رغم المساعي الجزائرية الحثيثة منذ استقلالها، لاسترجاع أرشيفها المهرب إلى فرنسا الذي يقدر بـ98% من الأرشيف الوطني للبلاد، فإنها لم تفلح بعد في ذلك، الأمر الذي حتم عليها شراء بعض من هذا الأرشيف حين تم عرضه للبيع في المزاد العلني، حتى لا يذهب إلى أيدٍ أخرى.
شراء 600 وثيقة في مزاد علني
في أول عملية تعلنها الجزائر، اشترت السلطات الجزائرية، نهاية شهر مارس الماضي، 600 وثيقة من تاريخها من مزاد علني أقامته دار متخصصة بمدينة تولوز الفرنسية، بقيمة ناهزت 94 ألف يورو، بعد أن رفضت فرنسا إرجاع هذه الوثائق، خطوة اعتبرتها وزارة الثقافة الجزائرية تكتسي بعدًا سياديًا في إطار الجهود التي تبذلها أعلى السلطات في الدولة لاسترجاع الأرشيف وتمكين الباحثين الجزائريين من إجراء الدراسات التاريخية على أساس مستندات موثوقة لتثمين الذاكرة الجماعية.
تقول السلطات الجزائرية إنها تمكنت من اختطاف هذه الوثائق من اليهود والأقدام السوداء
تعود هذه الوثائق التي تم اقتناؤها إلى فترة الوجود العثماني في الجزائر والسنوات الأولى من الاحتلال الفرنسي، وتتمثل في مجموعة مخطوطات ومراسلات لقادة الجيوش والضباط الفرنسيين في الجزائر وصور وخرائط وكتب نادرة، من بينها كتاب من جزأين عن الأمير عبد القادر كتبه جنرال فرنسي يشهد على المقاومة التي خاضها الأمير ضد فرنسا.
وتقول السلطات الجزائرية إنها تمكنت من اختطاف هذه الوثائق من اليهود والأقدام السوداء الذين دخلوا المزاد للحصول على الوثائق وإنهم قطعوا الطريق عليهم، خاصة أنها وجدت منافسة كبيرة من طرف الكثير من الهيئات والمؤسسات الفرنسية، بالإضافة إلى جامعي الوثائق القديمة الأجانب.
ويطلق اسم الأقدام السوداء على المستوطنين الأوروبيين (تنحدر أغلبيتهم من أصول فرنسية أو إيطالية أو إسبانية أو مالطية، وحتى من أوروبا الشرقية) الذين سكنوا أو ولدوا في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي دام أكثر من 13 عقدًا، من عام 1830 إلى 1962، لكنهم غادروها بعد الاستقلال عام 1962 نحو بلادهم خوفًا من انتقام الجزائريين، كما يقولون.
بعض الجرائم الفرنسية في الجزائر
من جهتهم، يرى مراقبون جزائريون، ضرورة استرجاع بلادهم لأرشيفها، خاصة أن فرنسا ستلجأ إلى بيعه بالقطعة لابتزازها والضغط عليها، وحتى لا تكشف بعض جرائمها التي ارتكبتها في الجزائر طيلة سنوات احتلالها لها.
شد وجذب بين البلدين
يعد ملف الأرشيف الجزائري لدى فرنسا أحد الملفات التي لا تزال محل شد وجذب بين البلدين منذ عقود، حيث طالبت الجزائر، بعد الاستقلال، فرنسا بتسليم جميع الأرشيفات التي نهبتها من بلادها، لكن مطالبها بقيت معلقة، إلى بداية الثمانينيات، حيث بدأت المفاوضات بين الجزائر وباريس، من خلال تشكيل لجانٍ مشتركة.
واعتمد الطرف الجزائري على النصوص القانونية الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو والندوة الدولية للأرشيفات، التي تنص “على حق الدول المستقلة في ممارسة سيادتها بأثر رجعي على الأرشيفات التي كتبت وحفظت على أراضيها، وعلى ضرورة أن تبقى الأرشيفات في الأرض التي كتبت وحفظت فيها لأول مرة.”
عملية ترحيل الأرشيف الجزائري من الجزائر إلى فرنسا، بدأت خلال الثلاثي الأول من سنة 1961 بشكل سري ولأهداف غير معلنة
وكانت الجزائر وفرنسا قد وقعتا عام 2009 اتفاقية تعاون من أجل الوصول إلى حل بشأن طريقة تسليم الأرشيف الجزائري الموجود على الأراضي الفرنسية، إلا أن الأمر اقتصر على الاتفاق بشأن تسليم نسخ عنه وذلك بصورة “مرحلية ومؤقتة” وفق المسؤولين الجزائريين.
