يطلق الغزيون وصف “النكبة الثانية” على هذا العدوان الإسرائيلي الهمجي، حيث القصف المباشر يستهدف الأهالي الآمنين في بيوتهم، ويدفعهم مكرهين إلى مغادرة بيوتهم وأحيائهم صوب جنوبي القطاع المحاصر تحت تهديد الغارات، بتحذير مسبق أو من دون.
وفيما تدور رحى تلك الحرب، تستعر حرب أخرى، حرب تستهدف بشكل خاص “الجنود المدنيين”: الطواقم الصحية والدفاع المدني والصحافة.
كل تصعيد على قطاع غزة يكون الجنود المدنيون في دائرة الاستهداف، فـ”إسرائيل” لا تريد النجاة لأي فلسطيني، ولهذا تقتل أي مشتغل في إنقاذه، حتى لو كانت كل قوانين الأرض تحرم استهدافه، ولهذا لا يخلو يوم من مقتل صحفي أو طبيب أو مسعف أو رجل دفاع مدني.
قبل مجزرة مستشفى المعمداني بثوانٍ، كانت عيون النازحين تتساءل: “هل هناك هدنة، وهل سنعود إلى بيوتنا؟”، لكن باغتهم صاروخ قتلَ 500 نازح، وأصاب مئات آخرين.
يقع المستشفى المعمداني التاريخي في حي الزيتون المكتظ بالسكان وسط مدينة غزة، ويضمّ واحدة من أكبر وأقدم الكنائس المسيحية العريقة، وكان صرحًا لتدريب البعثات الطبية من جميع أنحاء العالم.
مستشفى، تاريخي، كنيسة، وسط مكان مكتظ، مأوى آمن للنازحين؟ منذ متى تهتم “إسرائيل” لأيٍّ من هذا؟
بالتزامن مع ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي مجزرة في مستشفى المعمداني، تعرضت إحدى مدارس الأونروا للقصف الإسرائيلي أيضًا ما أسفر عن استشهاد المزيد من النازحين في قطاع غزة.#غزة_تحت_القصف #مجزرة_مستشفى_المعمداني#مجزره_المعمداني#المستشفيات_ليست_هدفا pic.twitter.com/ubczEgVMV1
— نون بوست (@NoonPost) October 18, 2023
المراكز الصحية والإنقاذ في مرمي نيران الاحتلال
عمَّ الغضب سائر البلاد العربية، وانتفض المتضامنون مع القضية الفلسطينية بعد قصف مستشفى المعمداني، رغم أنه ليس صادمًا ما فعله الاحتلال حين استهدف نازحين أرغمهم على الخروج من بيوتهم قبل أيام، فهو منذ بداية “طوفان الأقصى” يتعمّد استهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف والكوادر الطبية.
كم من طبيب يجد وهو يحاول إنعاش أجساد ممزقة أفراد عائلته أشلاء؟ وكم من طبيب ضمّد جراح ولده وشقيقه وصديقه دون أن ينتبه إلى ملامحهم بفعل الدماء المخلوطة بغبار الركام؟
جيش الاحتلال الإسرائيلي طلب إخلاء عدة مستشفيات في مدينة غزة وشمال القطاع، ومع دخول الحرب يومها الثامن تعرضت 15 مستشفى بشكل مباشر أو غير مباشر للقصف، وتوقف اثنان منها عن الخدمة.#جمعة_النفير#انتهت_فكرة_إسرائيل pic.twitter.com/MnGJ8gf43h
— نون بوست (@NoonPost) October 14, 2023
ومنذ بداية الطوفان، استهدفت الطائرات الحربية سيارات الإسعاف وقتلت عددًا من المسعفين لإعاقة عملهم في إنقاذ المصابين، كل يوم هناك جريمة على الأقل، إما قصف سياراتهم وإما اغتيال مجموعة منهم عمدًا، فبدلًا من نقلهم للشهداء والمصابين باتوا ينتظرون من ينقل جثمانهم من زملائهم.
ورغم الاستهداف المتعمّد للكوادر والمراكز الصحية، هناك طاقة كبيرة لدى العاملين لمواصلة عملهم حتى آخر نقطة وقود في “المواتير التشغيلية” للمستشفيات، وحتى بالطرق البدائية.
ووفق إحصائية أخيرة لوزارة الصحة، فإن من بين الشهداء 10 مسعفين، فيما أُصيب 27 مسعفًا بجراح مختلفة، بالإضافة إلى العشرات من الأطباء الذين فقدوا عوائلهم وهم على رأس عملهم، عدا عن الهجوم على 115 مرفقًا صحيًّا.
خلال الأيام الأولى للعدوان، استهدفت الطائرات الإسرائيلية بصواريخها مركبات وفرق الدفاع المدني والعديد من أطقم مزودي الخدمات في قطاع غزة، من أجل عرقلة جهود الإنقاذ، وجعل عملية الوصول للمصابين خطرة ومعقدة.
