ترجمة وتحرير نون بوست
في 15 أيار/مايو سنة 1953، ألقى الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان خطابا في جامعة نوتردام، قبل حوالي شهر من مغادرته لمنصبه في الحكومة ليقضي بقية حياته في معهد برينستون للأبحاث. وقد ورد في نص الخطاب ما يلي: “هناك قوى طليقة في مجتمعنا اليوم، وهي مشتتة ومتفرقة لدرجة أننا لا يمكننا وضعها في السلة ذاتها وتسميتها باسم واحد أو ربطها بشخص أو تيار سياسي محدد. وتتحرك كل هذه القوى بشكل أو بآخر تحت يافطة الخوف من الشيوعية، إلا أنهم يتبنون نوعا خاصا من معاداة الشيوعية، في حين ينصبون أنفسهم أوصياء على هذه القضية، كما لو أنه لا أحد قبلهم سمع بأن الشيوعية تعتبر خطرا”.
في الفترة التي أذيع فيها هذا الخطاب، كانت معاداة الشيوعية في ذروتها، حيث قاد السيناتور جوزيف ماكارتي حملة شعواء ضدها. في المقابل، فضل زملاء كينان في واشنطن، بمن فيهم الرئيس الأسبق دوايت إيزنهاور نفسه، عدم الوقوف في وجه هذه الموجة من الغوغائية والتعصب.
تواترت الأخبار عن سعي إدارة الرئيس دونالد ترامب لاتخاذ إجراءات عقابية، ضد الأنشطة والجمعيات الموجودة داخل الولايات المتحدة التي لديها ارتباط بالإخوان
في الوقت الراهن، تواجه الولايات المتحدة الأمريكية سيناريو مشابه لتلك الفترة، حيث تنامت مخاوف الملايين من الأمريكيين، بسبب التهديد الداخلي والخارجي الذي يحوم حولهم. ومرة أخرى، يبرز سيناتور أمريكي ليستغل هذه المخاوف بشكل غير أخلاقي. ففي 10 من كانون الثاني/ يناير سنة 2017، قدم السيناتور الجمهوري تيد كروز مبادرة تشريعية، تحت مسمى “قانون تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية”. وفي الأثناء، حث كروز، وزير الخارجية الأمريكي على إجراء تحقيق في هذا الغرض، وتقديم تقرير للكونغرس حول ما إذا كانت هناك أية أسباب تمنع تصنيف الحركة ضمن قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية.
في الوقت ذاته، تواترت الأخبار عن سعي إدارة الرئيس دونالد ترامب لاتخاذ إجراءات عقابية، ضد الأنشطة والجمعيات الموجودة داخل الولايات المتحدة التي لديها ارتباط بالإخوان. وفي الأثناء، تفتقر هذه التحركات، من منظور مصالح السياسة الخارجية الأمريكية، إلى الحكمة، فضلا عن أن تأثيرها على الأوضاع الداخلية بالولايات المتحدة سيكون كارثيا. في الواقع، تعكس هذه الخطوات فشل النخب الثقافية والسياسية الأمريكية عن إدراك حقيقة هذه العلاقة المزعومة بين الإخوان المسلمين والإرهاب، وفهم مدى تأثير هذه الجماعة في حياة الجالية الإسلامية في الولايات المتحدة.
عموما، ونظرا لأن أسلوب عمل جماعة الإخوان المسلمين بالسرية، فقد أصبحت هذه النخب متواطئة في عملية التآمر والخداع ضد الجماعة. والأسوأ من ذلك، أنه وحتى الانتقادات المتزنة والعقلانية التي وجهت للمسلمين الأمريكيين على اعتبار أنهم منتمون لجماعة الإخوان المسلمين، وصفت بدورها بالعنصرية. وقد أدى هذا الوضع لفسح المجال لكل الأصوات الشعبوية، والانتهازيين، والغوغائيين، لاقتناص الفرصة وتصدر المشهد، وبذلك أصبح الخطاب السياسي غير النزيه الذي نستمع إليه، تهديدا حقيقيا للديمقراطية الأمريكية، وأكثر خطورة حتى من أي ارتباطات مفترضة للإخوان المسلمين بالإرهاب.
في قلب الدول العربية التي تجذرت فيها هذه الجماعة جيلا بعد جيل، يمثل الإخوان اليوم حركة اجتماعية وثقافية أكثر من كونهم حزبا سياسيا
الإخوان الأمريكيون
تأسست جماعة الإخوان المسلمين في مصر في سنة 1928، بهدف إحياء الحكم الإسلامي وكردّ فعل على الهيمنة العلمية والثقافية والعسكرية التي فرضها الغرب المسيحي على المسلمين. ولتحقيق هذا الهدف، اعتمد الإخوان في بعض الأوقات على الاغتيالات السياسية والهجمات المسلحة. ولكن هذه الوقائع لا تعني بالضرورة أن جماعة الإخوان هي عبارة عن منظمة إرهابية، في الوقت الحالي.
في قلب الدول العربية التي تجذرت فيها هذه الجماعة جيلا بعد جيل، يمثل الإخوان اليوم حركة اجتماعية وثقافية أكثر من كونهم حزبا سياسيا. وعلى الرغم من أن هذه الجماعة لم تتخذ في يوم من الأيام موقفا حاسما ضد العنف، إلا أن العنف لم يكن وسيلتها المفضلة لتحقيق أهدافها. في المقابل، ومنذ الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر في سنة 2013، ضد الرئيس محمد مرسي الذي ينتمي لجماعة الإخوان، عمد النظام الجديد في القاهرة، إلى جانب أنظمة أخرى في المنطقة، لتصنيف هذا التيار على أنه منظمة إرهابية، داعيا واشنطن للقيام بنفس الخطوة.
