تدافع السياسة الخارجية الجزائرية عن تطبيق فكرة المصالحة بشكل عام كآلية رئيسية لتسوية النزاعات الداخلية بما فيها تلك الموجودة الآن في الدول العربية، وبشكل خاص على نموذجها للمصالحة الوطنية الذي أنهى الأزمة الأمنية في الجزائر والتي امتدت إلى ما يقارب العشر سنوات.
ورغم النقائص الكامنة التي رآها البعض في مشروع السم والمصالحة الوطنية الجزائري،والتي ترتب عليها طرح مجموعة من الانتقادات منها ما هو متعلق بخلفية أيدلوجية ومنها ما هو متعلق بخلفية سياسية، فإن الصورة العامة تشير إلى أن هذا المشروع قد حقق أهدافه المتمثلة في عودة الاستقرار الأمني، والذي انعكس بشكل إيجابي على مجالات أخرى، فالأمن مثلما هو معروف القيمة الأساسية التي تتحقق في إطارها كل القيم الأخرى.
نموذج “المصالحة الصامتة” والتي تعني أن أطراف النزاع قد يتكيفون ويقبلون عمليًّا المساحة التي يشغلها كل طرف سلميًّا، دون أن يقوموا بالاستمرار في إيذاء أو محاولة تدمير الآخرين
أولاً.. آلية المصالحة وتسوية النزاعات: تعتبر آلية المصالحة من الآليات الرئيسية التي يلجأ إليها في تسوية النزاعات، وخاصة النزاعات التي تحدث داخل الدول، وتفيد التجارب التاريخية إلى غاية الآن توفر نموذجين للمصالحة هما “المصالحة الشاملة“ التي تقتضي الاعتراف السياسي والمحاسبة على الجرائم المقترفة وتقديم تنازلات سياسية كالاعتراف بالطرف الآخر، ونموذج “المصالحة الصامتة” والتي تعني أن أطراف النزاع قد يتكيفون ويقبلون عمليًّا المساحة التي يشغلها كل طرف سلميًّا، دون أن يقوموا بالاستمرار في إيذاء أو محاولة تدمير الآخرين، أو أن يسعوا لمكتسبات جديدة عبر استهداف الآخرين مثلما كان يحدث في الماضي.
وإذا كان لنا من توصيف للنموذج الجزائري ضمن هذا السياق العام فهو القول إن مشروع السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر يقدم نموذجًا وسطيًا بين هذين النموذجين، فالتفاصيل الإجرائية والقانونية لهذا المشروع تثبت أنه لم يصل إلى درجة تطبيق مشروع مصالحة وطنية شاملة كما في النموذج الجنوب الإفريقي، ولا التوقف فقط عند الحدود الدنيا للمصالحة الصامتة.
ثانيًا.. عوامل نجاح المصالحة الوطنية الجزائرية والنزاع السوري: من الطبيعي إذا اعتبرنا أن نموذج المصالحة الوطنية الجزائرية يبدو الأكثر واقعية إذا قدر لآلية المصالحة أن تكون هي الآلية الرئيسية في تسوية النزاع السوري، أن نتساءل عن العوامل التي أدت إلى نجاح مشروع السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر وموقع هذه العوامل من التفاصيل الراهنة للنزاع السوري، وفي هذا السياق يمكن أن نعدد المرتكزات التالية:
أ- المباردة السلطوية: بالنسبة لبعض أنظمة الحكم قد تبدو المبادرة السلطوية في عرض مشروع المصالحة مع الجماعات المسلحة مظهرًا من مظاهر ضعف الدولة اتجاه تلك الجماعات، ومع ذلك فإن نظام الحكم الجزائري لم يفكر بهذه الطريقة، حيث تبنى المبادرة بالمصالحة تجاه الجماعات المسلحة بالشكل الذي لم يكسر قاعدة احتكار الممارسة الشرعية للعنف من طرف السلطة المركزية، وفي نفس الاتجاه الذي دفع آلاف المسلحين إلى التخلي عن ممارسة العنف، وفي هذا السياق من المهم للنظام السوري أن يعرف أن المبادرة السلطوية لا تعني إظهار هذا النظام في مظهر الضعف تجاه الجماعات المسلحة، ولكنها قد تكون أحد عوامل نجاح تطبيق آلية المصالحة لتسوية النزاع.
