ما الذي يجعل أفرادًا عاديين وعقلانيين وأصحاء نفسيًا يتحيزون (ظاهريًا أو باطنيًا) ضد شخصٍ معين أو جماعة محددة، ليس لسبب سوى أن ذلك الشخص أو تلك الجماعة مختلفون؟ أو صدف أن لون جلده/ جلدهم أو سلالته مختلفة؟ ما الذي يفسر التعصب والعنصرية وعدم التسامح مع المختلفين والأقليات؟
وفق سوزان فسك وشيلي تايلر الباحثتين في علم النفس الاجتماعي، يمكن أن نفهم السلوك الاجتماعي أو السياسي للإنسان من خلال تحديد مصدر هذه السلوكيات والعوامل المحفزة لها، ويمكن ردها بالإجمال إلى:
– النزوعية: أي أن الفرد يسلك سلوكًا اجتماعيًا أو سياسيًا ما لنزعات داخلية أو خصائص شخصية.
الموقفية: أي أن الفرد يسلك سلوكًا اجتماعيًا أو سياسيًا معينًا، حسب ما يمليه عليه الموقف الذي يواجهه أو الظروف التي تحيط به.
إن العنصرية كغيرها من الظواهر السياسية والاجتماعية، قد تكون نتاج لاعتقادات يحملها الفرد، أو أفراد معينون وتركيبتهم الشخصية والذاتية أو نتاج للبيئة التي يوجد فيها الشخص ويتفاعل معها ويتأثر بها، والعوامل الموقفية التي تشجعه على ممارسة العنصرية والتعصب، فما النظريات المفسرة للعنصرية؟
النظريات المفسرة للعنصرية
أولًا: النظريات النزوعية
الشخصية التسلطية والجناح اليميني، طور بوب ألتيماير نظرية ثيودور أدورنو “الشخصية التسلطية” بعدما قضت في الستينيات من القرن الماضي، وسقطت أمام ما واجهته من نقد وعجز تفسيري خاصة مع بحوث ملغرام والمدرسة الموقفية، وصاغ ألتيماير نظرية منقحة اسمها “تسلطية الجناح اليميني” وتتحدد ملامح هذه الشخصية من خلال الاتجاهات الثلاث الآتية:
الخضوع للسلطة: ميل شديد لدى الفرد إلى الخضوع للسلطة.
العدوان التسلطي: العدائية تجاه الجماعات الخارجية أو المغايرَة.
التقليدية: الامتثال للمعايير الاجتماعية وعدم الاستعداد للتصدي للواقع القائم.
يرى ألتيماير أن الإنسان ذو الشخصية التسلطية وفق نموذجه، ينزع ذاتيًا لسلوك العنصرية والتعصب وفي هذا يقول:
“يحمل أصحاب هذه الشخصية الكثير من التعصبات، فهم معادون لكثير من الأقليات، ويظهرون تعصبًا على الجميع على قدم المساواة، وهم على استعداد دائمًا لمساعدة الحكومة في اضطهاد أي جماعة تخطر ببالك، بما في ذلك هم أنفسهم”.
ويرجع ألتيماير هذه النزعات التسلطية للطفولة، حيث إن التنشئة التربوية هي المصدر الأهم لها، وأنه ما لم يتم ضبطها أو تعديل اعتقاداتهم التسلطية مبكرًا فستلازمهم دون وعي منهم.
العنصرية كغيرها من الظواهر السياسية والاجتماعية، قد تكون نتاج لاعتقادات يحملها الفرد، أو أفراد معينون وتركيبتهم الشخصية والذاتية أو نتاج للبيئة التي يوجد فيها الشخص
نظرية السيطرة الاجتماعية
يرى جيم سيدانيوس أن المجتمعات البشرية قائمة على أساس تراتبي، بحيث يكون فيها جماعة واحدة مسيطرة على الأقل، وجماعات خاضعة أو تابعة لها، لكن ما يعنينا هنا أن نظرية السيطرة الاجتماعية تعتبر أن الأفراد لديهم رغبات أصيلة في رؤية الجماعة التي ينتمون إليها تحتل أرفع مكانة اجتماعية وسياسية مقارنة بباقي الجماعات، حيث يتوجه كل فرد لتكون جماعته المهيمنة على باقي الجماعات، وهذا ما يجعل، وفق سيدانيوس، كل فرد يتعصب لجماعته على حساب باقي الجماعات.
الأفراد المنتمين إلى الجماعات الأخرى المتدنية، قد يخضعون للتماهي والخضوع للجماعة المهيمنة، بل ويؤمنون بالنظريات والأساطير التي تشرعن للجماعة العليا الأخذ بالسيطرة الاجتماعية
ومن الجدير بالذكر أن الأفراد المنتمين إلى الجماعات الأخرى المتدنية، قد يخضعون للتماهي والخضوع للجماعة المهيمنة، بل ويؤمنون بالنظريات والأساطير التي تشرعن للجماعة العليا الأخذ بالسيطرة الاجتماعية، وعلى حساب أنفسهم وجماعاتهم، ويعتبر سيدانيوس أن تفضيل السود لحكم الرجل الأبيض في حقبة الفصل العنصري في الولايات المتحدة، أوضح مثال على ذلك.