خلافا لذلك، وفي الولايات المتحدة، لم يتم اثبات ارتباط الإخوان المسلمين بأي تهديدات إرهابية أو هجمات، أو ضلوعهم في تنفيذها مطلقا، مع العلم أن بعض الإسلاميين الذين انخرطوا في العمل المسلح ضد الولايات المتحدة، كانت بدايتهم في بعض فروع هذه الجماعة. والجدير بالذكر أن خالد شيخ محمد، العقل المدبر لهجمات 11 أيلول/سبتمبر، ومحمد عطا، أحد المشرفين على تنفيذ الهجمات، كانا من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في كل من اليمن ومصر.
لا يعتمد الأمريكيون الذين ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين على العنف، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الإخوان المسلمين لا وجود لهم في الولايات المتحدة
علاوة على ذلك، تمثل حركة حماس التي تم تصنيفها منظمة إرهابية أجنبية، من قبل الحكومة الأمريكية وحلفائها، فرع جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين. في الحقيقة، لم تستهدف حماس أمريكيين على الأراضي الأمريكية نهائيا. في المقابل، اعتمدت الحركة على أسلوب الهجمات الانتحارية ضد الإسرائيليين، وقد أدى ذلك إلى مقتل أمريكي واحد في إحدى العمليات. كانت حماس تنشط في الولايات المتحدة بحرية وتجمع التمويلات، قبل أن تشدد عليها الحكومة في واشنطن الخناق، إبان هجمات 11 من أيلول/سبتمبر.
في الواقع، لا يعتمد الأمريكيون الذين ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين على العنف، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الإخوان المسلمين لا وجود لهم في الولايات المتحدة. فعلى الرغم من أنه لا وجود لمنظمة في الأراضي الأمريكية تنشط اليوم تحت اسم الإخوان المسلمين، ولم يكن الحال كذلك في يوم من الأيام، إلا أنه وفي حقبة الخمسينات والستينات، عندما أخذ المسلمون بالتوافد للدراسة بالجامعات الأمريكية، لعبت عناصر تابعة لجماعة الإخوان المسلمين وبعض قياداتها دورا أساسيا في إنشاء المؤسسات والمنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة.
على العموم، تتضمن هذه المؤسسات الإسلامية نظريا أكبر المنظمات التي تمثل المسلمين في المشهد السياسي الأمريكي الحالي، على غرار الجمعية الإسلامية في أمريكا الشمالية (ISNA)، رابطة الطلبة المسلمين (MSA)، مجلس الشؤون العامة للمسلمين (MPAC)، جمعية المسلمين الأمريكيين (MAS)، ومجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR). وفي السياق ذاته، أكدت الباحثة الفرنسية جوسلين سيزاري، في كتابها “موسوعة الإسلام في الولايات المتحدة”، أن “الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة لعبوا دورا مؤثرا في تشكيل المشهد العام للإسلام الأمريكي”.
الاختباء في العلن
وفي الأثناء، باتت هذه المنظمات التي أنشأها الإخوان، في طليعة اهتمامات الجيل الجديد من الشباب المسلم الذي ولد في الولايات المتحدة، والذين يصرون على المطالبة بحقوقهم المدنية وحقوقهم الدينية باعتبارهم مواطنين أمريكيين. وفي هذا الصدد، أقرت ليلى أحمد، الباحثة في مدرسة اللاهوت بهارفارد، في كتابها الذي أصدرته في سنة 2011 تحت عنوان “ثورة صامتة”، أن “الإسلاميين وأبناؤهم الذين جاؤوا من بعدهم لا يمثلون اليوم أكثر من أقلية ضمن أقلية أخرى وهم المسلمون الأمريكيون”.
في السنوات الأخيرة مارس الإخوان المسلمون نشاطهم تحت مظلة الجمعية الإسلامية الأمريكية
خلافا لذلك، ومن خلال سيطرتهم على أغلب المؤسسات الإسلامية في أمريكا، يمثل الإخوان المسلمون الشريحة الأكثر تأثيرا وبروزا ضمن هذه الأقلية المسلمة. فضلا عن ذلك، يتمتع الإخوان بحضور قوي في المشهد الثقافي والاجتماعي للمسلمين، والأكثر نشاطا داخل الجالية الإسلامية. كما يعرفون بالتزامهم الشديد على الصعيد السياسي والاجتماعي.
وفي هذا الإطار، يمكن أن نستشهد بنموذج الجمعية الإسلامية الأمريكية، التي تأسست في سنة 1992. ففي ذلك الوقت، كان الإخوان المهاجرون من عدة بلدان، على اقتناع بأنهم على الأرجح لن يعودوا إلى أوطانهم. فضلا عن ذلك، كانوا مجبرين على إيقاف نشاطهم حتى في داخل الولايات المتحدة على اعتبارهم مجموعات منتمية للجماعة الأم (الإخوان المسلمون في العراق، والإخوان المسلمون في مصر). ومن هذا المنطلق، بادروا بإنشاء منظمة جديدة إسلامية أمريكية، ليتحدوا جميعا تحت لوائها.
على العموم، تعرّف الجمعية الإسلامية الأمريكية نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها: “منظمة أمريكية مستقلة لا ارتباط لها بالإخوان المسلمين أو أية منظمة أخرى دولية”. في المقابل، تقرّ الجمعية بأن “الكثير من المنظمات التي أسسها المهاجرون في الماضي، قد ساهم في بعثها أشخاص انتموا قبل ذلك لجماعة الإخوان المسلمين”.
