على الرغم من أن الأحزاب السياسية في العصر الحديث، هي المحرك الرئيسي لأي مجتمع نحو تحقيق أهدافه، باعتبارها الحاضنة التي تنمو بداخلها كل الأفكار الجديدة، وتنمو الكفاءات، وتفتح كل السبل أمام طاقات الشعب ليبدع ويتقن ويصنع مستقبله، وهي مفتاح دمج الناس في المجال العام، فإن السنوات الستة الماضية قد علمتنا، وما تزال تعلمنا، أن هناك آفات وعقبات كثيرة، تحول بين الأحزاب المصرية وتحقيق وظائفها، والقيام بأدوارها الحقيقية في مجتمعنا المصري.
كان مستقبل الأحزاب السياسية، والأمل في قيامها بأدوراها ووظائفها كقاطرة للتقدم، في بداية ثورة يناير زاهيًا، خصوصًا مع إقبال الشباب على العمل السياسي الحزبي
فقد كان مستقبل الأحزاب السياسية، والأمل في قيامها بأدوراها ووظائفها كقاطرة للتقدم، في بداية ثورة يناير زاهيًا، خصوصًا مع إقبال الشباب على العمل السياسي الحزبي، لكن مع مرور الوقت، وتوالي الأخطاء من جميع شركاء الثورة، صار هذا المستقبل غامضًا، وبدأ الشباب ينسحب ببطء من العمل السياسي، حتى تدهور الأمر تمامًا، وأصبحت أزمة الأحزاب اليوم خانقة، بعد أن غادر غالب الشباب ساحة السياسة وهجروا الأحزاب غاضبين.
أصاب موسم القحط السياسي، الذي اجتمعت كل القوى السياسية على تهيئة مناخه، نفوس المصريين – والشباب بصفة خاصة -، بنفور من العمل السياسي الحزبي، وبلا جدوى المكافحة في صفوف الأحزاب لتحقيق التغيير، حتى وصلنا إلى حالة موت الأحزاب، ومن ثم موت السياسة التي نعيشها اليوم، وتكالبت الظروف السيئة التي حاصرت الشباب وأربكت المجتمع ومؤسساته، مع الرواسب التاريخية الكامنة في لاشعور المصريين التي أثقلت الحركة السياسية وحرفتها عن مسارها الصحيح، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية التي أحاطت بالمشهد كله، ففشلت التجربة.
حسب الإحصاءات يشكل الشباب (بين سن 10 سنوات و24 سنة) تقريبًا 31% من مجموع سكان مصر
ونظرًا لكون الشباب، هم نواة تكوين القاعدة الشعبية الديموقراطية في مصر، فحسب الإحصاءات يشكل الشباب (بين سن 10 سنوات و24 سنة) تقريبًا 31% من مجموع سكان مصر، كما تشير البيانات الإحصائية إلى أن نسبة من هم في سن الشباب (18-35) تعادل 33% من إجمالي عدد السكان.
فهذه الفئة، هي القاعدة الشعبية الحقيقية للديموقراطية، ومن غيرها لا مستقبل للعمل السياسي الحزبي، ومن ثم التغيير المنشود، والخروج من تيه الاستبداد والفساد الذي تعيشه البلاد، لذا بات من الضروري أن نبحث عن الأسباب التي تبعد الشباب عن الأحزاب ونعالجها.
والسؤال الذي يطرحه هذا المقال: ما العمل هنا والآن للخروج من حالة الموات التي تعانيها السياسة اليوم بسبب هجران الشباب للعمل الحزبي؟ وهل هناك إمكانية لعمل جاد لإقناع الشباب بالعمل من خلال الأحزاب لتحقيق أهداف ثورتنا، في مجتمع غارق في مثل هذا البحر العميق من الشك واللاحسم في الحياة السياسية والحزبية ؟
عندما طرحت هذا السؤال على كثيرين من رفاق درب السياسة (مجموعة مختلفة من الشباب من الجنسين، من عدة محافظات مصرية كوننا معًا حزبًا، وأتممنا كامل أوراقه، ولم نقدمه للجنة شؤون الأحزاب، بسبب المناخ العام السيئ من جهة، ولنقص التمويل وليأس معظم المؤسسيين من العمل السياسي الآن من جهة أخرى)، بعد أن طرح عليّ من أحد شباب مركزنا (الواسطى – بني سويف) إمكانية العمل مع الحزب الذي ينتمي إليه، توفيرًا للوقت والجهد في إنشاء حزب في ظروف قاحلة من ناحية، وتجميعًا للجهود تحت مظلة قانونية تطمئن الشباب – نسبيًا – من ناحية أخرى.
