منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تبدّل روتين الحياة اليومية لأكثر من 2.3 مليون نسمة يعيشون في قطاع غزة البالغ مساحته 365 كيلومترًا، بعد أن دشّنت المقاومة الفلسطينية مرحلة جديدة بإطلاقها عملية “طوفان الأقصى” التي قابلها المحتل الإسرائيلي بعملية “السيوف الحديدية”.
الفلسطينيون الذين اعتادوا لسنوات على نمط من الحياة فرضه عليهم الحصار الإسرائيلي المفروض منذ عام 2006، وصلوا الآن إلى مرحلة يتمنون العودة إليه من جديد، نظرًا إلى حدّة التدمير الإسرائيلي وحالة التدهور الحاصلة في ضوء القيود المفروضة عليهم.
ومنذ أكثر من 10 أيام، حرم الاحتلالُ الإسرائيلي الفلسطينيين من الطاقة الكهربائية، عبر قطع الخطوط الواردة للقطاع عبر الأراضي المحتلة عام 1948، ومنع إدخال الوقود سواء عبر معبر كرم أبو سالم التجاري أو عبر قصف معبر رفح البرّي مع مصر.
وبات السكان يصفون القطاع بالمقبرة الجماعية في ضوء ما يتعرض له من عمليات قصف يوميًّا، وعرقلة كافة الجهود الرامية للتوصُّل إلى اتفاق تهدئة يسمح بدخول المساعدات الغذائية، ويمكّن الطواقم الطبية من التقاط أنفاسها في ظل الضغط الكبير.
وبحسب المؤسسة الحكومية في غزة، فإن إحصائية خسائر هذا العدوان في أسبوعه الثاني فاقت جميع أضرار وخسائر الفلسطينيين في كل الحروب والعدوانات التي شنّها الاحتلال على غزة، واستمرت قرابة 100 يوم في الأعوام 2008-2009 و2012 و2014 و2021.
ووفق الجهات الحكومية، فإن حصر الأضرار يشمل أعداد الشهداء والجرحى والدمار في الوحدات السكنية والمنشآت والمرافق العامة والخسائر الاقتصادية، فضلًا عن الواقع الإنساني الذي لم يسبق له مثيل خلال العدوانات السابقة، بمنع كل الإمدادات الحياتية الأساسية والمعيشية الضرورية والطبية.
وعلاوة على ذلك، هذا الواقع الإنساني الكارثي يرافقه تراجع واضح في المواقف الدولية تجاه هذه الجريمة ضد الإنسانية، ما يتطلب خطوات جادة وفورية من المجتمع الدولي ومنظماته الدولية لوقف جريمة التطهير العرقي التي يرتكبها الاحتلال بحقّ الفلسطينيين.
وتشير البيانات إلى أن إجمالي الدمار الناتج عن العدوان الإسرائيلي خلال عام 2008 بلغ 5 آلاف و700 وحدة سكنية بشكل كلّي، فيما بلغ 200 وحدة سكنية بشكل كلّي خلال عدوان عام 2012، وبلغ الضرر الكلّي 11 ألف وحدة سكنية خلال عدوان عام 2014، فيما دُمّرت 1700 وحدة سكنية في عام 2021 بشكل كامل خلال 11 يومًا فقط.
أما بالانتقال إلى تفاصيل الحياة اليومية فهي مقسمة إلى قسمَين، الأول يتمثل في تفاصيل النهار وصعوبة قضاء الوقت، نظرًا إلى التحديات الجمّة التي تواجهها العائلات الفلسطينية المتمثلة في توفير أبسط الاحتياجات من طعام وشراب، في ظل النقص الشديد الحاصل.
وتشهد المخابز تكدّسًا في أعداد الفلسطينيين المتوافدين عليها للظفر بكميات من الخبز تمكّنهم من الحصول على قوت يومهم، دون النظر إلى ما قد يشهده اليوم التالي، في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي وعمليات القصف الجوي والمدفعي وحتى القصف البحري.