في سنة 2004، نشر تحقيق استقصائي في صحيفة شيكاغو تريبيون، سُلط من خلاله الضوء على العلاقات المباشرة بين الجمعية الإسلامية الأمريكية وجماعة الإخوان المسلمين. وبالاعتماد على جملة من الوثائق والمقابلات التي أجريت في الولايات المتحدة ومصر، استنتجت الصحيفة أنه “في السنوات الأخيرة مارس الإخوان المسلمون نشاطهم تحت مظلة الجمعية الإسلامية الأمريكية. وفي حين تتنوع أنشطة الإخوان من بلد إلى آخر، وتعتبر فروعهم مستقلة عن المركز، تؤكد القيادات الدولية في مصر أن كل هذه الفروع تتوحد وفقا للقناعات نفسها، فضلا عن أن القيادة في مصر تشرف على تقديم النصح والإرشاد لها”.
إن الجمعية الإسلامية الأمريكية، التي تملك عشرات المقرات المحلية على الأراضي الأمريكية، كانت تمثل المنظمة الأكثر قربا من جماعة الإخوان المسلمين عندما تم تأسيسها في بداية التسعينات
وكشفت الصحيفة في نهاية التحقيق عن مذكرة سرية تم إرسالها لقيادات الجمعية الإسلامية حول سبل التعامل مع تحقيقات الأجهزة الأمنية الأمريكية. وقد ورد في نص المذكرة ما يلي: “إذا سئلتم عن انتمائكم لجماعة الإخوان المسلمين؟ فكل القيادات مطالبة بالرد بأنهم مجموعة مستقلة تسمى الجمعية الإسلامية الأمريكية”.
وفي مقال آخر صدر في السنة نفسها، ذكرت شيكاغو تريبيون أن مسجدا في ضاحية بريدج فيو في شيكاغو، تابع للجمعية الإسلامية الأمريكية، قد أصبح تحت سيطرة الإخوان المسلمين على إثر صراع مقيت لافتكاك القيادة. وفي وقت لاحق، أتهم المسجد ذاته من قبل هذه الصحيفة ومن صحف أخرى بأنه أصبح مركزا لجمع التمويلات لحركة حماس.
عموما، لم تحظ هذه الأدلة على وجود الإخوان في الولايات المتحدة، بكثير من الاهتمام والدراسة. فعلى سبيل المثال صدرت مؤخرا دراسة إثنية قام بها باحثان في جامعة شيكاغو حول “المدرسة العالمية”، وهي مدرسة إسلامية تقع في بريدج فيو. وقد وصفت هذه الدراسة المدرسة على أنها “مبنى يقبع ضمن مجموعة من المباني تضم مسجد، ومركز للشباب، ومكتب الجمعية الإسلامية الأمريكية في شيكاغو، ومدرسة الأقصى للبنات”. في المقابل، تغاض المشرفون على هذه الدراسة عن ذكر علاقة الجمعية الإسلامية الأمريكية بجماعة الإخوان المسلمين. في الوقت ذاته، أشار القائمون على هذه الدراسة إلى أن الكثير من الفلسطينيين يقطنون في هذه المنطقة، إلا أنهم لم ينشؤوا أي علاقة بينهم وبين حركة حماس.
في الواقع، لا يقتصر هذا المشكل المتمثل في الاهتمام الانتقائي، فقط على الأوساط الأكاديمية. ففي دراسة صدرت في سنة 2010، عن منتدى مركز بيو للدين والحياة العامة، ورد أن “الجمعية الإسلامية الأمريكية، التي تملك عشرات المقرات المحلية على الأراضي الأمريكية، كانت تمثل المنظمة الأكثر قربا من جماعة الإخوان المسلمين عندما تم تأسيسها في بداية التسعينات”.
اعتمدت الجمعية الإسلامية الأمريكية على مبدأ التكيف من أجل البقاء
وفي السياق نفسه، أضافت الدراسة أن “القيادة الحالية لهذه الجمعية تنأى بنفسها عن أي ارتباط بالجماعة، وتؤكد على أن أهدافها مقتصرة على “الدفاع عن الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية”. وفي مواجهة سيل الانتقادات والتناقضات التي شابت هذه الدراسة، لم يقدم منتدى بيو أي تبرير لموقفه الداعم لخطاب القيادات الحالية للجمعية.
وفي الأثناء، لطالما طغى هذا الطابع من التهرب والغموض في بوسطن، التي لا تحتضن فقط أبرز مؤسسات البحث العالمية، بل أيضا مجتمعا إسلاميا متمدنا ومتنامي. وفي سنة 2009، فتح “المركز الثقافي للجمعية الإسلامية في بوسطن” أبواب مسجده الجديد والفخم، غير بعيد عن كلية الطب بهارفارد ومتحف الفنون الجميلة.
ولكن هذا لم يتحقق إلا بعد جدال كبير اندلع واتهامات تم توجيهها حول ارتباط هذا المسجد بمسلمين متشددين. وبالفعل في سنة 2004، كان عبد الرحمان العمودي، وهو مؤسس مجلس إدارة المسجد، قد تم الحكم عليه بالسجن 23 سنة بسبب ضلوعه في مخطط موله الدكتاتور الليبي معمر القذافي، لاغتيال ولي العهد السعودي الملك عبد الله. وكان يوسف القرضاوي، الإمام البارز والمستقر حاليا في قطر، والذي يعرف بتعاطفه مع الإخوان المسلمين، حتى أنه قدم لهم فتوى تبيح الهجمات الاستشهادية للفلسطينيين، قد ظهر اسمه على لائحة مجلس أمناء هذه الجمعية في وثائق إقرارها الضريبي.
وفي خضم هذا الجدل، كانت إدارة “المركز الثقافي للجمعية الإسلامية في بوسطن” تتم من قبل فرع “الجمعية الإسلامية الأمريكية” في مدينة بوسطن، الذي كان يفتخر بهذا الدور، من خلال تعليق لافتات كبيرة في واجهة مكتبه الجديد. ورغم ذلك فإن وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية والنخب السياسية في بوسطن لم تعبر عن أي قلق حيال إمكانية وجود روابط بين هذا المسجد والإخوان.