ب- إعادة بناء تاريخ النزاع: أيضًا من العوامل الرئيسية التي ساهمت في نجاح مشروع السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر، تلك المتعلقة بتسيير نظام الحكم لآلية المصالحة بالشكل الذي يتجاهل بشكل متعمد بعض تفاصيل الأزمة الأمنية منذ اندلاعها بهدف تسهيل نجاح فكرة المصالحة، فمشروع السلم والمصالحة الوطنية يركز على حجم المأساة التي عرفها الشعب الجزائري وأنه الدافع الرئيسي لتبني مشروع المصالحة دون إعادة التفتيش في كل التفاصيل التاريخية للأزمة سياسيًا وأمنيًا.
من اللافت للانتباه أن مشروع السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر قد عرض للاستفتاء الشعبي في 29 من سبتمبر 2005 مع أن الرئيس بوتفليقة قد وصل لسلطة الحكم سنة 1999 وهذه السنوات الستة كانت مدة كفيلة بإحداث بعض التحولات الإيجابية داخل نظام الحكم
وإذا كان هذا بالنسبة للبعض مدعاة لانتقاد نموذج المصالحة الوطنية الجزائرية من حيث كونه “مصالحة دون مصارحة” فإن إعادة التفتيش في كل جوانب الأزمة كان سيعطل تطبيق سياسة المصالحة كآلية رئيسية لتحقيق الاستقرار الأمني، وعلى هذا الأساس فإن إعادة التفتيش في كل تفاصيل النزاع السوري منذ بدايته سيكون أحد المعوقات الرئيسية لتطبيق آلية المصالحة في تسوية هذا النزاع.
ج- التسامح والدمج الاجتماعي: أيضًا فإن ثقافة التسامح كان لها دور كبير في إنجاح مشروع السلم والمصالحة الوطنية الجزائرية، فقد انطلق هذا المشروع من كون أن عناصر الجماعات المسلحة هم في النهاية أبناء الوطن الجزائري الذين تم التغرير بهم بفتاوى دينية وحتى أجندات سياسية خارجية دفعتهم إلى حمل السلاح.
لذا فإن أحد المرتكزات الرئيسية لمشروع المصالحة الجزائري كان التركيز على إعادة الدمج الاجتماعي لهؤلاء في الحياة الاجتماعية، حيث يمارس الكثير منهم حياتهم اليومية بشكل عادٍ وفق تفاصيل قانونية نظمت ذلك، وحتى وإن كانت هذه الجزئية قد أثارت اعتراض التيار الاستئصالي في الجزائر والذي لم يتقبل إعادة الدمج الاجتماعي لمن حملوا السلاح ومارسوا العنف، ولكن من باب المقارنة البسيطة يمكن أن نتساءل عن أي الوضعين أفضل، هل ذلك الذي أدى إلى إعادة هؤلاء إلى الاندماج في الحياة الاجتماعية بعد اعترافهم بضلال المنهج الذي اتبعوه، أم بقاء هؤلاء يمارسون العنف بأشكاله المختلفة، ولذا فإن ذات التصور الذي يجب تبنيه في النزاع السوري، فعناصر الجماعات المسلحة في النهاية هم أبناء الشعب السوري الذين كانوا يمارسون حياتهم بشكل عادٍ في الدولة السورية، وتكريس ثقافة التسامح يساعد على اندماج هؤلاء من جديد في المجتمع كما تعودوا على ذلك.
د- تحولات نظام الحكم الجزائري: من اللافت للانتباه أن مشروع السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر قد عرض للاستفتاء الشعبي في 29 من سبتمبر 2005 مع أن الرئيس بوتفليقة قد وصل لسلطة الحكم سنة 1999 وهذه السنوات الستة كانت مدة كفيلة بإحداث بعض التحولات الإيجابية داخل نظام الحكم ومن هذه التحولات تحييد النخبة العسكرية الضيقة باعتبارها الجهة الرئيسية لصنع القرار في الجزائر، وقد عززت هذه التحولات من الثقة في آلية المصالحة، بمعنى أن نجاح سياسة المصالحة ترافق مع تحولات عملية وإيجابية في نظام الحكم الجزائري، وهذا يعني أن تطبيق نموذج المصالحة الجزائري في تسوية النزاع السوري لا بد أن يترافق مع تحولات عملية وإيجابية داخل نظام الحكم السوري بمبادرة ذاتية.
