لا تزال رائحة الدماء تنبعث من هواتف ملايين العرب بعد استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي لمستشفى الأهلي المعمداني في قطاع غزة مساء البارحة موقعًا مجزرة رهيبة بحق 500 شهيد أغلبهم من النساء والأطفال تحولوا في دقائق إلى أشلاء، وتاركًا العالم يغرق في أكاذيب وبروباغندا يروج لها الإعلام الغربي ويمكّنها.
المعمداني
مستشفى الأهلي المعمداني، أحد قلاع غزة الصامد على مرّ الزمان منذ ما قبل الانتداب الإنجليزي، ويعد أقدم مشافي قطاع غزة، ومن أقدم مستشفيات العالم بأسره التي ما تزال تواصل عملها منذ قرن ونصف.
- شيد المبنى عام 1882 من قبل جمعية الكنيسة الإرسالية التابعة لكنيسة إنجلترا، أيّ قبل نكبة فلسطين بعشرات السنين.
- عند تأسيسه، كان المستشفى الوحيد بالمنطقة ما بين يافا وبورسعيد، وقدم خدماته لما يقارب 200 ألف نسمة.
- عام 1904 اتخذ دوره كأكبر مستشفيات القطاع بإدارة الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس.
- تعرّض خلال الحرب العالمية الأولى للتدمير والنهب، ثم أعيد بناؤه وسمي “المستشفى الأهلي العربي” عام 1919.
- مع انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1948 قررت البعثة التبشيرية الإنجيلية التابعة لإنجلترا إقفال المستشفى.
- تكفّل به المذهب المعمداني الجنوبي وأداره كبعثة طبية بين عامي 1954 و1982، ومن هنا اتخذت اسمه “المعمداني”.
يقع المستشفى في حي الزيتون وسط مدينة غزة بين مئات الوحدات السكنية والأبنية المكتظة سكانيًا. ويقدر عدد المرضى المستفيدين منه يوميًا بالآلاف أغلبهم ممن يتلقى علاجًا لأمراض مزمنة كالسرطان والفشل الكلوي وغيرها.
وتحيط بالمستشفى كنيسة القديس برفيويوس ومسجد الشمعة ومقبرة الشيخ شعبان اللذان كانا ملجأ للناس من القصف الإسرائيلي الأخير بوصفها دور عبادة يمنع استهدافها وفقًا للقانون الدولي.
ليلة المجزرة الرهيبة
وفي بيان لوكيل وزارة الصحة في غزة يوسف أبو الريش، بعد ساعات من وقوع المجزرة قال إن جيش الاحتلال الإسرائيلي لمّح لإمكانية استهداف المستشفى قبل يومين من المجزرة باستخدام قذيفتين ألقيا في محيط المستشفى. وكانت إدارة المستشفى قد أبلغت مطران الكنيسة الإنجيلية في بريطانيا عبر اتصال هاتفي أعلمته خلاله بواقعة القذيفتين وتخوفهم من شنّ الاحتلال غارات كثيفة على المستشفى.
وأشار إلى أن المطران سارع بإبلاغ المؤسسات الدولية المعنية ثم بعث رسالة طمأنة للمستشفى وطلب من إدارته مواصلة عملهم.
وأكد أبو الريش في بيانه الذي ألقاه من ساحة المستشفى بين أشلاء الضحايا أن ممثل منظمة الصحة العالمية في القطاع الدكتور ماهر أبو ستة، سأل الجانب الإسرائيلي عن أسباب عدم تحذير المستشفى قبل قصفه، فأجابه المسؤولون الإسرائيليون بأنه “تم الاتصال على الهاتف ولم يرد أحد”، بينما بادروا بسؤاله متنصلين من جريمتهم عن لماذا لم تخلي الإدارة المكان منذ وقوع الاستهداف الأول قبل يومين.
مقطع يظهر #مستشفى_المعمداني قبل 20 ساعة تقريبًا من ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي مجزرة صادمة فيه والتسبب بمقتل ما لا يقل عن 500 فلسطيني في قطاع غزة
غزة_تحت_القصف #مجزرة_مستشفى_المعمداني#مجزره_المعمداني#المستشفيات_ليست_هدفا pic.twitter.com/eXxFVmZMAf
— نون بوست (@NoonPost) October 17, 2023
لاحقًا سارع الاحتلال عبر إعلامه والإعلام الغربي مجتمعًا، لنسب استهداف المستشفى للمقاومة الفلسطينية، زاعمًا أن صاروخًا فشلت المقاومة بإطلاقه بالشكل الصحيح وقع في ساحة المستشفى مختلفًا الكثير من الضحايا. بينما تثبت مقاطع الصور الحية التي التقطت الاستهداف لحظة وقوعه أنها قادمة من الجانب الإسرئيلي، بالإضافة لعدم امتلاك المقاومة لصواريخ قادرة على ترك هذا الدمار الكبير.
ولم تمض ساعات حتى أتت ردود الفعل الأوروبية مؤكدة على إدانة الجانب الإسرائيلي بهذه الجريمة من بينها قول رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، في مؤتمر صحفي، إن قصف إسرائيل لمستشفى في غزة و”الحصار الشامل” للقطاع الفلسطيني “لا يتماشى مع القانون الدولي”.