هنالك حاجة للتأكد مما إذا كان الإخوان المسلمون قد عدّلوا حقيقة من آرائهم لتصبح أكثر اعتدالا كنتيجة لتجربتهم في الحياة الأمريكية، أم أن هذا لم يحدث فعلا
وبالعودة إلى سنة 2004، كانت صحيفة بوسطن غلوب قد أعلنت أن التساؤلات بشأن ارتباط المركز الثقافي للجمعية الإسلامية ببوسطن مع إسلاميين متشددين تمت الإجابة عليها إجابة شافية، وتم غلق هذا الملف، رغم وجود أدلة تثبت العكس. وفي حزيران/يونيو 2015، صرحت المدعية العامة كارمن أورتيز، التي عينها الرئيس في مدينة بوسطن، خلال حوار لها مع نيويورك تايمز، بأن الاتهامات التي تصر منظمة “أمريكيون من أجل السلام والتسامح” على توجيهها لهذا المركز الثقافي بشأن علاقته بالإخوان المسلمين، هي “اتهامات عنصرية وظالمة”. ولاحقا بعيد انتخاب دونالد ترامب ليكون رئيس الولايات المتحدة، قام عمدة بوسطن، مارتن وولش، والسيناتور إيليزابيث وورن، بالحضور إلى المركز الثقافي للجمعية الإسلامية في بوسطن بهدف إظهار تضامنهم مع المسلمين.
مثل هذه التصريحات التي صدرت عن المدعية العامة أورتيز، تحمل نوايا طيبة، وهي تأتي في الغالب من أشخاص يشعرون بالقلق من تنامي الخوف غير العقلاني من الإسلام، والارتياب الذي يسيطر على بعض الأمريكيين، في مسعى لمواجهة هذه المخاوف وتبديدها. ولكن هذه التصريحات أيضا لا تمثل طرحا كافيا أو دليل نفي للاتهامات التي يوجهها أشخاص عرفوا بالرصانة والعقلانية للإخوان المسلمين، مثل ليلى أحمد.
وقد قدم محمد نمر، المدير السابق لقسم البحوث في مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR)، والأستاذ بالجامعة الأمريكية في واشنطن، المزيد من الأدلة حول هذا الأمر. فقد كتب نمر عديد المقالات بصفته شخصا عارفا بأمور هذه الجماعة من الداخل، وكشف أسرارا وقدم تحليلات حول نشاط الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة، سواء تمثل ذلك في إنشاء المنظمات التي تسعى للدفاع عن صورة الإسلام وتحسينها أمام الرأي العام الأمريكي، أو جمع التبرعات للقضايا الإسلامية في دول أخرى مثل فلسطين.
وفي أحد هذه المقالات، انتقد نمر تحول الإخوان تدريجيا نحو مسمى الجمعية الإسلامية الأمريكية:
اعتمدت الجمعية الإسلامية الأمريكية على مبدأ التكيف من أجل البقاء، فقد تخلت عن أسلوب النشاط السري الذي كان معتمدا في السابق، وأنشأت هيكلة تنظيمية مستقلة
وفي مقال آخر بعنوان “أمركة الفكر الإسلامي” نشر في صحيفة أمريكان إنترست في سنة 2011، اعتبر نمر بنفس هذا المنطق بأن “هنالك حاجة للتأكد مما إذا كان الإخوان المسلمون قد عدّلوا حقيقة من آرائهم لتصبح أكثر اعتدالا كنتيجة لتجربتهم في الحياة الأمريكية، أم أن هذا لم يحدث فعلا”.
هنالك ارتباطات شخصية وغير رسمية، وعلاقات إيديولوجية بين القاهرة وهذه الفروع، ولكن مثلما ذكرت الباحثة البريطانية أليسون بارجيتر في كتابها “الإخوان المسلمون، عبء التقاليد”، فإن الجماعة لا يتجاوز تأثيرها على الصعيد العالمي مجرد الكلام
وفي هذا المقال شرح نمر كيف أن الإخوان ساهموا في إنشاء وتطوير شبكة في الولايات المتحدة لتقديم الدعم المادي لحركة حماس، قبل وبعد تصنيفها كمنظمة إرهابية في 1996، وبعد ذلك خلص نمر إلى أن “سلوك الإسلاميين في الولايات المتحدة يبدو مراوغا لأن تصريحاتهم ونشاطاتهم لا تعكس رؤية واضحة أو تحدد أهدافا حقيقية لهم في الولايات المتحدة”.
ومن نقاط الضعف في هذه الاستنتاجات التي خلص إليها نمر؛ أنه بالرغم من كون الإخوان المسلمين يمتلكون فروعا منتشرة في الشرق الأوسط وأوروبا والقارة الأمريكية بنصفيها الشمالي والجنوبي، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تشبيههم مثلا بمنظمة “الأممية الشيوعية”. وفي الواقع لا يمكن حتى تشبيههم بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية، لأنه على الرغم من أن الإخوان المسلمين المصريين وقياداتهم يتمتعون بنوع من السلطة المعنوية باعتبارهم ورثة مؤسس الجماعة حسن البنا، فإنهم لا يمارسون أي سيطرة حقيقية على هذه الفروع.
ومن المؤكد أن هنالك ارتباطات شخصية وغير رسمية، وعلاقات إيديولوجية بين القاهرة وهذه الفروع، ولكن مثلما ذكرت الباحثة البريطانية أليسون بارجيتر في كتابها “الإخوان المسلمون، عبء التقاليد”، فإن الجماعة لا يتجاوز تأثيرها على الصعيد العالمي مجرد الكلام.
