استيقظت عيون العالم صباح الجمعة الماضية، على إطلاق الجيش الأمريكي 59 صاروخًا من طراز “توماهوك” من مدمرتين تابعيتن للبحرية على قاعدة الشعيرات العسكرية الجوية في ريف حمص وسط سوريا، في رد أمريكي على الهجوم الكيماوي الذي شهدته بلدة خان شيخون في إدلب منذ أيام.
الأمر الذي قابلته كل من روسيا وإيران، القوتين الداعمتين – الوحيدتين تقريبًا – لنظام الأسد، بتصريحات تبدو مرتبكة ومتوترة، فقد أشار الرئيس الروسي في تصريحات له صباح اليوم أن الضربة الأمريكية محاولة لإلهاء المجتمع الدولي عن جرائمها في العراق، كما حذر من الأضرار التي من شأن هذا “العدوان” أن يلحقها بالعلاقات بين الدولتين.
وقال المتحدث باسم الخارجية بهرام قاسمي: “ندين أي عمل عسكري أحادي”، مضيفًا أن الضربة الأمريكية ستساعد المجموعات الإرهابية.
هذه الضربة المفاجئة جاءت بعد أقل من 24 ساعة من تصريح الرئيس الأمريكي بأنه “يجب فعل شيء” وما تناثر حول التصريح من احتمالات تحرك عسكري في سوريا، حملت بين نيرانها رسائل عدة إلى أطراف مختلفة تتقارب أو تتباعد.
عن الأستانة
منذ سقوط حلب وإيران مصرة على تعطيل أي عملية سياسية من شأنها الانتهاء إلى انتقال السلطة أو إضعاف شرعية وجودها في الأراضي السورية من خلال القوات الشيعية المتمثلة في الحرس الثوري وحزب الله، وذلك بعد فشلها في فرض نفسها كطرف راعٍ لاتفاق الهدنة، الأمر الذي قوبل برفض فصائل المعارضة التي اعتبرت إيران طرفًا في النزاع وجزءًا من المشكلة.
بينما انشغلت أمريكا بالانتخابات وانتقال السلطة، فضلاً عن ضعف مواقف إدارة أوباما تجاه سوريا، انتهزت روسيا والقوى الداعمة للنظام الموقف ووضعت قدمًا في حلب تحسبًا لأي تغير مفاجئ في المواقف الأمريكية
وبينما انشغلت الولايات المتحدة بالانتخابات وانتقال السلطة، فضلاً عن ضعف مواقف إدارة أوباما تجاه الوضع في سوريا، انتهزت روسيا والقوى الداعمة للنظام الموقف ووضعت قدمًا في حلب تحسبًا لأي تغير مفاجئ في المواقف الأمريكية، وكي يكون لها الكلمة العليا إذا بدأت المفاوضات، وقد كان.
ومنذ هذه اللحظة، دخلت روسيا التي تصدرت المشهد في ظل غياب شبه كامل للموقف الأمريكي، في تحد أمام نفسها وأمام المجتمع الدولي، فقد صارت ملزمة بضمان وقف إطلاق النار وكف أيدي إيران وحلفائها عن المعارضة السورية، والتي نددت بدورها وهددت في حال استمرار خرق الهدنة بأنها ستعتبر نفسها خارج الاتفاق.
وكان آخر هذه الخروقات قصف خان شيخون بالغاز السام الذي تبعه مباشرة قصف قاعدة الشعيرات بالصواريخ الأمريكية.
أرادت إيران بخرقها للهدنة إفشال احتمالات التقارب بين روسيا وتركيا، والحفاظ على شرعية بقائها في الأراضي السورية بحجة محاربة “فتح الشام” وداعش
لقد أرادت إيران بخرقها للهدنة إفشال احتمالات التقارب بين روسيا وتركيا، والحفاظ على شرعية بقائها في الأراضي السورية بحجة محاربة فتح الشام وداعش، وقبل هذا وذاك الإجهاز على ما تبقى من المعارضة السورية لضمان بقاء الأسد في السلطة وعدم خوض أي عملية سياسية قد تدخلهم في حسابات بالتأكيد ستكون إيران الطرف الأضعف فيها في حال تقاربت وجهات النظر الروسية والتركية والأمريكية.
ونستطيع أن نقول إن إيران نجحت في جر سوريا مجددًا في ويلات الماضي القريب، بل أكثر بشاعة مما كان، وذلك لكي تفرض الأمر الواقع على الجميع، ربما أملاً في استفزاز المعارضة السورية ودفعهم دفعًا إلى الخروج عن الهدنة أو حصرهم في مواقع محددة تتقاطع معها مواقع تنظيم الدولة وجر التحالف أو روسيا إلى قصف هذه المواقع وتصفية خصومها بشكل نهائي، أي الحفاظ على الأوضاع متوترة وساخنة ما دامت تستطيع ذلك.
