يمثل اكتساب المفردات والتراكيب اللغوية دافعًا لمواصلة الاستزادة من كنوز الضاد، كما يعزز العلاقة بين الشخص ولغته وتراثه، فضلًا عن اتساع دائرة علاقاته وتأثيره فيمن حوله، فربما كانت معاناة الشخص من الانزواء والانطواء مرجعها ضعف قاموسه اللغوي الخاص، مما يجعله يشعر بالحرج البالغ عند الوجود في الأماكن العامة التي تستوجب التفاعل ونقل الأفكار.
الانطوائية يمكن التغلب عليها بزيادة المخزون اللغوي للفرد، مما يترتب عليه اتساع رقعة الاتصال بالآخرين
هذه الانطوائية يمكن التغلب عليها بزيادة المخزون اللغوي للفرد، مما يترتب عليه اتساع رقعة الاتصال بالآخرين، ويصبح المرء تواقًا للاجتماع بالغرباء والحديث معهم وتفعيل ما امتلكه من المفردات والتراكيب اللغوية والصيغ والأساليب الجمالية المكتسبة، وبنفس منطق كرة الثلج، فإن الشخص إذا ما امتلك قاموسًا خاصًا به يشتدُ به طموحه لتفعيل هذا القاموس في دنيا الناس، فيصبح أكثر اجتماعية مما سبق ومن ثَمَّ يستخدم كلمات قاموسه كلما سنحت الفرصة، ويترتب على ذلك حضور هذه المفردات في الذهن وسرعة استدعائها عند الحاجة إليها.
العصر الذي نحياه هو عصر قوة الإقناع، والشخص الذي يمتلك القدرة على التعبير عما يدور في خلجات نفسه يستطيع استمالة الناس إليه والتأثير فيهم وقيادتهم بشكلٍ كبير
إن العصر الذي نحياه هو عصر قوة الإقناع، والشخص الذي يمتلك القدرة على التعبير عما يدور في خلجات نفسه يستطيع استمالة الناس إليه والتأثير فيهم وقيادتهم بشكلٍ كبير، كما أن القدرة على التعامل مع الآخرين تتناسب طرديًا مع حجم القاموس اللغوي للشخص، وهو ما يساعد في بناء الشخصية الاجتماعية والقيادية المؤثرة في المجتمع، الخطباء المصاقع والمفاوضون المتميزون ورجال المبيعات والتسويق والإعلاميون يؤثرون في الجماهير من خلال استعمالهم لتراكيب لغوية بليغة ولطيفة لا تجنح للتكلفِ والغموض، كما أنها لا تهوي في مزالق الانحطاط والسوقية.
فإذا أردت أن تصبح ذا تأثيرٍ في محيطك وفي مجتمعك، فسارع إلى رحاب الضاد واجمع ما استطعت من ألفاظٍ وتراكيب، ثم استعمل هذه الألفاظ كلما لاحت الفرصة، وثق يقينًا أن التكرار هو سبيلك لاقتناء القاموس الثري الذي يرتقي بك ويصنع لك بصمة كلامية في قلوب وعقول من يستمعون إليك.
وقبل أن نتعرض للسبل التي يمكن من خلالها تحصيل كنز لغوي مناسب ومؤثر، يتعين علينا الإشارة على عجالةٍ لبعض الأسباب الرئيسة في زهد البعض في اللغة العربية، والحق أقول إن اللغة العربية عصيةٌ على الاندثار، وقد ترى البعض يُكيل الاتهامات للضاد ويراها غير قادرة على مواكبة التطورات الهائلة في عصر المعلومات، وأتوجه بسؤالٍ لهؤلاء: ماذا قدمتم أنتم للغة العربية؟
هل تمتلكون منهاجًا يمكن تطوير اللغة من خلاله لتصبح قاب قوسين أو أدنى من مواكبة التطور؟ هل تجيدون الحديث بالعربية السليمة؟ أم أنَّ هؤلاء قد اكتفوا بالبكائيات والرثائيات مع نشر روح الهزيمة النفسية في نفوس الآخرين، يقتضي الحديث عن تراجع دور اللغة العربية إيجاد السبل التي تعزز من دور اللغة العربية في حاضرنا ومستقبلنا وليس الزهد فيها والتنكُّر لها.
أما عن أبرز أسباب ضعف الضاد فيمكن إجمالها في خمسة عناصر، أولاً.. اتباع بعض المدرسين لطريقة التحفيظ والتلقين دون تفعيل مهارات الطلاب من خلال التعريف بمعاني الكلمات الغامضة والتأكد من استيعاب الطلاب لهذه المعاني والمفاهيم، ثم حثهم على تفعيل المعاني الجديدة في تعاملاتهم داخل الصف شفهيًا وتحريريًا، بما يضمن رسوخ المعاني الجديدة في أذهانهم.
تقتضي الحكمة أن نتبع قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “حدثوا الناس بما يعرفون”، بما يعني استعمال الألفاظ السليمة المعبرة دون المبالغة أو السقوط في مستنقع العامية
وهنا يجدر بنا الإشارة لقصةٍ طريفةٍ لا تخلو من مغزى في هذا السياق، إذ سأل أحدهم سيفويه القاص قائلًا: ما الغسلين؟ فقال سيفويه: على الخبير سقطت، قد سألت عن ذلك عالِمًا من أهل الحجاز منذ أكثر من ستين عامًا، فقال لي: لا أعرفه! هل يُعقل أن نسأل عن معنى لفظةٍ قرآنية نتعبدُ اللهَ بها دون أن نفهم معناها، ولو دفعنا فضولنا لمعرفة المعنى يكون الفضول فاترًا فنقبلُ ولمدة ستين عامًا بجوابٍ مثل: لا أعرفه!
