لم يعرف طلاب مدرسة ستيجليك الثانوية الواقعة بمدينة سيرتوخيمبوس جنوب هولندا، أنهم على موعد مع حدث سيغير حياة بعضهم للأبد.
ففي صباح الـ17 من يناير هذا العام، قفز مدرس الرياضيات إريك أولتمانز من إحدى بنايات المدرسة أمام الطلاب الذين رأوا الحادثة عبر نوافذ الفصول.
عرف المدرس بسمعته الطيبة بين الطلبة وطاقم التدريس في المدرسة وأبّنه الطلاب في مواقع التواصل الاجتماعي، عين طاقم المدرسة أطباءً نفسيين وطاقم من الأخصائيين الاجتماعيين لمساعدة الطلاب على تجاوز هذا الحدث الأليم، لم يعرف حتى الآن ما الأسباب التي دفعت المدرس للانتحار في المدرسة.
القصة (بلا حرق أحداث)
في بداية اليوم الدراسي، يدخل سيمون الفصل قبل كل الطلاب ليوزع علب الحليب على مكاتب الطلاب، قبل أن يدخل الفصل، يجذب انتباهه مشهدًا غريبًا يراه خلف باب الفصل، سيدة مشنوقة.
لقد انتحرت مدرسته مارتين لاشانص، فورًا تتخذ المدرسة إجراءات لإخلاء المكان وحماية الطلاب من رؤية المشهد الفظيع، أليس صديقة سيمون، فقط هي من استطاعت اختراق الكردون الأمني ورأت مدرستها المفضلة معلقة من رقبتها على إحدي مواسير الفصل.
عينت مديرة المدرسة مدام فايانكور طبيبة نفسية للتحدث مع الطلاب ومساعدتهم على تجاوز الصدمة، وأعادت طلاء الفصل وإخفاء أي متعلقات أو آثار لمارتين من المدرسة.
طاقم التدريس نفسه لا يعرف كيف يتعامل مع الموقف، خاصة إذا تعرض أحد الطلاب لانهيار عصبي، هناك أيضًا مشكلة أخرى، وهي عدم وجود بديل لمارتين يدرس للطلاب.
بينما تنهمك مدام فايانكور في عملها ومشكلتها، يدخل بشير لزهر مكتبها ويعرض خدماته.
تأمل عزيزي القارئ هذا المشهد.
يبدأ بشير بالتدريس الطلاب ويجده الطلاب أسلوبه غير مألوف ومختلف، فهو يقوم بإملائهم مقطع من قصة للكاتب الفرنسي الشهير هنري دي بالزاك، ويجدها الطلاب غير مفهومة، بشير له تعريفات مختلفة لقواعد النحو الفرنسي عن تلك التي يعرفها الطلاب، نظرًا لاختلاف الفرنسية التقليدية عن الفرنسية الكويبيكية.
نكتشف أن بشير ليس مقيمًا دائمًا كما أخبر فايانكور، على العكس هو مقيم غير شرعي ويسعى لتقديم أوراق لجوئه لكندا، يظهر أيضًا أن بشير هو الآخر تعرض لصدمة كبرى، يحاول بشير على مدار الفيلم التعافي منها.
فهل سيكتشف سر بشير من قبل طاقم التدريس وهل سيستطيع التأقلم مع الطلبة والثقافة المختلفة؟ وهل سيساعد الطلبة على تخطي صدمتهم ومحنتهم؟
الفيلم مقتبس عن مسرحية بشير لزهر للكاتبة الكندية كاترين دي شانلييه وهي مسرحية ذات فصل وحيد وشخصية وحيدة بنفس الاسم، وفق المخرج فيليب فالاردو في تحويل النص المسرحي الذي لم يتجاوز 25 صفحة إلى فيلم تجاوز الـ90 دقيقة.
استكشف فالاردو عالم المدرسة وتأثير الحادثة على الأطفال من أجل إبراز المعضلة الواقع بها بشير بشكل خاص وطاقم المدرسة بشكل عام، تمنع السياسة التعليمية الكندية المدرسين من الاحتكاك ولمس الأطفال بأي حال من الأحوال، الأطفال يمرون بحالة من الصدمة وأغلب آبائهم غير قادرين على الوجود معهم نظرًا لظروف العمل الخاصة بهم.
بسبب تلك السياسة، لا يستطيع المدرسون تقديم الدعم العاطفي للطفل الذي قد يتطلب حضنًا دافئًا أو ربت على الظهر، ولا يستطيع الأطفال الشعور بأن هناك جدوى من إجراءات المدرسة “الوقائية” التي تتخذها لصالحهم.
