تعد تركيا من أغنى الدول بالمجموعات العرقية، لا يقتصر هذا على التنوع العرقي فقط، بل أيضًا تجمع على أرضها العديد من الأقليات الدينية والمذهبية والطائفية، وأحيانًا ما تشكل هذه القوميات والاختلافات العرقية تحديًا واضطرابًا لاستقرارها ووحدتها، وفي أحيان أخرى تكون أحد أسباب تميزها وغنى بنيتها الاجتماعية.
المادة الـ66 في الدستور التركي تعرف الترك على أنه “أي شخص مرتبط بالدولة التركية من خلال رابطة المواطنة”، وبالتالي استخدام اللفظ “ترك” كمصطلح لمواطن في تركيا يختلف عن تعريف العرق، ويعرف العرق على أنه مجموعة من الناس التي تتشابه بالشكل وتتميز عن البنية الاجتماعية العامة، إذ إن لهم لغتهم الخاصة وربما ديانة مختلفة وتاريخ وثقافة مختلفة ولكنهم بموجب الدستور يعتبرون مواطني الجمهورية التركية من الناحية السياسية والقانونية.
عاشت بعض الأقليات العرقية بعض الاضطرابات والأزمات والمخاطر مع الحكومة التركية.
من خلال اتفاقية لوزان الثانية، عمل مصطفى كمال أتاتورك على تحقيق وحدة عرقية في البلاد، وذلك عن طريق عدم إشارة الاتفاقية إلى الوجود العرقي في المجتمع التركي وتجاهله بالكامل وفرض مفهوم عرقي قومي يعتمد على العرق التركي فقط. إذ إن غالبية الأتراك هم من العرق التركي وتقدر نسبتهم بنحو 70 إلى 75% وذلك حسب وكالة المخابرات المركزية
رفع أتاتورك شعار “هنيئًا لمن يقول أنا تركي”، ومن خلال هذا الشعار قام بدمج كل المجموعات العرقية من الشركس والكرد واللاز والعرب واعتبارهم أتراك، يذكر أن هذه المجموعات العرقية لا يسمح لها بفتح مؤسسات علمية أو محطات إذاعية تبث بلغتها الأم، مما حرمها من التعبير عن قوميتها، ومن هذا المنطلق عاشت بعض الأقليات العرقية بعض الاضطرابات والأزمات والمخاطر مع الحكومة التركية.
من هذه المجموعات العرقية
الأكراد
هم أتراك الجبال أو سكان الجبال، موجودون جنوب شرق تركيا وتحديدًا في المدن المحاذية لسوريا والعرق وإيران مثل ديار بكر وغازي عنتاب وماردين وملاطيا، يعتبر الأكراد أكبر مجموعة عرقية في تركيا، يصل عددهم من 14 إلى 15 مليون كردي، وينقسمون إلى مسلم سني، ومسلم شيعي، ومسلم علوي ومنهم مسيحيين وإيزيديين وزرداشتية.
مشاكل الأكراد مع الدولة تركية لها تاريخ طويل من الاضطراب، فالمجموعة العرقية الكردية رفضت أن يتم مسح هويتها وكيانها بالكامل مقابل أن تندمج في المجتمع التركي، بل حاربت كثيرًا للحصول على حق التعلم باللغة الكردية وفتح مؤسسات ومنظمات تهتم بالشأن الكردي وثقافته وسياسته، لكن رفض الحكومات التركية المتعاقبة لهذه المطالب جعل الأوضاع الأمنية والاقتصادية في مناطقهم في غاية الصعوبة خاصة مع دخول مجموعات إرهابية مسلحة على الخط في صدام مع الدولة، الأمر الذي دفع العديد منهم للانتقال إلى إسطنبول، حيث تقدر نسبتهم بـ 17% إلى 18% من سكان المدينة، ولكن مع مجئ حزب العدالة والتنمية الحاكم في عام 2002 اعتمد سياسة أقل حدة من الحكومات السابقة مع الأكراد وطرحت العديد من المبادرات لحل الأزمة الكردية في تركيا بحلول سلمية.
الشركس
يحتلون المرتبة الثالثة بعد الأتراك والأكراد من حيث المجموعات العرقية، وهم قبائل تقع شمال القوقاز تم تهجيرهم من قبل الإمبراطورية الروسية التي حاولت التخلص منهم، وهاجروا عبر سفن بحرية إلى الدولة العثمانية التي اهتمت بحمايتهم وتوطينهم. يقدر عددهم بـ 2 إلى 3 مليون شركسي.
يُحيي الشركس ذكرى تهجيرهم بشكل قسري من وطنهم الأصلي عام 1864
يذكر أن البعض منهم لا يأكلون السمك، لأنه يذكرهم بأهاليهم الذين خسروهم عند عبور البحر الأسود هربًا من الروس.
يعرف المجتمع الشركسي على أنه “لا يعرف الكلل ولا الملل”، وأنهم أقدر من غيرهم على تحمل المشاق والمتاعب، ولهم حكايات قديمة عن مهاراتهم الحربية والفروسية.