في المقابل، يفتقر السكان للمياه ومياه الشرب التي باتت حلمًا بعيد المنال، نظرًا إلى توقف الكثير من محطات التحلية عن العمل بفعل نقص الوقود وعدم وجوده، إلى جانب صعوبة الحركة والتنقل جرّاء عدم استقرار الظروف الأمنية وتواصل عمليات القصف.
وبالتوازي مع ذلك كله، يحضر القصف الإسرائيلي المركّز للمدن والمناطق المختلفة في القطاع، إذ لا يخلو شارع أو حي بغزة من منزل أو منشأة مدنية مدمّرة، سواء دُمّرت على رؤوس ساكنيه أو حتى بشكل فارغ، فضلًا عن نزوح عدد لا بأس به نحو المناطق الجنوبية.
وتشهد ساعات النهار قصفًا إسرائيليًّا مركّزًا على مختلف المناطق يتفاعل معه الأهالي، لا سيما أن نصف السكان لم ينزحوا من محافظتَي الشمال وغزة، وهو ما يعرض الكثيرين منهم للخطر جرّاء عمليات القصف العشوائي الإسرائيلية التي تتم دون تحذير أو تنبيه مسبق.
ومع حضور ساعات المساء تحضر معاناة جديدة بالنسبة إلى الفلسطينيين في غزة، من أبرزها انقطاع التيار الكهربائي وغياب أدوات الإنارة، وتحوُّل البيوت إلى ما يشبه المقابر التي تنتظر الصواريخ المصنّعة أمريكيًّا، والتي تقذف بها طائرات الاحتلال دون رحمة.
وعلى مدار أسبوعَين بات الليل وساعاته الأطول بالنسبة إلى الفلسطينيين، نظرًا إلى عمليات القصف الإسرائيلي غير المسبوقة والعنيفة التي تتم فيه مقارنة مع بقية ساعات النهار، إلى جانب اعتماد الاحتلال على أسلوب “الأحزمة النارية” في محاولته لإرهاب السكان نفسيًّا.
ويستخدم الاحتلال في عمليات القصف أسلوب “الأرض المحروقة”، في محاولة منه لتهجير الفلسطينيين وتحقيق أكبر خسائر ممكنة في صفوف المدنيين، وهو أسلوب سبق أن اتّبعه بوتيرة أقل خلال المواجهات الماضية، التي كانت في الفترة ما بين عام 2006 وحتى عدوان مايو/ أيار 2023 الماضي.
وخلال ساعات المساء يمكن القول إن السكان والأهالي يقومون بتوديع بعضهم بعضًا، على اعتبار أنه من المحتمل جدًّا ألّا يتقابلوا في الصباح، في ضوء تعمُّد الاحتلال توسعة القصف خلال ساعات الليل والفجر، واستخدام أقوى قدرة تدميرية ممكنة خلال القصف.
ومع هذا كله، هناك الكثير من البيوت المهدمة التي لا يزال المئات من الفلسطينيين مفقودين أسفلها، دون أن يتمكن أصحابها من معرفة مصير أبنائهم، في الوقت الذي تواجه فيه طواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر صعوبات في استخراجهم من أسفل هذه المنازل.
وكعادتهم، تحضر روح التضامن بين الفلسطينيين من خلال توزيع الطعام والمياه واحتضان العائلات لبعضها بعضًا، لا سيما من تضررت منازلهم، في مشهد يعكس التكاتف المجتمعي في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وتصاعده بوتيرة غير مسبوقة، مقارنة مع الحروب وجولات التصعيد الماضية.
غير أن الأهالي باتوا يخشون من أن يوغل الاحتلال الإسرائيلي أكثر في دمائهم ودماء أطفالهم وعوائلهم، وسط تنصُّل الاحتلال من كافة القوانين والأعراف الدولية، وعدم تمكُّن الدول العربية والإسلامية من إدخال المساعدات الغذائية أو التموينية والصحية اللازمة للتخفيف عن أهالي القطاع.