رغم الكثير مما نعرفه عرفاً أو واقعاً أو من وسائل الإعلام عن مساوئ وسلبيات الاتفاقية، إلا أنني أحببت أن أستعد للندوة من خلال التعمق في ظروف الاتفاقية، ونصوصها، والدراسات التي كتبتت حولها. في نهاية المطاف، خرجت بانطباع لازمني منذ يوم الندوة: ما نعرفه من مخاطر اتفاقية أوسلو ليس سوى الجزء البسيط الظاهر من جبل الجليد، وما زلنا في حاجة لأن “ندرسها” ونقيّمها بعيداً عن ندرة وسطحية ما يطرح في الإعلام.
إيجابيات
لطالما روجت دوائر منظمة التحرير الفلسطينية أن اتفاقية أوسلو سم تجرعته قيادتها ولم تكن تسيغه، بفعل ظروف محلية وإقليمية ودولية، وأن الواقعية السياسية اضطرتهم إلى هذا الخيار الصعب الذي لم يكن يرجحونه. من ناحية أخرى، يرى بعض المقربين منها أن الاتفاق أفضل ما كان يمكن إنجازه سياسياً في ظل الظروف الراهنة، وأنه الخطوة الأولى في طريق إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة.
يمكن للمرء أن يعدد بعض المزايا الإيجابية التي تمخضت عنها الاتفاقية (على الأقل من وجهة نظر مؤيديها)، منها اعتراف الكيان الصهيوني بالمنظمة، واعتراف المجتمع الدولي ببعض الحقوق الوطنية الفلسطينية، وإنشاء كيان سياسي يمكن أن يكون نواة لدولة مستقلة، وعودة أعداد من كوادر الفصائل الفلسطينية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
لكن النقاط السلبية، إن لم نقل الكوارث الخطيرة على عناوين القضية الفلسطينية، مزروعة في ثنايا وتفاصيل الاتفاق، وعلى طول طريقه، ابتداءً بإرهاصات التوافق، مروراً بيوميات التفاوض، ووصولاً إلى تداعيات التطبيق.
السياق الزمني والتاريخي
قلَّ أن يذكر اتفاق أوسلو إلا وتساق في سبيل تبريره مقولات اختلال توازن القوى الدولية، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وحرب الخليج، وخروج المنظمة من لبنان، وضعف العمل العربي المشترك، إلى غيرها من الأحداث الإقليمية والدولية التي توضع في مقام الأسباب القاهرة التي أدت إلى توقيع المنظمة مكرهة على الاتفاق.
لكن هذا الطرح لا يلبث أن يتداعى أمام موضوعية التقييم وعمق التحليل، فالأحداث التاريخية تحتاج فترة زمنية طويلة من التفاعل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً قبل التأثير في الواقع بينما الاتفاق تبع بفترة وجيزة بعض هذه الأحداث وعاصر بعضها، بل وسبق بعضها الآخر. ثم إن العودة بالذاكرة إلى صفحات التاريخ القريبة ستثبت عدم صحة ذلك الادعاء، وأن الاتفاق المذكور لم يكن نتيجة لكل هذه المقدمات، بل خطوة منطقية في سياق خطوات سبقتها، وتمهيدية لما تبعها.
فقد بدأت بعض الشخصيات الشيوعية اللقاءات مع بعض القوى الصهيونية باكراً جداً، في ستينات القرن الماضي، ثم لحقتها بعض القوى اليسارية بعد سنوات. كما أن طرح البرنامج المرحلية لمنظمة التحرير المعتمد على “النقاط العشر” كان في عام 1974، في تزامن مع قمة الرباط التي اعترفت بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني. وبينما يوثق عام 1979 لأول “لقاء رسمي” بين الفلسطينيين والصهاينة، فقد نقل عن الراحل عرفات أنه طلب في ذلك العام قناة سرية للتواصل مع قادة الكيان.
أعلنت عام 1988 الدولة الفلسطينية في احتفال كرنفالي وتصفيق حاد غطى على كلمات الاعتراف بالقرارات الدولية، في حين نبذ أبو عمار “الإرهاب والعنف” في حديثه في الأمم المتحدة، حتى وصلنا إلى مؤتمر مدريد عام 1991، واتفاقية أوسلو عام 1993.
