كانت رؤية الموصل ولو من علو بعيد حلمًا لا يمكن تصديقه أو تحقيقه قبل ستة أشهر من الآن على الأقل، فكل المعطيات التي كنا نراها كأناسٍ بسطاء تجعل من أمر تحرير المدينة مستحيلاً، وكان الأمل يخفت بنا يومًا بعد يوم.
في فترة النزوح كنت وما زلت أقطن في مدينة أربيل الكردية المجاورة لمدينة الموصل، في كل يوم كنت أمر من الشارع الذي يؤدي إلى الموصل، كان الطريق الذي يفصلني عنها لا يتجاوز في حالاته الطبيعية ساعة بالسيارة، أقف متأملاً في الشارع والذكريات التي تأخذني إلى أيامٍ ماضية، لكنني أصحو من تلك التأملات على كآبة الحقيقة، فالطريق إلى الموصل أصبح يحتاج إلى أيام وأيام للوصول إليها، فإن فكرت مغامرًا للعودة إليها، فيفترض بي أن أذهب من أربيل إلى تركيا، ومن هناك أنطلق باتجاه سوريا، وبعدها على الاتجاه إلى الموصل، طريق الساعة أصبح أيامًا، وهو ضرب من الجنون على أقل تقدير!
بدأت عمليات التحرير في أكتوبر الماضي من عام 2016 ، حزمت أمري لرؤيتها، بدأنا الطريق باتجاه الموصل، بدأت الذكريات ترغمني للحديث عن هذا الطريق مع رفاق الرحلة
بعد أن بدأت عمليات التحرير في أكتوبر الماضي من عام 2016، حزمت أمري لرؤيتها، بدأنا الطريق باتجاه الموصل، بدأت الذكريات ترغمني للحديث عن هذا الطريق مع رفاق الرحلة، كنت أحدثهم عن كل متر فيه وعن المناطق التي نمر بها، الخازر والحمدانية وبرطلة، وفي لحظة بدأت دقات القلوب تتسارع، ها هي الموصل أمامنا، فهي لم تعد تبعد سوى أقل من 10 كيلومترات، الطريق كان مليئًا بالنازحين، الناس هاربون بأنفسهم لا يحملون شيئًا، الدكاكين على جانبي الطريق مهجورة ومهدمة، لا صورة للموصل سوى صور الحرب، وأصوات الرصاص والقنابل تصل أسماعنا من بعيد.
اقتربنا من بوابة المدينة، كان أول ما صادفني لكي أعثر على الموصل هو مبنى التليفزيون الشهير، لمحت برجه العالي والضخم من بعيد، صرخت عاليًا، ها أنا أخيرًا أرى الموصل.
دخلنا إلى أول حي محرر، أزيز الرصاص المنطلق من طائرة أباتشي كان كفيلاً بإخبارنا أننا اقتربنا من الخطوط الأمامية، لم نستطع العبور كثيرًا ولا الوصول إلى مبنى التليفزيون فقد اقتربنا منه وأصبحنا على بعد عشرات الأمتار منه فقط، فهناك يدور القتال.
المشاعر لا يمكن أن أصفها بكلمات في ذلك الوقت، رؤية المدينة، الحرب، الهروب، الدمار، شعارات داعش، قتلاهم في الشوارع
تكررت الزيارات فيما بعد، لكنني لم أكن أفكر أبدًا في أن أبيت ليلة في المدينة، ربما خوفًا، لا أعلم، رغم أنني زرت بيتي بعد تحرير حينا، لكن كان المغيب هو لحظة الإيذان بالرحيل، فكل مرة كانت تغيب الشمس، أغيب معها عن الموصل.
لكن بعد أن تحرر الجانب الأيسر من الموصل بالكامل، قررت المبيت هناك ليلتي الأولى بعد عامين ونصف، كانت الحياة تعود تدريجيًا إلى هناك، هممت بزيارة كل الأحياء التي لي بها ذكريات، ذكريات الطفولة والمراهقة والعمل وهي لا تنتهي، مررت بحينا وكانت الوجهة زيارة أقدم صديق لي، لم أصدق رؤيته، فهو كما هو، لم يتوقف عن العمل في أحلك الظروف، مرح، لكن كَبُر من الحرب، كانت قصص السنوات تستعرض نفسها معنا، وكأننا أمام شريط سينمائي، كانت أطرف حكاية استذكرناها عندما كنا ندرس سويًا في بيته عندما كنا طلابًا في المرحلة الأخيرة من الدراسة الإعدادية، كنا ندرس 10 دقائق ونأخذ استراحة ساعة كاملة.