الحقيقة والخيال
في الولايات المتحدة إذا، يمكن القول إن جماعة الإخوان المسلمين لا تشكل تهديدا إرهابيا، ولكن رغم ذلك فإن حضورها هو أمر لا يمكن نفيه. فلماذا إذا قامت النخب الأمريكية بطمس الأدلة الموثوقة حول الدور الفعال الذي يلعبه الإخوان وسط المجتمع الإسلامي الأمريكي؟
أحد الأجوبة على هذا السؤال هو أنه بالنسبة للكثيرين، فإن مثل هذه الحقائق والأفكار لا تتماشى مع المشاريع التي يخدمونها، والتي تتمثل بإقامة نظام عالمي لحقوق الإنسان الكونية، ووجود حدود هشة يسهل اختراقها. هؤلاء المتابعون والمحللون رفضوا بكل بساطة قبول أي حقائق تدحض هذا السيناريو.
في الواقع قبل سنوات قليلة عندما كانت وسائل الإعلام الأوروبية تصر على نشر مواد إعلامية مسيئة ومثيرة للجدل مثل رسوم النبي محمد، كانت نظيرتها الأمريكية تفضل الامتناع عن هذا السلوك
ولكن في هذا السياق، قطعت النخب الأمريكية شوطا كبيرا في طريق الليبيرالية والعولمة. فقد استسهل هؤلاء خيار تجاهل الحقائق التي تقلق الكثير من مواطنيهم، وتعودوا على عدم الإصغاء لكل المخاوف والشكوك حول الإسلام والمسلمين، ووصفها بأنها غير عقلانية وتعبر عن الكراهية.
ومن الأمثلة على ذلك تصريح المرشحة الرئاسية السابقة عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، التي وصفت أنصار دونالد ترامب بأنهم مصابون بالإسلاموفوبيا، ونعتتهم بأنهم بؤساء. وبذلك أصبحت حالة الإحباط والغضب لدى الكثير من الأمريكيين ليست موجهة نحو المسلمين بقدر ما هي موجهة نحو هذه النخب.
وللأمانة فإن مساعي هذه النخب للتصدي لحالة التخويف تمثل نقطة إيجابية في الثقافة السياسية الأمريكية. فقد اكتسب المجتمع المدني الأمريكي قدرة على ضبط النفس، تطورت لديه في ظل أجواء حرية التعبير التي يضمنها التعديل الأول في الدستور. وفي الواقع قبل سنوات قليلة عندما كانت وسائل الإعلام الأوروبية تصر على نشر مواد إعلامية مسيئة ومثيرة للجدل مثل رسوم النبي محمد، كانت نظيرتها الأمريكية تفضل الامتناع عن هذا السلوك، ويبدو أن ثقافة حرية التصرف في الولايات المتحدة مكنت الإعلام من اكتساب نوع من الوعي بخطورة حرية التعبير عندما لا تكون متزنة.
ولكن هذه النخب في إطار مساعيها لحماية حقوق المسلمين والدفاع عنهم، تبنت رواية معدّلة حول تاريخ الإسلام المتقلب والمعقد في الولايات المتحدة. وبذلك بات الإسلام يوصف في كل مناسبة بأنه عقيدة أسيئ فهمها، تماما مثل الكاثوليكية في بدايات التاريخ الأمريكي.
تسيطر على اليمين الأمريكي على اليوم مجموعات شعبوية ومؤدلجة متعصبة، تسعى بشكل مهووس لكشف ما تعتبره “إرهاب الإسلاميين”
هذا لا ينفي أن هنالك بعض النقاط المشتركة بينهما التي يمكن الإشارة إليها، إلا أن الكاثوليكية لم تتهم في أي وقت بالارتباط بالإرهاب العالمي، ولم ترتبط بهجوم على الأراضي الأمريكية مثل أحداث 11 أيلول/سبتمبر. وفي الواقع، فإن هذه النخب تعاونت مع قيادات الإخوان المسلمين والعديد من المتعاطفين معهم، إلى درجة أنها باتت تنفي في خطابها الشعبي أي حضور للإخوان المسلمين في الولايات المتحدة في الوقت الحالي.
أما بالنسبة للقيادات الأمريكية المحافظة، فقد ولت تلك الأيام التي تلت هجمات 11 أيلول/سبتمبر، عندما كان الرئيس جورج بوش الابن يمد يده إلى قيادات المسلمين الأمريكيين المعروفة، والذين كان بعضهم على علاقة مع الإخوان.
وعوضا عن ذلك فإن اليمين الأمريكي تسيطر عليه اليوم مجموعات شعبوية ومؤدلجة متعصبة، تسعى بشكل مهووس لكشف ما تعتبره “إرهاب الإسلاميين”، ولأجل ذلك فهذه المجموعات تتغاضى عن عمد عن الأدلة المذكورة هنا، لأن هذه الأدلة ربما تثبت صحة وجهة نظرها، ولكنها ستنفي الكثير من الادعاءات والتخويف الذي تمارسه، وعوضا عن ذلك فقد انخرطت في نظرية المؤامرة وسيناريوهات تافهة تتغذى من قلق الرأي العام. ويمكن اعتبار المبادرة التشريعية التي تقدم بها النائب تيد كروز بكل انتهازية، واحدة من نتائج هذه الأجواء المسمومة التي تم خلقها.
اتصل بالشرطة الفيدرالية
بالنظر إلى أن كير قد أصبحت في ذلك الوقت أكبر وأبرز المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة وأكثرها نشاطا، فإن هذا القرار بالتأكيد لم يكن من السهل على الأف بي آي اتخاذه
أحد نماذج هذا السلوك الذي تعتمده النخبة في التعامل مع الإخوان المسلمين، يتمثل في التعامل المباشر بين المسلمين والموظفين الحكوميين، خاصة أولئك الذين يعملون في الأجهزة الأمنية، على مستوى المدن والولايات وعلى المستوى الفيدرالي.