المفاوضات
وقبل الدخول في دهاليز الاتفاق، يجدر الإشارة إلى أن فكرة التفاوض مع الفلسطينيين لإنشاء سلطة محدودة ومؤقتة يديرونها تعود للمفكر الصهيوني جابوتنسكي (معلم نتنياهو) الذي كان ينظـّر لاحتلال نظيف ورخيص، ثم تلقف هذه الفكرة منه الثنائي بيغن-شارون وصاغاها في مبدأ “الحكم الذاتي.
غير أن هذه الإشارة ستبدو غير ذات بال حين تذكر إلى جانب عدة نقاط كارثية سطرت في الاتفاق أو ميزت أسلوب وفد المنظمة في التفاوض، من ذلك:
*ردد الصهاينة في أكثر من مناسبة أنهم كانوا “يفاوضون أنفسهم”، تدليلاً على غياب جو “المعارك التفاوضية” المعروف دولياً، وضعف وفد المنظمة وقبوله ما يطرح عليه من الطرف الآخر.
*من ذلك ما يذكره “يو إل زينغر” الذي طرح على الوفد الفلسطيني 100 سؤال مكتوب، ثم قال في تقريره لقيادته بعد أن قرأ الإجابات: “سنكون أغبياء إن لم نوقع مع هؤلاء اتفاقاً”.
*في إحدى الجولات عرض الوفد الصهيوني ورقة لتكون أساساً يتفاوضون حوله، ففاجأهم الخصم بالموافقة عليها كما هي دون مفاوضات أو أدنى اعتراض.
*تضمنت الاتفاقية اعترافاً صريحاً من المنظمة بدولة الكيان، مما يعني تنازلاً صريحاً وموثقاً عن %78 من أرض فلسطين.
*قال أحد الدبلوماسيين الأمريكيين أن كل طرف حصل في أوسلو على ما كان يهمه ويركز عليه: اهتم الفلسطينيون بالجانب السياسي وفازوا بالشكليات والرموز من علم وختم وسجاد أحمر، واهتم الصهاينة بالجانب الإداري ففازوا بالسيادة والأمن والحدود.
*تم استثناء القدس واللاجئين من المفاوضات ونص الاتفاقية.
*كان الاتفاق حلاً منفرداً من وراء الوفد الأردني-الفلسطيني المشترك، وبعيداً عن القرار العربي المشترك.
*تم تجريم مقاومة الاحتلال نصاً في الاتفاقية، رغم أنها حق للشعوب المحتلة تكفلها المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية.
*عقدت اللقاءات وتم التوقيع على الاتفاق ومرعليه أكثر من 20 عاماً ولم يستفت الشعب الفلسطيني حتى الآن ولم يسأل عن رأيه فيه.
الانعكاسات
تسببت المسيرة التفاوضية التي أدت إلى اتفاقية أوسلو ونصوصها وتطبيق بنودها بأضرار استيراتيجية وتكتيكية بالغة بالقضية الفلسطينية على مدى العشرين عاماً الماضية. ولئن قال الزعيم الفلسطيني الراحل للمحتشدين في خطاب جماهيري “إن كان عندكم اعتراض على أوسلو، فأنا عندي 100 اعتراض”، إلا أن الواقع يشي بأكثر وأخطر من ذلك بكثير:
*يقول أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة وأحد مهندسي الاتفاق ياسر عبدربه إن أوسلو لم تنص على إنهاء الاحتلال أو الاستيطان، ولا على إقامة دولة مستقلة.
*لم يكن هناك سقف زمني للاتفاق رغم أنه نص على انتهاء فترة الحكم الذاتي بعد 5 سنوات، إذ ربط الخطوة التالية بالتوافق بين الطرفين، مما أدى إلى مراوحة الوضع في مكانه حتى اليوم بعد 20 عاماً من التوقيع.
*ألغى الاتفاق حالة العداء بين الطرفين، وحلت مكانها مصطلحات “بناء الثقة” و”التعاون الاقتصادي”، وكأنَّ القضية كانت مجرد نزاع حدودي بين دولتين جارتين، لا بين دولة محتلة وشعب مضطهد.