“لا تحاولوا البحث عن معنى لوفاة مارتين لشانص، لأنه غير موجود، الفصل مكان للدراسة والعمل والصحبة، هو مكان مليء بالحياة، حيث يتفرغ فيه المرء لإلهام الآخرين ومساعدتهم، ليس مكانًا لنقل روح اليأس للجميع”، بشير لزهر متحدثًا لطلابه عن انتحار مدرستهم.
على جانب آخر قدم فالاردو ودي شانلييه نصًا يتعاطف مع اللاجئين وأزمتهم في الاندماج من خلال تقديمهم لشخصية لزهر، بشير شخص يريد العيش الكريم ويعمل بجد من أجل مساعدة الأطفال وإحداث تغيير إيجابي في حياتهم، فيلم كهذا رد قوي لقوى اليمين الشعبوية المناهضة للاجئين في أوروبا وأمريكا.
التمثيل
قام بدور بشير لزهر الممثل الفرنسي الجزائري الأصل محمد فلاق، فلاق من أشهر ممثلي الكوميديا في الجزائر وفرنسا، حصل على الدور بعد أن رشحته دي شانلييه للمخرج فالاردو.
غير فلاق من جلده في هذا الفيلم، فلا توجد مشاهد كوميدية هنا على الإطلاق، يجسد فلاق إنسانًا يسعى للاندماج بمجتمعه الجديد ومندهشًا من الإجراءات التي يتخذها النظام التعليمي التي يزعم أنها لحماية الطلاب بينما هي تمنع الطالب من التعبير عن حزنه وصدمته من الحدث، استطاع فلاق أن يجسد العزلة التي تشعر بها الشخصية نتيجة الصدمة التي تعرض لها في الجزائر والتي على إثرها طلب اللجوء لكندا.
قامت بدور الطالبة أليس الممثلة صوفي نيليس، صوفي جسدت فتاة مصابة بالصدمة من الحدث وتحاول بشتى الطرق التواصل مع الآخرين لإخراج ما في داخلها بشكل مذهل.
تأمل معي هذا المشهد لتصدق.
ظهرت صوفي نيليس في العديد من الأفلام الناطقة بالإنجليزية بعد هذا الفيلم، أشهرها فيلم سارقة الكتب.
قام بدور الطفل سيمون المثل إيمليون نيرون، جسد طفلًا يخفي حزنه وشعوره العميق بالذنب عن طريق صخبه وإزعاجه أليس وبقية زملائه بالفصل، نيرون له مشهد في نهاية الفيلم سيثير الدموع لدى المشاهدين لصدقه الشديد، قام بدور مدام فايانكور الممثلة الكندية المخضرمة دانيال برو، جسدت شخصية في حالة صراع بين تطبيق سياسات صارمة فرضت من قبل السلطة وعمل ما هو صحيح من أجل الطلبة.
دانيال ظهرت في فيلم كريزي للمخرج جون مارك فالي وفازت بجائزة أحسن ممثلة مساعدة عنه، ظهرت كاترين دي شانلييه في دور صغير ولكن مؤثر وهو دور أم أليس الغائبة عنها بسبب ظروف عملها كطيارة.
الإخراج والتصوير
يحسب لفالاردو أنه استطاع تجنب المبالغة والابتذال في إخراج نص ذي موضوع حساس ومعقد مثل هذا، أداء الممثلين ابتعد عن البكائية والمبالغة، استخدام الموسيقى كان محدودًا ومحددًا ومؤثرًا، لو أن مخرجًا ضعيفًا أخرج هذا النص كان حوله لبكائية تشحذ مشاعر العطف من المشاهدين.
فالارادو طرح العديد من الأسئلة ولم يضع أي إجابات لها كوسيلة لوضع المشاهد في نفس مكان أبطال العمل بالأخص بشير وطاقم التدريس، اعتمد فالاردو ومدير التصوير رونالد بلانت على الألوان الباردة والإضاءة الساطعة في التصوير واستخدما أسلوب تصوير أقرب للوثائقي من خلال استعمال الكاميرا المحمولة وتنوير موقع التصوير بدلًا من تنوير الممثلين.
عرض الفيلم في مهرجان لوكارنو في 2011 ولاقى حفاوة نقدية كبيرة، ثم رشحته كندا للأوسكار في فئة أحسن فيلم أجنبي وخسر أمام الفيلم الإيراني انفصال لأصغر فرهادى.
عرض الفيلم في سياق فعاليات مهرجان دي كاف في القاهرة، وقرأ الممثل سيد رجب المسرحية الأصلية في عرض كان مكتظًا بالجماهير، حضرت الكاتبة دي شانلييه عرض الفيلم في سياق المهرجان وقدمت ورشة للكتابة في سياق فعاليات المهرجان.