كما كتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد ساعات قليلة من الجريمة عبر حسابه الشخصي في منصة “إكس” إن فرنسا تندد بالهجوم على المستشفى الأهلي العربي في غزة الذي راح ضحيته الكثير من الضحايا الفلسطينيين. قلوبنا معهم. ويتعين كشف الملابسات”.
وفي معرض إدانتها للهجوم، قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية “إن قصف المستشفى الأهلي المعمداني في غزة جريمة حرب جديدة يرتكبها الجيش الإسرائيلي”. وتساءل أحمد بن شمسي، مدير الاتصالات في “هيومن رايتس ووتش” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: “متى ستفتح القوى الغربية أعينها وتضغط على حليفتها لوقف حمام الدم هذا؟”.
وأضاف بن شمسي أنها “جريمة حرب جديدة يرتكبها الجيش الإسرائيلي، في قائمة تطول وتطول أكثر فأكثر”.
لماذا مستشفى المعمدانية ولم الآن؟
ذكّرت قوة وهمجية مجزرة مستشفى المعمدانية البارحة الفلسطينيين بمذبحة قرية دير ياسين التي ارتكبتها مجموعتا الإرغون وشتيرن الصهيونيتان في نيسان عام 1948 غربي القدس والتي راح ضحيتها ما يقارب 400 طفل وإمرأة وشيخ ونتج عنها أكبر عملية إبادة وطرد جماعي في تاريخ فلسطين. ثم صارت هذه المذبحة بالتحديد سببًا مهمًّا في الهجرة الفلسطينية إلى مناطق أُخرى من فلسطين والبلدان العربية المجاورة لما سببته من حالة رعب كبيرة عند الناس.
إذ بعد اشتعال الصراع المسلح بين الفلسطيين والاحتلال بحلول ربيع 1948 تمكن الفلسطينيون ومتطوعون من مختلف البلدان العربية من شن هجمات على الطرق الرابطة بين المستوطنات اليهودية مما أوقع مئات القتلى في جيش الاحتلال واستطاع المقاومون حينها من قطع الطريق الرئيسي بين مدينة تل أبيب وغرب القدس ترك 16% من تعداد الصهاينة في فلسطين في حالة حصار.
هكذا بدا المشهد في مستشفى المعمداني صباح اليوم بعد المجزرة التي شهدتها ليلة البارحة#مجزرة_مستشفى_المعمداني#مجزره_المعمداني pic.twitter.com/2xEmEABLj1
— نون بوست (@NoonPost) October 18, 2023
حتى قرر الصهاينة شن هجوم مضاد للهجوم العربي على الطرقات الرئيسية، وبعد سقوط القسطل واستشهاد القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني بأيام هاجمت عصابتا شتيرن والأرغون قرية دير ياسين، على اعتبار أن القرية صغيرة ومن الممكن السيطرة عليها مما سيعمل على رفع الروح المعنوية لدى الصهاينة ويشكل ضربة معنوية للسكان العرب.
وهي ذاتها التي قال عنها زعيم منظمة “إتسل” الصهيونية المسلحة، ورئيس وزراء إسرائيل في الأعوام بين 1977 – 1982 مناحم بيغن، في مذكراته أنه “لولا دير ياسين لما قامت دولة إسرائيل” إذ كما رأى الاحتلال في هذه المذبحة الأثر الأكبر في حسم حرب عام ١٩٤٨ والوصول لتحقق هدفهم بإعلان قيام “دولة إسرائيل” في الخامس عشر من أيار من ذلك العام، يرى فيها اليوم محاولة لرد الاعتبار للمستوطنين الذين يطالبون حكومة نيتنياهو بالتنحي ويلقون اللوم عليه بفشل الجيش في التصدي لعملية طوفان الأقصى وأيضًا أخذ حماس لمئات الأسرى من أبناءهم.
وفي سياق متصل يعتبر استهداف المستشفى البارحة طريقة غير مباشرة لدفع الناس إلى النزوح خارج القطاع بعد محاولات حثيثة من جانب الاحتلال لتمكين نيته بتنفيذ عملية عسكرية برية، وهو نابع بالطبع من معرفة الاحتلال بأهمية الدور الذي تلعبه مستشفى المعمدانية وطاقمها من الأطباء والممرضين في إيواء المدنيين الهاربين من القصف العنيف، وتحوله لساحة تجمع للأطفال وتقديم الدعم النفسي لهم كما شاهدنا في الفيديوهات التي سبقت المجزرة بساعات قليلة.
فالناس كانوا يرون في هذه المستشفى تحديدًا مكانًا أكثر أمنًا من باقي المنشأت الصحية في القطاع كونها منشأة مسيحية ترعاها الكنيسة الإنجيلية وعلى اتصال مباشر ودائم مع مطران الكنيسة الإنجيلية في بريطانيا والصليب الأحمر الفلسطيني وأيضًا لاقتناعهم ربما بأنها محمية تحت بنود القانون الدولي بعدم التعرض للمشافي وأماكن العبادة.
لكن أهل غزة فاجئوا العالم بصمودهم ليلة البارحة معلنين من ساحة مستشفى المعمدانية وهم يحملون جثث وأشلاء أطفالهم بأنهم لن يغادروا غزة، مصرين على مجابهة الاحتلال والانتصار للمقاومة الفلسطينية بعدم السماح بتكرار نكبة جديدة يمشون بها إلى سيناء تاركين وراءهم 17 عامًا من التضحية وآلاف الشهداء والأسرى.