حتى يومنا هذا يُحيي الشركس ذكرى تهجيرهم بشكل قسري من وطنهم الأصلي عام 1864، حيث ينظم الناشطون مظاهرات وتجمعات في المدن التركية، خاصة أمام القنصلية الروسية، للحديث والتنديد بما ارتكبته روسيا بحقهم، مطالبين روسيا بالاعتذار لهم عما سببته من أضرار لا حصر لها.
في هذا السياق، صرح المتحدث باسم الخارجية التركية طانجو بيلجيج: “تهجير الشركس هو مصيبة كبرى في التاريخ، والعمل على إحياء هذه الذكرى من كل عام، هو تعبير عن الجراح الغائرة في قلوب القوقازيين وصورة لا تمحى من ذاكراتهم”.
البوشناق
مجموعة عرقية كبيرة، وهم مواطنون أتراك ينحدرون من أصول بوشناقية، معظمهم جاءوا من البوسنة والهرسك بعد أن تم إجبارهم على الهجرة بعد فظائع ومذابح التطهير العرقي التي تعرضوا لها من الجيش اليوغسلافي والسلطات الصربية، فقد جاء إلى تركيا أكثر من 40 ألف بوشناقي وذلك وفقًا لسافيت إردمن رئيس مؤسسة أصدقاء البوسنة والهرسك في إسطنبول، ويضيف “كانت أعداد المهاجرين مرتفعة، لكن ما جعل الأمر جيدًا بعض الشيء أنهم لم يواجهوا مشاكل على الحدود اليونانية والمقدونية وهم في طريقهم إلى تركيا”.
اعتناق البوشناق للإسلام جعل عاداتهم وتقاليدهم في انسجام كامل مع الثقافة التركية
وقد تحدث وزير الخارجية التركي السابق أحمد داود أوغلو عن هذا قائلًا: “التطهير العرقي كان سمة مقززة في البوسنة والهرسك، وسربرنيستا كانت رمزًا لوحشية الصراع في الاتحاد اليوغسلافي السابق”.
جدير بالذكر أن أتراك البوشناق يطلقون كل عام حملة لزيادة الوعي بما جرى بمجزرة سربرنيستا، ويتظاهرون بلافتات تحمل عبارات لإحياء ذكراها كـ”لا تنسوا المجزرة البوسنية التي وقعت في منطقة آمنة تحت حماية الأمم المتحدة”.
لا يختلف البوشناق عن الأتراك في لغتهم كثيرًا، فتظن أنها إحدى اللهجات التركية، أيضًا اعتناق البوشناق للإسلام جعل عاداتهم وتقاليدهم في انسجام كامل مع الثقافة التركية، ومن أشهر الشخصيات البوشناقية السياسية في تركيا رئيسة الوزراء السابقة تانسو تشيلر.
وفي هذا الصدد يقول رينور شكريو وهو أحد رجال الأعمال البوشناق في تصريحات خاصة لنون بوست: “ولدت في إسطنبول وعشت هنا طول سنين حياتي، ولم أشعر يومًا بأنني أجنبي، على الرغم من وجود بعض الاختلافات الطفيفة بين المجتمعين، فمثلًا أنا اعتبر أن ثقافتي أكثر انفتاحًا وأن الثقافة التركية محافظة بعض الشيء”، يضيف شكريو “عندما أقوم بزيارة البوسنة أشعر بالشبه الكبير بيني وبين المجتمع وذلك لأسباب بسيطة كلون بشرتنا الفاتحة وملامحنا الأقرب إلى الأوروبية، لم أشعر مطلقًا بالغربة في تركيا، لكنني على كل حال، لا أشعر أن تركيا هي وطني الأم”.
في حين تحدثنا إلى رينا تمري، طالبة ماجستير بوشناقية في تركيا: “أنا لا أتكلم لغة البوشناق ولا أفهمها وأعيش في تركيا منذ طفولتي، لكن عندما أجلس مع أقاربي وأصدقائي من البوشناق، أشعر بالقرب منهم والشبه أكثر عن غيرهم، أعتقد أن رابط الدم أقوى من الجنسية واللغة”.
الأرمن
سكان مناطق القوقاز الجنوبية ولهم لغتهم الخاصة وهم مسيحيون ويتوزعون مذهبيًا على ثلاث كنائس: الغريغورية الأرثوذكسية والكاثوليكية الرومية والبروتستانتية.
في عهد الدولة العثمانية، كان الأرمن من أكثر الأقليات العرقية ثراءً وتعليمًا، كانوا يمتلكون مدارسًا وكنائس وجمعيات خيرية ومستشفيات، وعلى الرغم من هذا، حدثت اضطرابات بينهم وبين الأتراك لا تزال أصدائها التاريخية باقية حتى الآن، ومن المتعارف عليه أن تركيا تنفي ارتكابها لأي مجازر بحق الأرمن، وتؤكد أنهم ماتوا نتيجة حرب أهلية أو الجوع.
جدير بالذكر أن المجموعات العرقية في تركيا كثيرة ومتفرعة الأصول وتشمل اللاز والجورجيين والغجر والآشوريين والعرب والسريانين والأذربيجانيين، ولهم تاريخ طويل منذ وصولهم إلى تركيا حتى توطينهم وانتشارهم في مناطق مختلفة من البلاد.