هؤلاء المسؤولون التزموا بالحذر الشديد حتى لا يتم إقحامهم في الجدل العام حول الإخوان المسلمين، وعندما تتم محاصرتهم بالأسئلة من قبل المواطنين القلقين، يحاولون المراوغة والتهرب وعدم تقديم إجابات محددة. وهذا الأمر كان واضحا من سلوك قيادات الشرطة في لوس أنجلس ومدينة نيويورك.
وهنا يبدو أن التفسير الوحيد لهذا الحذر والحياد هو لدوافع قاهرة، فبالنسبة لقوات الشرطة وبقية الوكالات الحكومية، فإن المسألة على درجة كبيرة من الحساسية، وليست كما هو الحال مع الأوساط الأكاديمية والإعلامية. إذ أن نجاح هؤلاء الموظفين في تأدية مهامهم يتوقف بشكل كبير على محافظتهم على علاقة طيبة مع المجتمع الإسلامي. وكما هو معلوم فإن المنظمات المرتبطة بالإخوان المسلمين، على الرغم من الانتقادات الموجهة لها والأخطاء التي وقعت فيها، تمتلك علاقات قوية داخل نسيج مسلمي أمريكا.
وكان هنالك استثناء واحد فيما يخص هذا الالتزام من قبل الأجهزة الأمنية بالمحافظة على العلاقات مع المنظمات المرتبطة بالإخوان المسلمين. ففي بدايات سنة 2009، سلم مكتب التحقيقات الفيدرالي تقريرا إلى أعضاء في الكونغرس ذكر فيه أنه قطع تعاونه مع مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية كير، وأرجع ذلك إلى اكتشاف وجود ارتباط بين مؤسسي كير وحركة حماس. وبالنظر إلى أن كير قد أصبحت في ذلك الوقت أكبر وأبرز المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة وأكثرها نشاطا، فإن هذا القرار بالتأكيد لم يكن من السهل على الأف بي آي اتخاذه. وقد عكست التفسيرات الرسمية التي تم تقديمها للرأي العام سعي الأف بي آي للنأي بنفسه أولا عن مؤسسي كير، وليس عن كل الناشطين في هذه المنظمة.
الوثائق الأف بي آي: يتم بناء المؤسسات الإسلامية بشكل بطيء وصبور، وخاصة المساجد والمدارس والمراكز الاجتماعية، لتقديم نموذج يمثل نوعا من “الجهاد الأعظم” الذي سوف يدمر الحضارة الغربية من الداخل
ولكن كان واضحا أيضا غداة إدانة الحكومة الفيدرالية لخمس قيادات مسلمة بسبب عملها في جمع التمويلات لحركة حماس عبر “مؤسسة الأرض المقدسة”، أن قيادات الأف بي آي في واشنطن شعرت أنها لم يعد بإمكانها السكوت عن أي منظمة أخرى مرتبطة بشكل مباشر بحركة حماس. وفي مكاتب العمل الميداني التابعة للأف بي آي، جاءت ردود الأفعال مختلطة من قبل عملاء الوكالة، الذين كانوا في أمس الحاجة للحفاظ على علاقات مع مصادرهم داخل المجتمع الإسلامي.
وقد مرت هذه الخطوة التي اتخذها مكتب التحقيقات الفيدرالي ضد كير دون أن تحظى بالكثير من الاهتمام. فأغلب وسائل الإعلام المعروفة تواصل استضافتها للمتحدثين باسم كير للإدلاء بالتعليقات، وهو ما حدث مجددا عند التطرق للمقترح الحالي بتصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية أجنبية، كما أن ذلك يتم دون أي إشارة لتاريخ كير وجذورها. وبذلك فإنها من خلال عملية تجديد لقياداتها الوطنية، تمكنت المنظمة من مواصلة الانتشار، خاصة من خلال فروعها المحلية وفي الولايات.
وفي المقابل فإن قضية مؤسسة الأرض المقدسة وفرت حجة لدعاة نظرية المؤامرة والمعادين للإخوان، الذين اقتنصوا فرصة إماطة اللثام عن وثائق اللقاءات التي كان يعقدها قادة الإخوان، بعد أن كشف عنها مكتب التحقيقات الفيدرالي في سنة 2004 إثر العثور عليها في قبو سري في منزل أحد قيادات حماس الذي كان يعيش في ضواحي واشنطن العاصمة.
هذا الاكتشاف الذي تم الاعتماد عليه كدليل في اثنين من المحاكمات المنفصلة، والذي قاد في النهاية الحكومة الفيدرالية لغلق المؤسسة، تضمن الآلاف من الصفحات والتسجيلات لقيادات الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة من بداية الثمانينات وحتى منتصف التسعينات، وهي فترة كانت لم تكن فيها حماس مصنفة كمنظمة إرهابية. ولكن رغم ذلك كانت الحركة حينها تقف ضد التهديد الوجودي الذي مثلته اتفاقات أوسلو بالنسبة لها، باعتبارها قد تم توقيعها بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تعد خصم حماس.
حذر كثيرون من أن الإسلاميين كانوا، وربما لا يزالون، يهتمون بشكل أساسي بخوض “الجهاد الحضاري”
خلال هذه اللقاءات التي تم عقدها في عدة أنحاء من الولايات المتحدة، عبّر قادة الإخوان المسلمين، بمن فيهم مسئولون في حركة حماس، عن امتعاظهم الشديد من واقع الثقافة والقيم الأمريكية، خاصة تجاه ظاهرة النزعة الاستهلاكية، الكحول، المخدرات، والعلاقات الجنسية. وقد اعتقد هؤلاء أن هذا الانحطاط الأخلاقي سوف يقود الولايات المتحدة إلى الإسلام، وأن واجبهم كقادة للجماعة يتمثل في تمهيد الطريق لهذا المصير المحتم، حتى يتحقق بشكل سلمي. فيما كانت مهمتهم الأخرى تتمثل في الترويج وجمع التمويلات لمنظمات لا تعتمد كلها العمل السلمي، على غرار حركة حماس في فلسطين.