نجاح مشروع السلم والمصالحة في الجزائر وإمكانية تطبيقه كآلية رئيسية في تسوية النزاع السوري لا يعني أنه لا توجد بعض المعوقات أمام التجسيد العملي لذلك
ثالثًا.. هل هناك معوقات؟ إن تفصيل عوامل نجاح مشروع السلم والمصالحة في الجزائر وإمكانية تطبيقه كآلية رئيسية في تسوية النزاع السوري لا يعني أنه لا توجد بعض المعوقات أمام التجسيد العملي لذلك ومنها:
أ– إدراك النظام السوري لطبيعة النزاع: منذ بداية النزاع سنة 2011 والنظام السوري يصر على اعتبار النزاع السوري مؤامرة كونية على الدولة السورية، ويحتاج النظام السوري إلى التنازل المعقول عن هذه الرؤية، فرغم أن هناك العديد من القوى الخارجية التي تغذي النزاع السوري، فإن أطراف النزاع الأصليين هم أبناء الشعب السوري، وبالعودة إلى النموذج الجزائري في المصالحة، فلا يمكن إنكار دور بعض القوى الخارجية في العمل على تعزيز الأزمة الأمنية في الجزائر ومع ذلك فإن مشروع السلم والمصالحة لم يركز على هذا المسار بقدر ما ركز على كيفية تحقيق المصالحة بين أبناء الشعب الجزائري.
ب- تدخل القوى الخارجية:إن أحد النجاحات التي تحسب لنظام الحكم الجزائري في فترة الأزمة الأمنية هو محافظته على الطابع المحلي للأزمة وعدم إعطاء الفرصة لتدويلها رغم الضغوطات الدولية التي كانت تمارس آنذاك، وقد سهل ذلك من تطبيق آلية المصالحة، في حين أن النزاع السوري في الوقت الراهن قد تعقد إلى درجة أن جلب إليه التدخل المباشر وغير المباشر للعديد من الأطراف الإقليمية والدولية، ويحتاج نجاح نموذج المصالحة الجزائري إلى تقليص تدخل القوى الخارجية في تفاصيل نزاع النظام السوري من حيث كونه الممثل الرسمي للدولة السورية مطالب بأن يكون الطرف المبادر في هذا السياق.
إن نموذج المصالحة الوطنية الجزائري قد لا يكون النموذج المثالي للمصالحة الوطنية السورية، ولكنه من وجهة نظري النموذج الأكثر واقعية
ج- انهيار الاقتصاد السوري: تضمن مشروع السلم والمصالحة الوطنية الجزائري أيضًا تعويضات مادية معتبرة لمن وصفهم المشروع بضحايا المأساة الوطنية، وقد كان هذا الإجراء من الإجراءات المهمة التي ساهمت في التخفيف من آثار الأزمة الأمنية، وبالعودة إلى النزاع السوري من الممكن القول إن انهيار الاقتصاد السوري في الوقت الراهن قد يكون أحد المعوقات الرئيسية في تطبيق النموذج الجزائري في المصالحة، ومع ذلك يمكن تجاوز هذا المعوق من خلال المبادرات الدولية التي تتم برعاية منظمة الأمم المتحدة بإعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد السوري
بصورة عامة.
إن حجم المأساة التي يعرفها الشعب السوري في الوقت الراهن، كفيلة بأن تكون الدافع الرئيسي للتفكير في اعتماد آلية المصالحة كآلية رئيسية لتسوية النزاع، وإذا كان نموذج المصالحة الشاملة قد يفرض تنازلات قاسية لا نتوقع لأطراف النزاع السوري أن تلتزم بها، وإذا كان نموذج المصالحة الصامتة أقل بكثير من أن يحسم تعقيدات النزاع السوري، فإن نموذج المصالحة الوطنية الجزائري قد لا يكون النموذج المثالي للمصالحة الوطنية السورية، ولكنه من وجهة نظري النموذج الأكثر واقعية.