رحبت بالعرض جدًا، فقد وافق مرادي، وجاء الطرح في ذروة اختناقي وبرمي بما يحدث، وعدم قدرتي على طرح أي تحرك في ظل خوف ويأس مخيمين، وقلت: حسنًا لنبدأ من جديد، ولكن دعني أطرح الفكرة على شركاء المسيرة، وعندما طرحت الفكرة عليهم كانت الإجابات كالتالي (معظم الإجابات لشباب من الجنسين بين العشرين والثلاثين):
– “يعني نرجع نشتغل تاني، وبعدين يسرقوا مننا الثورة تاني، ونرجع لنفس الوضع، طيب ما الأفضل نسيب الأمور زي ما هي لحد ما تتهد ع الكل، مفيش فايدة ف البلد دي”.
– “إيه المميزات والعواقب علشان مش عايزين نتحسب على فصيل معين وخلاص من غير ما نعمل حاجة مفيدة، خاصة إن مفيش حد عنده ثقة في حد”.
– “نشتغل يا مولانا وحشني الشغل”.
– “نشتغل بس لازم ناخد بالنا من أي عيوب، حتى لا نفقد الأمل، وتزداد الأمور سوءًا بين من يثق فينا من الناس”.
– “أرى أنه لا مانع إذا كنت وما زلت مؤمنًا بالعمل السياسي وجدواه، وأنا لا أريد أن أصدر أحكامًا مسبقة، لكن غالب ظني أن المردود الإيجابي لهذا العمل سيكون ضعيفًا، وفي النهاية لا بأس من المحاولة إذا كانت الظروف سانحة”.
إن ما أعتقده شخصيًا، أن شعور هؤلاء الشباب غير المحسوم تجاه العمل السياسي الحزبي، ليس يأسًا بقدر ما هو خوف من الفشل
– “رغم أنني مقتنعة إن كل اأحزاب الموجودة دلوقتي غير فاعلة، وليس لها وجود حقيقي على الأرض، فلا مفر من العمل الحزبي كخيار لتفعيل دور المعارضة، وقرار اﻻنضمام لحزب من عدمه أعتقد أنه ﻻ بد يكون مبنيًا على التالي: أولًا المساحة المتاحة للاختلاف والقابلية للتغيير وتصحيح المسار، ثانيًا مدى فاعلية الدور اللي هنقوم بيه، وبالنسبة لي كشخص غير عامل بالسياسة أصلًا، ولكن عندي رغبة في المساهمة في خدمة بلدي كانت بتديني حافز قوي للمشاركة في فترة ما بعد الثورة ولذلك كنت مرحبة وبشدة للانضمام والمشاركة في حزبنا تحت التأسيس، لكن للأسف اللي حصل بعد كده ودخولنا مرحلة الصوت الواحد اللي عايشينها دي، سببت لي إحباط شديد وخلتني حاسة إن مافيش فايدة، كلامي يبدو متناقضًا، مع كل اللي بقوله عن الأحزاب ودورها، لكن فيه فرق ما بين شخص غير عامل بالسياسة وشخص حياته كلها سياسة، بس برده ده مش معناه إن ده قرار بعدم المشاركة، على العكس أنا نفسي أخدم بلدي بأي شكل لو حسيت إن أنا هيبقى ليا دور حقيقى أكيد هشارك”.
– “أنا معتزل، أنت براحتك، أنا ولا متابع ولا باحترم حد أصلًا في التيارات والأحزاب دي، ومش فاهم إيه الهدف، فأنت براحتك ومافيش حاجة هتتغير والوضع هيفضل كده، وكان قدامنا فرصة وضيعناها، أنا شخصيًا مصر اتلغت من حياتي حتى مش عايز أرجعها جثة أتدفن فيها، للأسف مش بهزر، ولا الناس تستاهل، ولا البلد تستاهل، عيش حياتك واللي كويس في مصر ربنا يرزقه ويسيبها”.
– “ياااه هو لسه فيه ناس شغالين، لو بيعملوا حاجة مفيدة يبقى مفيش مانع طبعًا نشتغل”.