وقد تناول أكبر المتقدين للإخوان المسلمين، على غرار فرانك غافني مساعد وزير الدفاع في إدارة الرئيس ريغن، والرئيس الحالي لمركز الدراسات الأمنية، هذه المعطيات وكتبوا عنها الكثير منذ ظهورها خلال المحاكمة. وقد حذر غافني وآخرون كثيرون من أن الإسلاميين كانوا، وربما لا يزالون، يهتمون بشكل أساسي بخوض “الجهاد الحضاري”. هذه العبارة التي تم استعمالها في الوثائق التي كشفها الأف بي آي، تشير إلى مسار بناء المؤسسات الإسلامية بشكل بطيء وصبور، وخاصة المساجد والمدارس والمراكز الاجتماعية، لتقديم نموذج يمثل نوعا من “الجهاد الأعظم” الذي سوف يدمر الحضارة الغربية من الداخل، باعتبار أنها ستنهار من تلقاء نفسها بسبب ضعفها وتآكلها.
إلا أن هذه الكتابات العديدة التي أصدرها أكبر معارضي الإخوان، افتقرت إلى أي منطق يأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي وعمليات التغيير. فهؤلاء لم ينتبهوا على سبيل المثال إلى أن الأفراد الذين شاركوا في هذه اللقاءات السرية كانوا في أغلبهم شبان غير متزوجين في عمر العشرينات، ابتعدوا عن وطنهم وعن عائلاتهم لأول مرة، وقد وجدوا أنفسهم في مجتمع يتمتع بالحرية الكاملة في الولايات المتحدة خلال فترة ما بعد الستينات. وعلى غرار أي مجموعة أخرى من الشباب من أي خلفية أخرى تجد نفسها في هذه الظروف، فإن هؤلاء الإخوان المسلمين أطلقوا العنان للخطابات والأفعال والتطلعات غير العقلانية.
أقر قادة الإخوان المسلمين بالحاجة لتكييف تفكيرهم وطرق عملهم مع الأوضاع في الولايات المتحدة
كما أن كتابات هؤلاء الناقدين للإخوان لم تتضمن أي اعتراف أو وعي بأنه في العشرين أو الثلاثين سنة الموالية، هذه الأحلام التي حملها الشباب الإسلاميون، خاصة أولائك الذين كانوا عباقرة في دراسة العلوم والهندسة، ربما تكون تغيرت أو تطورت.
فباعتبار أنهم لم يعودوا إلى أوطانهم على غرار بقية زملائهم، حصل هؤلاء الشبان على الأرجح على شهاداتهم الجامعية، ثم تزوجوا وخاضوا مسيرة مهنية ناجحة، وأنشئوا عائلات في الأراضي الأمريكية. والبيانات الاجتماعية والاقتصادية المتوفرة تؤكد إلى حد كبير هذا المسار، ولكن حتى لو كانت آراؤهم ومعتقداتهم لم تتغير كثيرا، فإن هذه التجربة الحياتية قد تخلق ظروفا جديدة وروابط تجعل من الصعب عليهم التصرف وفقا لهذه المعتقدات التي حملوها.
من جهتهم أقر قادة الإخوان المسلمين بالحاجة لتكييف تفكيرهم وطرق عملهم مع الأوضاع في الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، خلال جلسة عقدت في سنوات الثمانينات، حلل أحد القادة بحضور زملائه التحديات والفرص التي يواجهها نشاطهم هنالك: وقد بدأ حديثه بالإشارة إلى أن أعضاء الجماعة أغلبهم طلبة جامعيون أجانب ينوون العودة إلى أوطانهم، وهذا جعل جماعة الإخوان في الولايات المتحدة تعاني من تغيير 70 بالمائة من أعضائها كل خمس سنوات.
إن التحديات الجسام التي واجهتها منظمة مثل الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة لم يتم تناولها من قبل أكبر منتقدي هذه الجماعة
وفي المقابل فقد أشار المتحدث إلى أن الطلبة المسلمين في الجامعات الأمريكية، مقارنة بنظرائهم في بلدانهم الأصلية، كانوا أكثر اعتمادا على النفس واستقلالا، لأنهم ليست برفقتهم أم تغسل ثيابهم أو أب يعطيهم المصروف في نهاية الشهر. ومن الاستنتاجات المنطقية أن هؤلاء الشباب الذين استقطبهم الإخوان لم يكونوا مستعدين للقبول بالانضباط المطلوب في التنظيم، والبنية الهرمية للسلطة في مؤسسات هذه الجماعة. كما يجدر هنا التساؤل حول كيفية نجاح الإخوان المسلمين اليوم في اجتذاب شبان مسلمين ولدوا وعاشوا في الولايات المتحدة، خاصة وأن الكثير من قياداتهم مهاجرون لم يمر وقت كثير على قدومهم.
مسألة إيمان
النقطة المحورية هنا أن التحديات الجسام التي واجهتها منظمة مثل الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة لم يتم تناولها من قبل أكبر منتقدي هذه الجماعة. علاوة على ذلك فإن هؤلاء المنتقدين على ما يبدو ليست لديهم أي ثقة في أن مجتمعا كبيرا وقويا مثل المجتمع الأمريكي، بكل ما يمتاز به من انفتاح وقيم وما يحظى به من فرص، قد يكون هو من أثّر على المسلمين الأمريكيين أكثر من تأثيرهم هم عليه. وبالإضافة إلى ذلك فإن أولئك الذين يعبرون عن مخاوف من الإخوان لا يقدمون دليلا مقنعا حول ادعائهم بإمكانية نجاح ثلاثة ملايين مسلم (حوالي 1 بالمائة من السكان) في فرض حكم الشريعة أو ربما إقامة الخلافة في الأراضي الأمريكية.