وعادةً يتم قصف سيارات الدفاع المدني خلال عملها، لكن هذه المرة كان هناك تطور خطير لدى الاحتلال، حيث استهدف بداية الطوفان بشكل مباشر مقرًّا للدفاع المدني في منطقة التفاح شرق محافظة غزة، ما تسبّب في سقوط 5 شهداء من عناصر الدفاع المدني، وجرح 8 آخرين، وتدمير سيارات إطفاء ومعدّات إنقاذ.
ويعدّ استهداف طواقم الإنقاذ جريمة حرب جديدة تضاف إلى جرائم الاحتلال، التي تتطلب المساءلة والملاحقة والعقاب.
واليوم باتت غزة على شفا الانهيار على صعيد العمل الصحي والإنقاذ، فقد وجّه الدفاع المدني منذ الساعات الأولى لاستهدافه نداء استغاثة لأصحاب الآليات التي يمكنها المساعدة في انتشال الضحايا من تحت الركام، وكذلك تسريع مهام إجلاء الجرحى من تحت أنقاض البنايات المدمرة.
وينتظر المئات من الغزيين تحت ركام المباني التي قُصفت، وتجد فرق الدفاع المدني نفسها عاجزة عن انتشالهم مع شحّ الإمكانات وسط حصار خانق.
ينادي على أطفاله ووالدته من تحت الأنقاض.. فلسطيني في قطاع غزة يحفر بيديه العاريتين وحيدًا، بحثًا عن صوت يجيبه من أفراد عائلته العالقين تحت أكوام من الخرسانة سقطت عليهم جراء القصف الإسرائيلي.#غزة #طوفان_القدس pic.twitter.com/u6hgIwx4cd
— نون بوست (@NoonPost) October 17, 2023
اغتيال فرسان الحقيقة
منذ اللحظة الأولى لـ”طوفان الأقصى”، تجهّز الصحفيون كعادتهم في المستشفيات داخل خيمة مزودة بالكهرباء والإنترنت، لكن بعد ساعات قليلة من مغادرتهم لعوائلهم، باتوا ينزحون من مكان إلى آخر علّهم يتمكنون من إيجاد مكان يتوفر فيه وسيلة للاتصال مع العالم الخارجي لنقل الحقيقة.
تستهدف “إسرائيل” الصحفيين في كل عدوان على قطاع غزة، لكن لم يسبق لما يجري في الوقت الراهن مثيل، فمنذ اللحظة الأولى حتى كتابة التقرير قتلت حوالي 15 صحفيًّا، وغالبيتهم برفقة عوائلهم أو أثناء عملهم.
قطع التيار الكهربائي وقصف شركة الاتصالات الفلسطينية وفصل خطوط الإنترنت أدّى إلى توقف الكثير من المنصات عن العمل، ومن لديه إمكانات مادية أصبحت منصاته تعمل من خارج القطاع.
وبات صحفيو غزة بشكل يومي يقيمون جنازة صحفية من مستشفى الشفاء لزميل غادرهم، حين ذهب إلى عائلته يأخذ قسطًا من الراحة بعد غياب أيام عن بيته.
تواصل سيارات الإسعاف الوصول إلى مستشفى الأقصى الذي تقف أمامه المراسلة الفلسطينية، نور الحرازين، وهي منهارة من هول المشاهد وزحام الشهداء، واصفةً ما تراه بـ "المجزرة".#غزةـتحتـالقصف#طوفان_القدس pic.twitter.com/r06hu4DR77
— نون بوست (@NoonPost) October 17, 2023
وفي كل تصعيد أو عدوان على قطاع غزة، يعمل الصحفيون كخلية نحل، بينما اليوم هم في حالة سكون ينزحون برفقة أسرهم إلى مراكز الإيواء، ينقطعون عن العالم الخارجي، فقط يسمعون صوت القصف يحيطهم، ويعرفون الخبر عبر رسائل نصية تصلهم من زملاء لهم خارج القطاع، حتى القصص الإنسانية التي اعتادوا صياغتها أو تلتقطها عدساتهم باتت عابرة، فالأحياء الناجون هم الحكاية، عدد قليل منهم يغطي الحدث لكن بحذر شديد، فهم في دائرة الاستهداف الأولى.
ولم يعد ارتداؤهم للدرع والخوذة وسيلة لحمايتهم، بل بات دليلًا سهلًا لاستهدافهم والوصول إليهم سريعًا.
ما يخرج من قطاع غزة من أخبار وتقارير مكتوبة أو مصورة فظيع ومفجع لمن يشاهده، فهل لك أن تتخيّل ما حالنا ونحن نعيشه؟