– “أنا مركز اليومين دول ع التنوير (صاحب الكلام فنان)، وأنا شبه مبطل عمل سياسي، ومع إني عضو رسمي ف حزب، ولكن معندناش مقر حتى، ومفيش إيمان بتفعيل دور الفن، وأنا أرحب بأي شغل تحت أي راية تفيد البلد”.
– “لازم نتفاوض معاهم ع المناصب القيادية، حتى يكون لنا إسهام في القرار السياسي، ونحقق ما نريده لبلدنا بدلًا من أن نتبع أحدًا قد يأخذنا لاتجاهات لا نريدها”.
– “والله أنا عن نفسي من كتر اللي شفته، فقدت الثقة في الكل، كله بتاع كلام بس، بس والله جوانا كبت وقهر ميتوصفش كل حاجه اتسرقت منا، إحنا مخنوقين قوي يا أستاذنا، إحنا نفسنا نعمل حاجه بجد وفي نفس الوقت مفيش حلول، لا مش موافقة طبعًا على العمل مع أحزاب، بس لو لقيت حاجة أثق فيها طبعًا هكون معاك”.
– “والله معنديش أي معلومات عنه ولا عن مؤسسيه، لو فيه معلومات ممكن أقرأ وأقرر بعدها”.
– “أنا بالنسبة لي هشتغل مع أي حد طالما متفق مع فكري واللي أنا عاوزه، بس مش هنضم تحت حزب، ممكن انضم لحركة ماشي”.
– “نشتغل مع بعض ماشي، لكن كل واحد مستقل علشان مانتحملش مشاكل وقرف حد تاني”.
– “هل نستطيع أن نمارس سياسة بعيدة عن التخبط والاستسهال وعبادة الأشخاص، والجري وراء المصالح، ولا أخلاقيات البعض في تشويه كل من يخالفهم، ووصفه بأسوأ الصفات ووصمه باتهامات تقضي عليه تمامًا بالكذب والافتراء لمجرد التخلص من معارضته؟”.
– “أنا جوه الفريزر، مش خارج منه إلا لما كل الهراء ده ينتهي تمامًا، مفيش أمل في المصريين والأحزاب انتهت خلاص”.
لماذا يرفضون/ يخافون من العمل الحزبي؟
تبين الردود أعلاه، مدى غضب الشباب من تجربة العمل السياسي خلال السنوات الماضية، ومدى تخوفهم من خوض أي تجربة قد تصيبهم مجددًا بالفشل، فالشباب لا يرفض العمل السياسي الحزبي، ولكنه يرفض ما حدث من أخطاء وتجاوزات وتلاعب بمشاعرهم وعقولهم وتسفيه لآرائهم، وما رأوه من أطماع لكثير من القادة، ولا أخلاقية بعضهم، وجهل غالبهم، وسطحية وروتينية العمل الحزبي ومظهريته.
يخاف الشباب من التنظيم الحزبي الذي يصادر آراءهم، ويريدون تنظيمًا يجعلهم مصدر السلطات
إن ما أعتقده شخصيًا، أن شعور هؤلاء الشباب غير المحسوم تجاه العمل السياسي الحزبي، ليس يأسًا بقدر ما هو خوف من الفشل، فالغالبية العظمى من الشباب اليوم، يعانون من حالة من الاغتراب بسبب فشل الثورة، ويشعرون بالعجز تجاه إصلاح مجتمعهم ومؤسساتهم، ولهذا يتنصلون من العمل للإصلاح من خلال الأحزاب، ويفضلون موقف المتفرج على ما يجري أمامهم، بدلًا من تكرار الفشل مرة أخرى.
يخاف الشباب من التنظيم الحزبي الذي يصادر آراءهم، ويريدون تنظيمًا يجعلهم مصدر السلطات، وينفي أي احتمال لوصاية فرد أو جماعة أو قلة من أعضاء الحزب على خياراته وقراراته، فقضية الحكم الديموقراطي داخل الأحزاب، ليست قضية صغيرة أو تافهة، إنها لب مشكلة جدب العضويات الذي تعاني منه الأحزاب، ومسلسل الانشقاقات المستمر بداخلها.
إن معظم هذه الممارسات، هي التي تكمن وراء ما بتنا نسمعه كل يوم عن الكفر بالسياسة والأحزاب، بالإضافة طبعًا لمناخ الرعب الذي تشيعه أذرع النظام الغشيم، والآراء السابقة أعلاه واضحة الدلالة في ذلك.
