ترجمة وتحرير نون بوست
الفن ليس ترفًا أو زخرفة حضارية، إنه أحد الأهداف الرئيسية للحضارة، يلعب الفنانون دورًا لا يمكن للسياسين أو المديرين أو الجنرلات القيام به، فهم يساعدوننا على اكتشاف العمق والغموض داخلنا ومن حولنا، فهم يجدون العالم في الأشياء المألوفة حولنا وفي أشياء لم نكن لنتخيلها أبدًا وفي الروابط التي تجمعنا بأكثر الطرق عمقًا.
وكنتيجة لذلك، فإن الثقافة – وهي نتاج جميع الفنون في المجتمع عند دمجها مع العادات والعلاقات الاجتماعية – ربما تكون أقوى قوة على الأرض، لأن الثقافة – في جميع أشكالها اللانهائية سواء الطعام الذي نأكله أو إنتاجنا العبقري أو الأساطير والقصص الاجتماعية والتي تحدد هويتنا – هي النظام الذي نتبعه في حياتنا.
لهذا السبب، فهؤلاء الذين يسعون لغزو وتدمير المجتمعات يتجهون نحو تدمير وسرقة الأعمال الفنية العظيمة، فهم يعتبرونها مصدرًا أكثر قوة من الجيوش، لذا دمرت طالبان الفن الأفغاني، وقامت داعش بتدمير الآثار في تدمر وسوريا والعراق، وتتعرض التماثيل للتحطيم في أثناء الثورات، وتتعرض القطع الفنية والأثرية للمصادرة أو استخدامها كتميمة من أجل الحصول على الشرعية.
خلال التاريخ، سعى القادة السياسيون إلى استخدام قوة الثقافة للدمج بين الأمم المختلفة وكسب المؤيدين، واستخدمها أبطال التغيير الاجتماعي لإثارة الشعوب والحصول على القوة النفسية، واستخدمها رجال الأعمال في الربط بين الثقافة الشعبية والكلاسيكية لإعطاء الهوية للعلامات التجارية والتواصل مع العملاء المحتملين، ولأن الفن هو أبسط مظهر من مظاهر الروح الإنسانية، وعندما يكون عظيمًا فإنه يمس الروح والفكر، فربما يكون الفن أعظم وسيلة للتغيير عرفها العالم.
وجد الدبلوماسيون أن الفن والثقافة أدوات لا تُقدر بثمن، عندما اجتمع المفوضون في مؤتمر فيينا في بداية القرن الـ19، استدعوا بيتهوفن ليلحن لهم، وعندما سعت الولايات المتحدة لكسب الدعم في أثناء صعودها كقوة عظمى، كانت ترسل الفنانين – مثل الملحن آرون كوبلاند والمغنية والممثلة كارمن ميراندا – لتعزيز السياسات مع دول الجوار، كما أرسلت موسيقي الجاز مثل لويس أرمسترونج وهيربي هانكوك في أثناء الحرب الباردة، كما قامت روسيا بالمثل مع مسرح البولشوي، وربما لا يوجد دولة تحتضن الدبلوماسية الثقافية اليوم مثلما تفعل الصين.
إذا طلبت من أي شخص في العالم أن يخبرك عن أول ما يجول في خاطره عندما يفكر في بلد ما، فعلى الأرجح يكون الأمر ثقافيًا مثل أفلام بوليوود أو موسيقى كي – بوب أو كتاب مثل غابريلا ميسترال وبابلو نيرودا (كلاهما كانا دبلوماسيًا)، وبالتأكيد فإن تايلور سويفت وبيونسيه يشكلان الوعي الأمريكي أكثر مما قد يفعله ريكس تيلرسون كوزير للخارجية أو مدير تنفيذي لشركة “إكسون”.
ومع ذلك، فمن المفارقات في بعض البلدان مثل الولايات المتحدة الآن، هناك نقاشًا بشأن إذا ما كانت الفنون تستحق دعمًا حكوميًا أم لا، ففي كل مكان في العالم، تعاني برامج تعليم الفن للأطفال من نقص التمويل، رغم وجود العديد من الأدلة على أن مستقبل العالم التكنولوجي يتجه نحو زيادة الطلب على الإبداع، (ولهذا السبب يقدم دعاة تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات “STEM” أنفسهم كالأبطال مضيفين الفن إلى ذلك لأنه يساعد على تعزيز القدرات الإبداعية)، علاوة على ذلك، فإن المجتمعات الفنية والثقافية تقع على هامش مناقشات القيادة العالمية ومؤتمرات القمة والمؤتمرات الرئيسية.
تعمل الثقافة والفنون كمادة لاصقة تربط بين الحضارات تقود نحو التغيير الاجتماعي، ومع ذلك ففي كثير من الأحيان يصبحان على الهامش ويجلسان على مقاعد الأطفال عندما يتعلق الأمر بمناقشة السياسات العامة الكبيرة (المبلغ المطلوب لتمويل الصندوق الوطني للفنون في الولايات المتحدة يعادل ثمن مقاتلة “إف-35”) عند ذكر هذا المبلغ أو كلمة “فنون” في مناقشة سياسية جادة بواشنطن أو غيرهما من العواصم، يجعل المسؤولين يطلقون بعض الهمهمات ويعود انتباههم مرة أخرى إلى أدوات بسيطة وربما أقل فعالية لتحقيق أهدافهم.