*لمعت الاتفاقية صورة الاحتلال بعدما حاصرته الانتفاضة الأولى عالمياً وأظهرت وجهه القبيح، وتغير توصيفه من محتل غاصب إلى شريك في عملية سلام.
*بسبب حصر آلية حل الخلافات لدى التطبيق بالتفاوض ورضا الطرفين، زاد تفلت وتعنت الجانب الصهيوني. ثم تراجعت مرجعية المفاوضات في كل جولة، من الأمم المتحدة والأرض مقابل السلام، إلى الرجوع لما قبل انتفاضة الأقصى، إلى الاتفاقات السابقة الموقعة، إلى رؤية الرئيس بوش، وصولاً إلى السلام الاقتصادي الذي يراد فرضه على الفلسطينيين.
*أخرجت أوسلو (فعلياً وإن لم يكن اعترافاً) حركة فتح بما لها من ثقل وقوة وتواجد من معادلة الصراع العسكري في مواجهة الاحتلال على مراحل، وأدت إلى إجهاض الانتفاضة.
*فرضت الاتفاقية – في أهم بنودها – التعاون الأمني بين الطرفين، واشترطت عدم ملاحقة عملاء الاحتلال من قبل السلطة.
*كانت الاتفاقية وآليات تنفيذها (خصوصاً الشق الأمني) معول هدم خطير في جدار البيت الداخلي الفلسطيني، وأدت إلى اختلاف رؤى عميق وشرخ فصائلي حاد، استمر في التفاعل والتراكم إلى أن وصل إلى الاقتتال المباشر عام 2007.
*ضمنت عملية التسوية غطاءً سياسياً للاستيطان الذي استمر متسارعاً ومتضاعفاً، ففي حين كان هناك 100000 مستوطن في الضفة الغربية عام 1991، وصل العدد إلى 300000 في الضفة و200000 في القدس عام 2013.
*لحق الاتفاقَ توقيعُ اتفاقية باريس (الشق الاقتصادي من الاتفاق) والتي تضمنت شروطاً مجحفة جداً بحق الفلسطينيين، حظرت الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والعلاقات الاقتصادية مع الكثير من الدول، ووضعت الضرائب الفلسطينية كورقة ضغط في يد دولة الاحتلال، فكانت النتيجة اقتصاداً فلسطينياً تابعاًَ للاحتلال، ومواطناً لاهثاً وراء لقمة عيشه.
*في حين كان ينبغي أن تحرر الاتفاقية الفلسطينيين من النفوذ الصهيوني، مدت هذا النفوذ إلى الدول العربية، اعترافاً ولقاءاتٍ وتعاوناً اقتصادياً، في تجاوز واضح لخطوط الأمن القومي العربي، كما فتحت باب الاعتراف الدولي بدولة الكيان.
وبعد؟
تستمر كل هذه الانعكاسات الكارثية والأضرار الاستيراتيجية بالقضية الفلسطينية منذ 20 عاماً بلا توقف أو مراجعة أو نقد ذاتي، وفي استخفاف واضح برأي وإرادة الشعب الفلسطيني، بل في إصرار عجيب على خض الماء وسلوك نفس الطريق علها توصلنا إلى مكان مختلف، المرة تلو المرة.
لقد وصل الحال برئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس إلى إنكار حق العودة علناً وفي لقاء مع وسيلة إعلام صهيونية، والتبجح بتطبيع علاقات دولة الكيان (حال قيام الدولة الفلسطينية) مع 65 دولة عربية وإسلامية، والاعتراف بالتعاون الأمني ومحاربة المقاومة بلا مواربة أو خجل.
ولئن اتفق المشاركون في الندوة يومها من مختلف المشارب والآراء السياسية على ضرورة إسقاط أوسلو، وإتمام المصالحة الفلسطينية، وإصلاح المنظمة وصولاً إلى برنامج وطني فلسطيني يصوغ النضال ويحمي الثوابت وينسج العلاقة بين مختلف الفصائل، أراني محتاجاً وبشدة لأن أكرر ما قلته يومها: لم يكن اتفاق أوسلو سماً زعافاً اضطر البعض لتجرعه، بل كان وما زال كارثة استيراتيجية وجريمة سياسية ارتكبت بحق شعبنا وقضيتنا مع سبق الإصرار والترصد.