تطور أمر الصمت صاحب هذه الكلمات عما يحدث من أحداث في الوطن، بخاصة فيما يخص قطبيه الرئيسيين الإخوان والعسكريين، فإنه من أسهل الكلمات على فم كل موالٍ للجماعة والمدعين أنهم قادة، من أيسر اليسير على أحدهم القول لك: لماذا لا تهاجم الانقلاب الآن؟ ومع تسليمي بأن أصحاب هذه الكلمات مختلفون في التوجه عمّا أظنه رغبة في رؤية الحقيقة كما هي والتصدي لها، وبعد كتابتنا لعشرات المقالات في حق الانقلاب والانقلابيين، وبيان ما رأيناه صوابًا، وما زلنا نراه كلمة حق، تثور في النفس عشرات الأسئلة، فإن هؤلاء الانقلابيين لا يُؤمل منهم الخير فلماذا تتوجه الكلمات إليهم، وما الفائدة منها إذًا؟
وعلى الفور تقفز إلى الذهن أصداء فكرية عميقة لحوار رواه لي أحد الأخوة الفلسطينين الأفاضل من أنه لقي المُرشح الخاسر للانتخابات الرئاسية حمدين صباحي في أوج افتعال ما سُمّيَ بـ”جبهة الإنقاذ” للمُشكلات وقطع الطرق في مصر وقت حكم الدكتور محمد مرسي، فقال له:
ـ إنك ومَنْ خلفك (من المدنيين) تُمثلون 5% من تعداد سكان مصر وتُنغصون عليه وحزبه محاولات الإنجاز، فماذا لو أسقطتموه كما تريدون، هل ترون أن التابعين له، وهم يمثلون على الأقل نصف الشعب بتاركيكم تحكمون مصر، أم إنهم سيثورون عليك صباحًا ومساءً فور نجاحك في حكم مصر، كما تريد.
والشاهد المُباشر من الكلمات السابقة أولًا أن صباحي رد في هدوء قائلًا:”ما قلتَه سيناريو سياسي على ما يبدو”!
صباحي لم يصل إلى الثمرة التي تعلق كثيرًا لكي يصل إليها، وارتضى أن يقطفها العسكر عوضًا عنه
أما الصدى غير المُباشر للكلمات، وهو الأهم أن صباحي لم يصل إلى الثمرة التي تعلق كثيرًا لكي يصل إليها، وارتضى أن يقطفها العسكر عوضًا عنه، وفي المقابل لم يستطع الإخوان استمرار ممارسة حقهم، في المُقابل، في الاعتراض أو الامتعاض، وفق منظومة المثل المُفترضة في الحوار مع صباحي إذ إن آلة القمع العسكرية لم تتح الفرصة لهم.
على أن هذا الحوار صار يرن في أُذنيّ كلما رأيتُ الجماعة تتوانى وتبالغ في التأخير عن مد يد العون ونجدة نفسها أولًا قبل مصر والأمة بالبحث عن حل للموقف العسير الذي صارت تمامًا فيه منذ الثالث من يوليو/ تموز 2013م حتى الآن، حتى اعترفت قياداتها المُفترض أنها تاريخية مؤخرًا بنظام السيسي، بل قدمت تخفيضًا عاليًا جدًا، بقبول نظام “بشار” بل “إسرائيل” فوق البيعة!
وفي المرحلة الأولى السابقة على التسليم المُطلق للعسكر بلا ثمن، وكان عمرها الزمني قرابة أربعة أعوام، رأينا بوضوح الجماعة تستعيض عن الاحتجاج المُفترض على الحكم بالإيغال في افتراض سقوطه المُحقق المُنتظر، وكنتُ أرصد لـ”الأمنية” الخاصة بالإخوان في تحفز لا أخفيه الآن ودهشة لا أستطيع التبرؤ منها.
وفي البداية كان الفعل الاحتجاجي الصامت السلبي، وفق منظومة حوار صباحي الماضي، يستعين بالصلاة والابتهال والذكر في المضمون، واستعارة شكل ثورة يناير/ كانون الثاني 2011م، بمعنى أن الجماعة التي كانت قد سلمتْ حتى أكبر عقلية فيها بأن ما حدث في الثمانية عشر يومًا كان ثورة، غير مُنتبهة إلى أن الجيش آزر وناصر وساعد حركة أو انتفاضة محدودة من الجيش المصري بمساعدة أمريكية للخلاص من حسني مبارك.