عملية ترحيل الأرشيف الجزائري من الجزائر إلى فرنسا، بدأت خلال الثلاثي الأول من سنة 1961 بشكل سري ولأهداف غير معلنة، حيث أعطيت تعليمات لمحافظي الأرشيفات العاملين في الإدارة الاستعمارية بالجزائر، وتمت عملية الترحيل الأولى، بعدها بعام واحد سنة 1962 جاء قرار ثانٍ بنقل كل الوثائق المكتوبة بخط اليد أو المطبوعة مهما كانت الأهمية التوثيقية والتاريخية التي تكتسيها.وكانت الحكومة الفرنسية تقول إن السبب، إعادة تصويرها في فرنسا وحمايتها مؤقتا من التهديدات الأمنية لميليشيات “المنظمة السرية الخاصة” التي عارضت فكرة الاستقلال، حسب جزائريين.
مست عمليات الترحيل كل أوجه ومجالات الحياة الإدارية والسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية للجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية، بالإضافة إلى 1500 علبة من الأرشيفات الجزائرية ما قبل الاحتلال الفرنسي، بالضبط الخاصة بمرحلة الوجود العثماني خلال القرنين الـ16 والـ17، وقال وزير المجاهدين الطيب زيتوني، في فبراير الماضي، إن بلاده تسلمت 2% فقط من الأرشيف الموجود لدى فرنسا منذ بدء الاحتلال عام 1830.
مماطلة فرنسية
بعد سنوات من المفاوضات الثنائية لم تتمكن الجزائر من استرجاع سوى 2% من أرشيفها لدى فرنسا، مما يؤكد مماطلة فرنسا وعدم رغبتها في إرجاع هذا الأرشيف حسب عدد من المهتمين بهذا الشأن.
وتتعامل فرنسا مع هذا الأرشيف وفقًا لقوانين تحدد ما هو متاح للاطلاع (المواد القابلة للتبليغ) والتي لا يمكن للجمهور الوصول إليها إلا بعد مرور فترة زمنية تتراوح بين 20 و100 سنة وأخرى تظل سرية للغاية لكونها مصنفة في خانة الأمن الوطني.
السلطات الفرنسية ومركز الأرشيف يعارضون تمامًا مطالب الجزائر بإعادة الأرشيف المُرحل إلى فرنسا
في بداية مفاوضاتها مع الجزائر، قالت فرنسا إن ما جرى ترحيله هو “أرشيف السيادة” وغير قابل للتنازل عنه، والقوانين الفرنسية تمنع فتح الأرشيفات إذا لم تمر عليها آجال زمنية محددة، ثم بدأت تتحدث عن “رصيد أرشيفي مشترك” ما بين الجزائر وفرنسا، قبل أن يتم وقف التفاوض في الموضوع وحظر أي عملية ترحيل للأرشيفات خارج فرنسا لأي غرض ولأي بلد، حسب تعليمات للرئيس الفرنسي حينها جيسكار ديستان.
ويقول مدير الأرشيف الوطني الفرنسي هيرفي لوموان: “هذا الأرشيف يعود للأملاك العامة الفرنسية، أنا مستعد للحديث طويلاً بخصوص هذا الموضوع، إنه موضوع معقد ونحن نعمل عليه بحذر شديد”، وأفاد أن السلطات الفرنسية ومركز الأرشيف يعارضون تمامًا مطالب الجزائر بإعادة الأرشيف المُرحل إلى فرنسا، من منطلق أن الأمر يتعلق بأرشيف تم إصداره من طرف الإدارة الفرنسية في وقت كانت فيه الجزائر تابعة لهذه الإدارة، ولذلك فهذا الأرشيف، حسبه، من الأملاك العامة الفرنسية.
معالجة الأرشيف بمركز البحث والأرشيف الوطني بفرنسا
هيرفي لوموان لم يكن الوحيد الذي يتبنى هذا الموقف وهذه الرؤية من الأرشيف الجزائري، فقد أكد عضوان في مجلس الشيوخ الفرنسي، أندري غاتولان وفانسون إيبلي، في تقرير لهما أنه “لا سبيل لإعادة الأرشيف المرحل من الجزائر إلى فرنسا بعد الاستقلال سنة 1962، وأن من أصدر هذا الأرشيف هي الإدارة الفرنسية التي كانت الجزائر تخضع لها، وبالتالي فهو يعود إلى الأملاك العامة الفرنسية”.
وأشار تقرير لمجلس المحاسبة الفرنسي، في وقت سابق، أن حجمًا كبيرًا من الأرشيف الذي نقل من الجزائر إلى فرنسا ما زال محفوظًا في علب لم تفتح.
وتتهم الجزائر، فرنسا، بإخفاء الأرشيف المهرب ووضعه في أماكن مجهولة، في مقابل ذلك، تؤكد فرنسا أن الأرشيف الجزائري في بلادها يوجد بالمركز الوطني للأرشيف في باريس، وأيضًا في المركز الجهوي الخاص بأرشيف المستعمرات الفرنسية السابقة الواقع بمنطقة إكس أون بروفانس قرب مدينة مرسيليا جنوبي البلاد.