بعدها كانت الوجهة إلى النبي يونس، اللحظة الأولى لرؤيتي له صدمتني، رغم أنني رأيت الكثير من الفيديوهات والصور لعملية تفجيره، وكنت أعيدها دائمًا طول سنوات غيابي عن المدينة وسيطرة التنظيم عليها، لكن رؤيته بشكل حقيقي وأنا أقف أمامه كانت الرهبة والصدمة الحقيقية.
في أثناء التجوال لمحت من بعيد منارة الحدباء التي لا تزال محاصرة، وهي المنارة الموجودة في جامع النوري الكبير، والذي خطب فيها البغدادي زعيم التنظيم خطبته الوحيدة والشهيرة، إحساس الحصار موجع
ولم أنس وكان يرافقني صديقي الصحفي أحمد الدباغ المرور بجامعة الموصل والاقتراب من غابات الموصل رغم أنها لا تزال منطقة خطرة بسبب قربها من الجانب الأيمن، فضلاً عن الذهاب إلى الأحياء التجارية الشهيرة “الزهور والمثنى” وأحياء كثيرة أخرى.
في أثناء التجوال لمحت من بعيد منارة الحدباء التي لا تزال محاصرة، وهي المنارة الموجودة في جامع النوري الكبير، والذي خطب فيها البغدادي زعيم التنظيم خطبته الوحيدة والشهيرة، إحساس الحصار موجع، ومعرفتي أن هناك أناس من المدنيين الأبرياء يلاقون القتل عن طريق الإعدامات والقصف العشوائي لهو أمر مهول ومحزن، حاولت أن أبعد بصري عن المنارة وأنا أمضي في السيارة، لكنها كانت تلاحقني دائمًا حتى أختفيت أنا.
قدم الليل، وفي هذا الغروب لم أرحل عن المدينة، بل بقيت فيها، كانت الضيافة موصلية عظيمة رغم ما يمر به أهلنا هناك من وضع اقتصادي مزرٍ بسبب عدم صرف الرواتب لهم من قبل الحكومة، لكن صديقي آثر إلا أن تكون ضيافته “طائية “، وكان العشاء عنده موصليًا بامتياز “البسطرمة”.
رغم كل ذلك، فإن للنوم في الموصل طعم آخر لم أذقه من زمن، نمت ساعات قصيرة، لكنها أزالت عني تعب السنين
في هذه الليلة كانت لي تجارب عاشها الموصليون لسنوات وخصوصاً في هذه الأشهر الأخيرة، فالاقتصاد في الماء بشكل كبير هو التجربة الأولى، فالماء منقطع عن البيوت، والناس هنا يستعينون بحفر الآبار للحصول على الماء، غريبة وعصيبة هذه الحياة جدا، فالمدينة التي تقع على نهر كبير سكانها عطشى ولا يجدون الماء، حين كنت أهم في تلك الليلة للوضوء او لغسل يدي ، كان يجب علي أن استخدم القليل من الماء تجنبا لنفاذه!.
أما عن تجربة الكهرباء فهي مريرة، فسكان الموصل يقضون لياليهم بلا نور ، ربما يقضي بعضهم ليلته على الشموع والفوانيس ، أما المقتدرون حالا فهم يستخدمون بطاريات السيارات لتجلب لهم الضوء القليل ، وأصوات المدافع لم تكن لتتوقف في تلك الليلة منطلقة بصواريخها الى الجانب الأيمن الذي لا يزال القتال فيه محتدما حتى الآن.
لكن رغم كل ذلك، فإن للنوم في الموصل طعم آخر لم أذقه منذ زمن، نمت ساعات قصيرة، لكنها أزالت عني تعب السنين، كانت ليلة بلا “غربة”، رغم أنني أعيش حالة وشعور المغترب منذ عامين ونصف متنقلاً بين المدن والدول.
في الصباح أشرقت شمس الموصل، كان عليّ الرحيل والعودة إلى أربيل، لم أعد فارغ اليدين، فقد حملت رائحة المدينة، وهي تشبعت بي، ومعها “بسطرمة” و”سجق” و”طرشي” موصلي!