ترامب يعبر نهر روبيكون
هذا الهجوم الكيماوي الذي شنته قوات النظام ليس الأول، ولكنه كان القشة التي قصمت ظهر البعير، ونقطة روبيكون التي إذا ما عبرها ترامب فلن يكون له رجعة، فربما كانت الإدارة الأمريكية الجديدة – على عكس تصريحات ترامب – تتحين هذه الفرصة التي تستغل من خلالها وهن الموقف الروسي في سوريا أمام خروقات إيران التي عملت عمدًا على تسخير مواقف النظام وإحراج روسيا بما يحول دون وقف إطلاق النار وكذلك الحل السياسي.
روسيا التي كانت تتباهى بصدارة المشهد محل الولايات المتحدة رجعت إلى مربعها الحقيقي
روسيا التي كانت تتباهي بصدارة المشهد محل الولايات المتحدة رجعت إلى مربعها الحقيقي، فقد كانت روسيا فاعلة في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة خاملة أو مترددة، أما الصواريخ الـ59 فقد أبلغتها وأبلغت إيران بأنه لا مزيد من الصبر على تصرفات إيران وحزب الله المراهقة، كما أنه لا مجال للأسد في مستقبل سوريا والولايات المتحدة قادرة على إزاحته ولكنها تسعى لفتح باب لمفاوضات حقيقية طرفيها أمريكا وروسيا.
ومنذ الساعات الأولى تفهمت روسيا الرسالة جيدًا، وتمثل ذلك في إعلان الولايات المتحدة أنها قد أبلغت الجانب الروسي قبل العملية بعشر ساعات، الأمر الذي لم يواجهه أي رد فعل أو إجراء مضاد، غير ذلك أن روسيا قد بادرت بإعلان أنه لا ضحايا روس جراء الضربة الأمريكية مما يبدد أي أفق أو رؤية لنشوب نزاع من أي نوع، مما يعني أن الرسالة وضحت للجانب الروسي بجلاء.
انقسام درامي في الداخل الأمريكي
ربما كانت العملية تحمل أيضًا رسالة إلى الرأي العام الأمريكي قبل الرأي العام الدولي، والتي، وبلا شك، ستروق كثيرين من مؤيديه ومعارضيه على السواء، ولكن كثير من اليمينيين المؤيدين أصلاً للرئيس الأمريكي أغضبهم كثيرًا التدخل العسكري في الشأن السوري، مما اعتبروه إقحامًا لأمريكا في حرب ونكوص على عهود ترامب المتمثلة في مقولة “أمريكا أولا” ومنهم السيناتور ريتشارد سبنسر الذي تعهد بأنه لن ينتخب ترامب لولاية ثانية.
على الناحية الأخرى رحب السيناتور الديمقراطي جون ماكين كثيرًا بالضربة الأمريكية قائلاً بأنه مسرور جدًا بقرار الرئيس الأمريكي وأن السبب الوحيد لبقاء الأسد هو روسيا وليس السوريين بالتأكيد.
ترامب وعد بأن تكون سياسة أمريكا أبعد ما تكون عن الإنسانية، ولكنه وعد أيضًا بإعادة الولايات المتحدة إلى الصدارة مجددًا، وهو ما قد كان بهذا التحرك “الشجاع” كما وصفته السعودية
صحيح أن ترامب قد وعد بأن تكون سياسة أمريكا أبعد ما تكون عن الإنسانية، ولكنه وعد أيضًا بإعادة الولايات المتحدة إلى الصدارة مجددًا، وهو ما قد كان بهذا التحرك “الشجاع” كما وصفته السعودية.
ربما يملك بوتين كروتًا للضغط على إدارة ترامب في الداخل الأمريكي متعلقة بعلاقة روسيا بالانتخابات الأمريكية، وقد يكون إثارة القلاقل في الداخل الأمريكي فعالاً لحظيًا ولكن ليس أداة لإعادة موازين القوى إلى ما كانت عليه قبل التحرك الأمريكي، كما أن التأييد الدولي غير المسبوق للتحركات الأمريكية زاد من إحراج روسيا أمام المجتمع الدولي.
أما إيران، التي سعت أصلاً لإفشال المفاوضات في البداية وإضعاف روسيا، لن تكون سعيدة أبدًا برضوخها أمام الفعل الأمريكي، مما سيزيد عزلتها وابتعادها عن مكتسباتها على الأرض.
وبذلك تتبين احتمالات مصير الأسد وتتباين بين سيء وأسوأ، فمن الواضح أن الولايات المتحدة ومن ورائها تركيا وأوروبا، واللتين عانيا طويلاً من الأزمة السورية وتدفق اللاجئين إليهما، جميعًا عازمين على حل سياسي ستكون فيه فرص الأسد في البقاء ضئيلة جدًا.