هذا الأمر صحيح في الكثير من البلدان، لكن ليس جميعهم، فمما لا شك فيه أن الصين تستثمر اليوم بكثافة في مجال الثقافة وهي الآن مركز للعديد من الفنون الجديدة التي ظهرت في الـ15 عامًا الأخيرة، أكثر من أي دولة أخرى، لكن الدول الصغرى تحاول أن تحذو حذو الصين، فالإمارات العربية المتحدة أصبحت دولة جاذبة للسياحة وأرسلت رسالة للعالم مفادها أنها تسعى لتكون قيادة فكرية عالمية من خلال استثمارها في الثقافة – وذلك بدءًا من متحف اللوفر الجديد الذي سيتم افتتاحه في أبو ظبي بنهاية هذا العام، ويليه متحف جوجينهام، ودار الأوبرا في دبي (والتي باعت تذاكرها بعد 3 ساعات فقط من عرضهم للبيع، وحتى أوبرا متروبوليتان في نيويورك تبلغ سعتها ثلثي الجمهور فقط مقارنة بأوبرا دبي).
كما قامت مؤسسات إعلامية مثل “Two Four 54” وغيرها من المؤسسات بتقديم البلاد كعاصمة للانتاج السينمائي لأفلام ضخمة مثل “حرب النجوم” و”المهمة المستحيلة”، هذا الأمر ليس من قبيل الصدفة، فهو جزء من الاعتراف بأن الحيوية الثقافية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالحيوية الفكرية والحيوية الاقتصادية، وبذلك ترسل الإمارات رسالة تقول بأنها تسعى لأن تكون مركزًا عالميًا وتعمل جاهدة لإعداد سكانها للعمل في المسرح العالمي.
لتحقيق هذا الالتزام، فإن الإمارات العربية المتحدة من خلال هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة مع مجموعة “FP” ومؤسسة “TCP Ventures” للاستشارات الفنية يعقدون أول قمة ثقافية في العالم بحضور أكثر من 300 من القادة الثقافيين من 80 دولة، يستمر هذا الحدث 5 أيام ويضم وزراء الحكومة والفنانين المشهورين عالميًا ومديري الفن وقادة الإعلام والتكنولوجيا وقادة الأعمال الخيرية، في برنامج يهدف إلى اكتشاف مستقبل الثقافة وكيف يمكن استغلال قوته لتحقيق تغيير اجتماعي إيجابي، من مكافحة العنف والتطرف ومكافحة التغير المناخي وتمكين المرأة وتعزيز تعلم الفنون.
الهدف من ذلك هو تسخير القوة المضاعفة – قوة المجتمع- التي كثيرًا ما تفشل المبادرات الثقافية في الاستفادة الكاملة منها، وفي الواقع، هذه القوة الدافعة وراء هذا الحدث يعزى تقدمها إلى التكنولوجيا المتطورة مثل الهواتف الذكية والإنترنت، وهو ما سوف يُصلنا قريبًا إلى اللحظة الأولى في التاريخ عندما كان الإنسان على هذا الكوكب بمفرده للمرة الأولى متصلًا بالنظام البيئي الثقافي.
هذا الأمر يخلق أيضًا فرصًا جديدة للتبادل والتعاون ويثير تحديات جديدة فيما يتعلق بأثر هذه الصلات، بداية من رد الفعل العنيف وصولًا إلى نماذج الأعمال المتغيرة ومتطلبات التفكير الجديد بشأن عمليات التمويل أو حماية الملكية الفكرية. وسنكرم أيضًا تبعًا لهذا رواد الدبلوماسية الثقافية في محاولة للفت الانتباه إلى قوتها وتأثيرها، وكذلك للمساعدة في إضفاء الطابع المهني على ممارستها ، وسوف يكون هناك الفن – بعض من أفضل الفنون البصرية وفنون الأداء في العالم – الذي من شأنه أن يمنح المؤتمر الشعور بالبهجة والاحتفال، على الرغم من هذا التركيز على تحديد النشاطات التي يمكن أن تتخذها المجموعة معا للمساعدة في تسخير قوة الثقافة من أجل الأعمال الخيرية الاجتماعية على الصعيد الدولي.
كما أن هذا الأمر سوف يقترب من فكرة قديمة، ولكن بطريقة جديدة وبنوع من الإلحاح -وهو أحد التحديات التي يواجهها الشرق الأوسط، تلك المنطقة التي ستعقد فيها المهرجان، سيكون المهرجان مجرد بداية، وسوف تلتزم فورين بوليسي بجعل هذا الحدث سنويًا، ولكن الأمل أيضًا أن نحدث أثرًا في الوقت الحاضر، وأن نزيد الوعي بالفرصة القائمة، إذا ما أدركنا أن أكثر الأشياء قوة من أجل الخير على كوكبنا هي خيالنا.
المصدر: فورين بوليسي