كما أن هذه السيناريوهات تبدو موغلة في الخيال، خاصة في ظل الاستبيان الذي نشره مركز بيو، والذي أظهر أن 40 بالمائة من النساء المسلمات في الولايات المتحدة لا يرتدين الحجاب، وأكثر من 50 بالمائة من المسلمين لا يحضرون صلاة الجمعة في المساجد.
هذه الهجمات التي يشنها المحافظون والشعبويون على الإخوان المسلمون تتغاضى أيضا عن الخطر الحقيقي الذي قد يمثله هذا التنظيم، والذي قد يكون أكثر تعقيدا من الإرهاب والجهاد. وهذا الخطر ينبع من ميل الإخوان للعمل السري، الذي يختلط بأسلوب القيادة الهرمي والانضباط والتصلب الذي يعتمده القادة الذين جاؤوا كمهاجرين للولايات المتحدة، والذي يمكن وصفه بأنه “ثقافة الكتمان”.
ميل الإخوان المسلمين بشكل متواصل للسرية، وما يحمله ذلك من استعداد للمغالطة، يمكن نظريا اعتباره مثيرا للقلق من ارتكاب أفعال خطيرة
هذه السمة المتجذرة في جامعة الإخوان المسلمين تعود جذورها إلى الأنظمة الدكتاتورية التي نشأت تحت حكمها هذه الجماعة. وقد انتقلت هذه الصفة مع الإخوان إلى الولايات المتحدة لأن الكثيرين منهم كانوا يخططون للعودة إلى أوطانهم، وبالتالي فإن نظرتهم للأمور ظلت محكومة بالأوضاع الدائرة في بلدانهم. وحتى بعد أن بدؤوا بالاستقرار في الولايات المتحدة وبناء حياة جديدة، فإن هؤلاء القادة فهموا أن تصريحاتهم وأفعالهم ستكون لها رغم ذلك تبعات على أصدقائهم ورفاقهم وأقاربهم في بلدانهم.
والآن في ظل فشل الربيع العربي، والإطاحة بحكومة الرئيس محمد مرسي في مصر، وقرار النظام العسكري بحظر الإخوان المسلمين هنالك، تجددت هذه المخاوف مرة أخرى، خاصة مع وصول قيادات إسلامية جديدة إلى الولايات المتحدة قادمة من الشرق الأوسط.
ميل الإخوان المسلمين بشكل متواصل للسرية، وما يحمله ذلك من استعداد للمغالطة، يمكن نظريا اعتباره مثيرا للقلق من ارتكاب أفعال خطيرة، ولكن على الأقل في الولايات المتحدة فإن مثل هذه الأفعال لم ترتكب أبدا.
ولكن رغم ذلك فإن ثقافة الكتمان التي تتصف بها الجماعة أدت لتآكل الثقة، وهذا يظهر في داخل العائلات المسلمة عندما يتم التأكيد على الأزواج بعدم إخبار زوجاتهم بنشاطاتهم في الجماعة، أو في المؤسسات على غرار مسجد بريدج فيو، حيث قامت مجموعة من الإخوان بالتخطيط للسيطرة على مجلس الإدارة. فالكتمان يولد الارتباك والغضب والانقسام داخل الأمريكيين المسلمين، الذين هم أصلا منقسمون إلى فسيفساء من المجموعات الطائفية والإثنية والعرقية.
إن تعامل الشعبويين مع الإسلام في الولايات المتحدة، يعكس حالة من القلق الثقافي والاجتماعي، التي تكشف عن غياب الثقة في الثقافة الأمريكية وفي النخب الفكرية والسياسية والاقتصادية
كما أن هذه السرية تسلط أيضا ضغطا على العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وقد أشار لذلك عالم الاجتماع إدوارد شيلس قبل ستين سنة في كتابه “عذاب السرية”، الذي سلط الضوء على ظاهرة الماكارثييزم (نسبة إلى ماكارثي الذي كان يقود حملة تخويف شعواء ضد الشيوعيين)، حيث ذكر فيه أن أمة من المهاجرين مثل الأمة الأمريكية، تظهر فيها بشكل طبيعي تساؤلات حول الولاء، ولا يمكن تفادي ذلك. وتبعا لذلك فإن ضرورة الالتزام بالسرية، سواء كان ذلك بسبب المخاوف الأمنية أو بطلب من الرفاق، يقوّض الخصوصية الفردية والثقة التي تنبني عليها المجتمعات الليبرالية التعددية الديمقراطية.
وفي الخلاصة، فإن تعامل الشعبويين مع الإسلام في الولايات المتحدة، يعكس حالة من القلق الثقافي والاجتماعي، التي تكشف عن غياب الثقة في الثقافة الأمريكية وفي النخب الفكرية والسياسية والاقتصادية. هنالك غياب صادم للثقة في صلابة القيم وأسلوب حياة المجتمع الأمريكي، وعدد كبير من الأمريكيين ينظرون إلى بلادهم على أنها هشة وقابلة للانهيار. وهؤلاء ليسوا مخطئين تماما، ولكن في كل الأحوال فإن الولايات المتحدة لن تنهار على يد الإسلام أو الإسلاميين. ورغم ذلك فإن الأمريكيين أقل استعدادا للإيمان بهذا، خاصة عندما يشعرون بأن النخب تخلت عنهم ولم تتطرق لمخاوفهم وانشغالاتهم بشكل صادق.
المصدر: فورين أفيرز