مع الاحترام لدماء آلاف الشهداء ولتضحيات المُصابين عن تلك الفترة، لكن الماكينة الإخوانية العملاقة التي كانت نجحت في الإجهاز على العقول المفكرة المُبدعة داخل تكوينها صدقتْ أن ثورة نجحت، بل تداخلت معها، ومع العسكر، حتى إذا ظهرت لها الحقيقة الانقلابية، راحت تستعيد السيناريو الفاشل الذي أودى بها، فتعتصم في رابعة العدوية دون سبب سوى أنها فرطت من قبل في ميدان التحرير لما لم تستطع الحفاظ على القوى الثورية بخاصة الشباب إلى جوارها.
كانت كلمات المُشير محمد حسين طنطاوي أكثر استيعابًا للواقع المصري، بخاصة فيما يخص أمر الجماعة التي فهمها أكثر مما فهمت نفسها
ولقد رأيتُ عن قرب فرحة الآلاف منهم بتولي الرئيس مرسي، آنذاك، حتى ضاق بهم ميدان التحرير يوم 24 من يونيو/ حزيران 2012م لتظن الجماعة أن أوان التمكين أتاها، فيما تم تسليمها إلى الشعب المصري بعد إعادة توجيهه ضدها، وكانت كلمات المُشير محمد حسين طنطاوي أكثر استيعابًا للواقع المصري، بخاصة فيما يخص أمر الجماعة التي فهمها أكثر مما فهمت نفسها.
وصارت الجماعة تصلي وتصوم رمضان في رابعة والنهضة وتجلب الأبرياء من مختلف محافظات مصر، مع التقدير للصلاة والعبادة، قاطعة بأن الصلاة والدعاء سيردانها إلى حكم مصر!
وعقب المجازر الأولى في الحرس الجمهوري أولًا وثانيًا لم تفطن الجماعة إلى السيئ القادم، حتى إذا جاء الأخير رفعت شعار أن الله ما كان ليخذل الدماء، وأن العالم لم يعترف بالحكم الانقلابي، ثم إن الله ما كان ليُضيع دماء الشهداء، وأن ثورة الشعب المصري والنصر قادمان لا محالة، مرورًا بتداول الإشاعات عن “مصرع السيسي” على يد أحد حراسه، ونهاية بالتنديد المستمر بالانقلاب عبر السخرية من رموزه وأولهم قائده، وصولًا إلى التعرض للشعب المصري كله أحيانًا بما لا يليق، والتذكير بأخطاء وخطايا المُتوفين من مناصري الانقلاب أحيانًا أخرى.
وبقيت قضايا معلقة للتواصل مع بعض المقربين للجماعة غالبًا ممن هم خارج مصر مثل الاصطفاف وعودة الدكتور مرسي.
العشرات القادمين من مصر إلى الأقطار المتفرقة (قطر ـ تركيا ـ السودان ـ ماليزيا ..)، كان يحدوهم الأمل في أن الجماعة ستعمد إلى فتح صفحة جديدة يتم فيها، على الأقل، إقصاء أولئك المُتسببين في طوفان الدماء
وبين هذا وذاك كان رداء الجماعة أو عباءتها، على الأقل، يُخلعان عنها، حيث تعمد القائمون على أمورها، بعد الانقلاب، ممن هم في خارج السجن البقاء في أماكنهم التنظيمية، وإن خالف ذلك المنطق والعقل بل الدين، وراح البعض مُفسرًا الأمر بالقول إن الانقلابيين راعوا أن يكون الخارجين من مصر من أسوأ نماذج الإخوان في الإدارة، بالإضافة إلى الرغبة في الاستحواذ.
لكن ما حدث، على كل الأحوال، ساوى أن العشرات القادمين من مصر إلى الأقطار المتفرقة (قطر ـ تركيا ـ السودان ـ ماليزيا ..)، كان يحدوهم الأمل في أن الجماعة ستعمد إلى فتح صفحة جديدة يتم فيها، على الأقل، إقصاء أولئك المُتسببين في طوفان الدماء، ثم إسناد الأمر إلى آخرين من ذويّ الدماء الشابة الذين يستطيعون العبور بسفينة الإخوان من هذه المتاهة.
وكان كاتب هذه الكلمات في الطائرة التي قادته من مصر إلى الغربة يستصعب المرحلة المُقبلة من الانتظار عامًا أو عامًا ونيف في سبيل إعداد الصفوف والبدء من جديد وفق منظومة أكثر شبابًا ومُسايرة للمتغيرات، وكأن الانعتاق من القيادات القديمة قد تم بالفعل!