمي، قبل أن يصدر الجيش الإسرائيلي تحذير الإخلاء”، مضيفًا أن بلاده “قلقة” بشأن الخسائر في أرواح المدنيين، بينما تعمل “بشكل دؤوب” على إيجاد خيارات توفير ممر آمن.
عاجل | بلينكن: من الضروري أن يبدأ تدفق المساعدات إلى غزة في أقرب وقت ممكن pic.twitter.com/7IaIpHtJbH
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) October 17, 2023
وفي حلقة من برنامج 60 دقيقة على شبكة “سي. بي. إس”، بُثت الأحد 15 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، أكد الرئيس الأمريكي، أن أي تحرك من جانب “إسرائيل” لاحتلال قطاع غزة مرة أخرى، سيشكل “خطأ فادحًا”، وعن احتمالية انضمام قوات أمريكية لدعم جيش الاحتلال في تلك الحرب قال بايدن: “لا أعتقد أن هذا ضروري”.
ووصل مستوى التراجع في حدة الخطاب المحفز لاجتياح غزة وشن حرب برية كاملة إلى أدناه أمس الإثنين حين تحدث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، عن خيالية أي خطط لتهجير سكان قطاع غزة المحاصر إلى سيناء، وإخراجهم من أراضيهم بالشكل الذي تخطط له الحكومة الإسرائيلية.
برغماتية وإعادة لتقييم المشهد
تعد البرغماتية بصفة عامة كلمة السر وراء تراجع الخطاب الغربي تجاه الأزمة الحاليّة في غزة، فما تزحزحت عواصم أمريكا وأوروبا عن لغتها العنيفة لاعتبارات إنسانية أو حقوقية، لكنها المصالح التي ترسم خريطة التوجهات ومستواها وما يمكن أن يعتريها من تغيرات بين الحين والآخر.
ويمكن إرجاع تخفيف حدة التصعيد في اللهجة الغربية إلى 7 عوامل رئيسية:
الأول: فشل بلينكن في إقناع الدول العربية.. فالجولة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكية قبل يومين وشملت 6 دول عربية: الأردن والإمارات والسعودية والبحرين وقطر ومصر، بجانب “إسرائيل”، وحاول من خلالها الحصول على دعم تلك الدول لموقف تل أبيب التصعيدي تجاه غزة وحماس، لم تؤت ثمارها، حيث جاءت تصريحات معظم القادة العرب رافضة للغزو البري ومحذرة من الحصار ورافضة لفكرة التهجير خارج القطاع.
ثانيًا: المظاهرات الحاشدة في مختلف بلدان العالم، حيث المزاج الشعبي العالمي الرافض للانتهاكات الإسرائيلية داخل القطاع، بما فيها الشارع الأمريكي والبريطاني والفرنسي الذي ضج بالتظاهرات العارمة الرافضة لمنح تل أبيب شيكًا على بياض لإبادة شعب غزة وتدمير القطاع، منددًا بالدعم المفرط لحكومة نتنياهو المتطرفة التي حمولها مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع.
ثالثًا: القلق من انتقال عدوى العنف إلى الداخل الغربي.. تزامنًا مع تصعيد الخطاب الداعم لـ”إسرائيل” في مواجهة الفلسطينيين شهدت الشوارع الأمريكية حادثة طعن ممنهجة قام بها رجل يهودي بحق طفل فلسطيني بولاية إيلينوي الأمريكية، وهي الحادثة التي اعتبرها البعض جرس إنذار لما يمكن أن ينطوي عليه الدعم الغربي لـ”إسرائيل” من احتمالية نقل العدوى إلى الداخل الأمريكي والأوروبي، حيث خطاب الكراهية والعداء في ظل وجود الملايين من الفلسطينيين والداعمين لهم من الجاليات العربية والإسلامية.
رابعًا: تجنب استغلال الصين وروسيا للموقف.. ما يعزز القلق لدى واشنطن تحديدًا استغلال موسكو وبكين لتلك التطورات لتعزيز نفوذهما في المنطقة، خاصة بعد التداعيات المحتملة للموقف الأمريكي المتشدد تجاه الفلسطينيين، مقارنة بالتصريحات المقبولة والمتزنة من روسيا والصين، وهو ما يمكن أن يدفع الأمريكان لإعادة تقييم المشهد لتفويت الفرصة على خصومهم من توظيف ما حدث لصالحهم، هذا بخلاف إيران التي حذر بايدن من احتمالية أن تستغل الوضع الحاليّ لتعزيز نفوذها هي الأخرى.
خامسًا: تهديد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.. يمثل اتساع دائرة المواجهات تهديدًا مباشرًا للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، لا سيما بعد دخول حزب الله اللبناني على خط الأزمة، والتحذيرات القادمة من العراق واليمن وربما تجد القاهرة نفسها هي الأخرى مضطرة للدخول دفاعًا عن أمنها القومي، الأمر الذي يضع مصالح واشنطن في خطر، فضلًا عن تهديد علاقتها بحلفائها من الدول النفطية، وهو ما تتجنبه في الوقت الراهن على الأقل.
سادسًا: تصاعد الخطاب الحقوقي المندد.. العربدة الإسرائيلية الانتقامية في القطاع وعشرات الشهداء الذين يتساقطون ساعة تلو الأخرى، بينهم أطفال ونساء، قوبلت بانتقادات إنسانية وحقوقية لاذعة، الأمر الذي يضع أمريكا في مأزق حقيقي أمام الشارع العالمي، لا سيما بعد التصريحات القاسية الصادرة عن وزير خارجيتها الذي قال إنه جاء إلى “إسرائيل” كيهودي وليس كأمريكي، وهي التصريحات التي زجت بالولايات المتحدة كطرف في الأزمة وليس كوسيط وفق ما هو سائد في السابق.
سابعًا: القلق من أوراق الضغط التي تمتلكها المقاومة.. لا يأمن الأمريكان والمجتمع الغربي المقاومة الفلسطينية وما تمتلكه من أدوات وأوراق ضغط من الممكن أن تضع الغرب في مأزق حقيقي، لا سيما ورقة الرهائن التي توظفها حماس بشكل جيد لخلق معادلة جديدة من التوازنات، هذا بخلاف القلق من مفاجآت محتملة ربما تجهز لها المقاومة حال التغول أكثر في الداخل الغزاوي بما يزيد الوضع تأزمًا ويضع المصالح والهيبة الأمريكية والغربية بصفة عامة في مهب الريح.
في الأخير ورغم كل تلك الدوافع التي ربما تقف حائلًا أمام استمرار الغرب في تبني خطابه التصعيدي، فإن ذلك لن يحول دون دعم الاحتلال في الانتقام والثأر لكرامته المربوطة بطبيعة الحال بالكرامة الغربية، حتى لو كان ذلك عبر الدعم غير المعلن، فمرور تلك الضربة التي تعرضت لها “إسرائيل” دون رد قاسٍ، سيكون له تداعيات تفرض واقعًا جديدًا، ومعادلات توزان مغايرة، فما كان قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لن يكون كما بعده.