ثانيًا.. اضطرار بعض المدرسين لتبني منهجية الإلقاء والتي يروق لي تشبيهها بخطبة الجمعة، إذ يقوم الخطيب بالعزف المنفرد دون إتاحة الفرصة للطلاب للمناقشة أو الحوار، يصاحب هذه الطريقة تشتيت بعض الطلاب لا سيما عند وجود كلماتٍ غريبة قد تتردد على ألسنة المدرسين أو متضمنةً في المنهج المقرر، فتصبح هذه الكلمات مجردةً من مدلولاتها أو مشوشة أو مشوهة المعاني، وتأسيسًا على ذلك لا يتمكن الطلاب من تفعيل هذه الكلمات في حياتهم اليومية وإضافتها لقاموسهم الحياتي، كما أنَّ فرصة تفعيل الكلمات المكتسبة تبقى محدودة مما يجعل هذه المفردات حبيسة الذهن.
ثالثًا.. لا تراعي بعض المقررات الدراسية الجانب التشويقي في عرض المادة العلمية لا سيما في مقررات اللغة العربية، فيقترن عزوف الطلاب عن المادة وعدم استساغتها معنويًا لديهم مع وجود الألفاظ الغامضة أو المتكلَّفة عائِقًا يحول دون الاستفادة من المادة المطروحة، وربما يرجع تباين الاستجابة التشويقية للمادة لوجود الفروق الفردية بين الطلاب، مما يستدعي مراعاة الميول والاحتياجات اللغوية للطلاب، مع السعي الحثيث لتنميتها وتطوير مهارات الطلاب اللغوية للوصول بهم للمستوى المطلوب.
قال سيبويه لحماد بن سلم: لأطلبن علمًا لا يُلحنني فيه أحد، ثم أصبح سيبويه قبلة أهل النحو وشيخ البصرة
رابعًا.. الحاجز المعنوي الذي وضعه البعض لأنفسهم وطواعيةً بصعوبة النحو، ولك أن تتخيل فداحة هذا الأمر إذ يترك الشخص الطعام جملةً وتفصيلًا لأنه يعاني من عسر هضم! هل يُعقل ذلك؟! هل يتعين على الشخص الذي يعاني من ضعف النظر أن يرتدي نظارةً سوداء ليل نهار بدعوى أنه لا علاج يفيد في حالته؟! الشخص هو من يضع الغشاوة على عينه بمحض إرادته، إن اختلفتَ معي بشأن هذه الجزئية فاسمح لي أن أذكرك بأن صاحب قرآن النحو سيبويه قد أخطأ مرتين في مجلِسِ حماد بن سلمة في النحو وقال له حماد: لحنتَ يا سيبويه، هل قال سيبويه لنفسِه: النحو صعبُ المراس، لا أستطيعُ المواظبة على دراسته! استمع لكلمات سيبويه واجعلها جلدةً بين عينيك لتدفعك نحو دراسة العربية بثقة وثبات، فماذا قال سيبويه؟ قال سيبويه لحماد بن سلمة: لأطلبن علمًا لا يُلحنني فيه أحد، ثم أصبح سيبويه قبلة أهل النحو وشيخ البصرة.
خامسًا.. الخلط بين الفصحى والعامية، فإن بعض من يتصدرون للحديث بالفصحى يخبطون ويخلطون بين الفصحى والعامية، فينشأ عن ذلك زيادة الفجوة بين الفصيح والعامي من الألفاظ والتراكيب، فتخرج الفصحى من دائرة الاهتمام وتتراجع فعاليتها في الحياة العامة، وهنا يجب أن نؤكد أننا نتحدث عن الفصحى السليمة، والمراد بها اللغة العربية التي نسميها بلغة الصحافة حيث تخاطب القطاعات المتباينة من الجماهير فيفهمها الجميع دون غموضٍ أو تكلف.
يتوهم البعض أننا نسعى للحديث بلغة جوفاء وموغلة في التكلف والغموض، وأنَّ الحديث بالفصحى يقتصر على لسان إبي علقمة ومن على شاكلته من المتكلفين، وهذا مرفوضٌ تمامًا إذ تقتضي الحكمة أن نتبع قول علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه “حدثوا الناس بما يعرفون، بما يعني استعمال الألفاظ السليمة المعبرة دون المبالغة أو السقوط في مستنقع العامية”.
هذه الأسباب وغيرها تلعب دورًا كبيرًا في ضعف المخزون اللغوي وتحجيم استعمال الضاد، وتضييق الخناق عليها مما يوحي بجمودها وعدم أهميتها، بل وقد يكون دافعًا لانتقاص قدرها وقدر سدنتها وحاملي لواء الدفاع عنها، ينبغي الإشارة إلى أنَّ الإنسان لا يبدع خارج لغته وإنْ حاول، فالله الله في اللغة العربية! ويا شباب الضاد! لا تتخاذلوا عن نُصرِةِ لغتكم فهي هويتنا الحقيقية التي نعتز بها أبد الدهر.