ولهذا اعتقد أن هناك ضرورة ماسة لقيام قادة الأحزاب بدراسة مسألة نفور الشباب من العمل الحزبي، بطريقة واقعية ضمن خطة مدروسة، تضع في حساباتها المشاكل النفسية والفكرية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بهذا النفور، لتواجهها بالحلول المرحلية بعيدًا عن السطحية والارتجال التي تثير المشاعر دون أن تتبين حقيقة الواقع.
التاريخ الطويل المعقد، الذي حمل لنا كل السلبيات الحزبية في الفكرة والأسلوب والعرض، حوّل السياسة والعمل الحزبي إلى حواجز ثابتة تفصل بين المصريين وهموم بلادهم، بدلاً من أن تحملهم إلى القيام بمسؤولياتهم تجاه حلها
فالتاريخ الطويل المعقد، الذي حمل لنا كل السلبيات الحزبية في الفكرة والأسلوب والعرض، حوّل السياسة والعمل الحزبي إلى حواجز ثابتة تفصل بين المصريين وهموم بلادهم، بدلاً من أن تحملهم إلى القيام بمسؤولياتهم تجاه حلها، خاصة مع دخول المجتمع المصري – بعد الثورة -، عصرًا جديدًا يدعى “عصر وسائل التواصل الاجتماعي”، حيث يوجد الشباب ويتواصلون، من دون أن يتمكن النظام الحزبي من مواكبته بالشكل الوافي بعد، ومن ثم فإن تقديم العمل الحزبي للشباب بصيغته التقليدية لا يفيد اليوم.
وأخيرًا
هذه اللحظة في عمر الوطن، هي أكثر اللحظات نموذجية للعمل السياسي الجاد، القائم على أسس سليمة لبناء السياسة ورجالها ومؤسساتها وآلياتها وغرس قيمها، وهو أحسن الأوقات لجذب المواطن المصري إلى ساحة السياسة، وأفضل فرصة مواتية للأحزاب الجادة لتعيد بناء ما تهدم من بنيان السياسة في مصر وتعيد للأحزاب دورها ووظيفتها وأهميتها بين المصريين وخصوصًا الشباب.
فالنظام الحالي، يعلن نهايته القريبة، بكل ما يرتكبه من حماقات داخلية وخارجية، فقد طغى وتجبر في المجال السياسي الداخلي، وفشل تمامًا عربيًا وخارجيًا، والأهم فشله الذريع على الصعد الاجتماعية والاقتصادية كافة، وهو الآن يغرق في عواقب تصرفاته الحمقاء، ولم يعد هناك مجالاً للشك أنه راحل لا محالة.
الوقت مناسب للغاية للأحزاب الجادة، للتقدم للأمام بخطوات واثقة، لبناء تكتل سياسي جديد يجمع القادرين على العمل السياسي، يجدد حياتنا الحزبية تجديدًا شاملًا
ومن هنا، فالوقت مناسب للغاية للأحزاب الجادة، للتقدم للأمام بخطوات واثقة، لبناء تكتل سياسي جديد يجمع القادرين على العمل السياسي، يجدد حياتنا الحزبية تجديدًا شاملًا، لأفكارها ومؤسساتها وآلياتها وطريقة إدارتها، حتى تستطيع مواكبة العصر وتحدياته، والواقع ومتطلباته، والمستقبل ومقتضياته، لتحقيق حلم المصريين في أحزاب حقيقية تعبر بهم إلى غد أفضل.
إن هذه اللحظة، في عمر الأحزاب الجادة، هي اللحظة السانحة للانطلاق من أجل صنع قوة سياسية جديدة على أرض الواقع، تتجاوز أخطاء السنوات الماضية، وتردم الفجوة بين المصريين والسياسة من ناحية، وبينهم وبين الأحزاب من ناحية أخرى، ويحتاج ذلك إلى استراتيجية جديدة للعمل الحزبي، والترويج له – بكل السبل- ، بحملة قوية تجيب على التساؤلات أعلاه، والتي تتردد اليوم في عقل كل شاب/ شابة مصرية “قرفوا” من الساسة والسياسيين والأحزاب ومن الحياة كلها.
والسؤال، الموجه اليوم لمن يمارسون السياسة في بحر الظلام الذي نغرق فيه جميعًا الآن، بسبب ممارساتنا الخاطئة طيلة السنوات الست الماضية: هل لديكم إجابات على أسئلة هؤلاء الشباب الذين يمثلون عينة كاشفة للعوائق التي تمنع التغيير الحقيقي في مصر؟
في انتظار إجابات لهذه التساؤلات.