نظرية التنميط Stereotyping
كثيرًا ما يعمد العقل البشري إلى تصنيف الظواهر والأحداث والأشخاص إلى أنماط مشتركة، وقوالب جاهزة، من أجل تبسيط الواقع، وإعفاء نفسه من عناء التفكير، وفي هذا يذكر غوردون ألبرت في كتابه “طبيعة التعصب” أن العقل الإنساني لا بد أن يستند إلى التصنيفات ليفكر، وما أن تتكون التصنيفات حتى تصبح الأساس المعتاد للأحكام المسبَقة.
ولذلك يعرف ألبرت التعصب بأنه: كراهية مبنية على تعميم خاطئ ومتصلب، قد يظل شعورًا أو قد يتم التعبير عنه، وقد يتجه لجماعة أو فرد من تلكَ الجماعة.[3]
ولكي نفهم نظرية التنميط بشكل أفضل، نضرب المثال التالي:
تخيل أنك سافرت لتعمل في مدينة جديدة، وقررت أن تأخذ سيارة أجرة لتقلك إلى مكان العَمَل، فعلتَ وركبتَ سيارة الأجرة، وكان السائق ينحدر من أصول هندية على سبيل المثال، كانت قيادته متهورة أو غير مريحة وكان صوت المذياع مرتفعًا ومزعجًا، ورائحة السيارة مقززة مثلًا.
إذا لم يكن لديك معرفة سابقة أو اختلاط جيد بأصدقاء من أصول هندية من قبل، ففي الغالب ستتوصل لاستنتاج مفاده أن جميع الهنود مزعجون ومتهورون في القيادة، والركوب معهم غير مريح أبدًا، بل إنك قد تجد نفسك تنعت الهنود بصفات عنصرية، أو قد تتولد لديك مشاعر كراهية تجاههم.
في المقابل، لو كنتَ مثلًا تعرف الهنود من قبل وعلاقتك بهم طيبة ومتينة، فأنتَ غالبًا ستقوم بإلحاق ما حصل معك إلى نمط سائقي الأجرة في هذه البلدة، بدلًا من إلحاق السلوك السيئ الذي واجهته إلى الهنود، فالأمر يعتمد على طبيعة تجاربك ومخزون الأنماط الموجود أساسًا في عقلك، والذي تفسر على أساسه الظواهر، ومن ثم فإن لوجود الصور النمطية علاقة في اتخاذ سلوكيات تعصبية في الغالب.
وفي تجربة أجرتها إليزابيث فيلبس، حيث عرضت على عدد من الطلبة البيض صورًا ووجوهًا لمشاهير من السود ويحظون بالتقدير بشكل عام، مثل مارتن لوثر كينغ ومحمد علي ودينزل واشنطن، ثم عرض عليهم أشخاص سود غير مألوفين، وكانت النتيجة الخاضعة لرقابة الاستجابة الدماغية والانفعالية، أن الأشخاص عند مشاهدتهم صور السود غير المألوفين ظهر نشاط في منطقة اللوزة يوحي باتجاه سلبي لا شعوري، بينما لم تظهر منطقة اللوزة الدماغية أي نشاط عند مشاهدتهم صور السود المشاهير.
الإنسان حينما لا يكون لديه أي معلومات عن الفرد المختلف عنه، فهو غالبًا يرجعه للصورة النمطية الشائعة عن جماعته
ودلالة النتائج أن الإنسان حينما لا يكون لديه أي معلومات عن الفرد المختلف عنه، فهو غالبًا يرجعه للصورة النمطية الشائعة عن جماعته (حيث السود يتم تصويرهم في الغالب بأنهم تجار مخدرات وأسلحة وسارقون ومجرمون، ولذا ظهرت استجابات سلبية لدى المبحوثين).
ومن المفارقات المهمة في التنميط، مسألة الانتقائية، أن الناس يستخدمون المعلومات الخاصة بالفرد المختلف عنهم، فإذا كانت إيجابية اعتبروها سلوكًا فرديًا وإذا كانت سلبية اعتبروها سلوكًا شائعًا لدى الجماعة بأكملها وكأن الجماعة معروفة بهذا السلوك السيئ.
أي أن ما يحدث عند الإنسان المتعصب من انتقائية عندما يقوم بتنميط الآخرين المختلفين والأقليات:
– تعميم السلوك السلبي الصادر عن فرد من الأقليات، على جماعته بأكملها وإن كان سلوكًا نادرًا ووحيدًا.
– عدم تعميم السلوك الإيجابي الصادر عن فرد من الأقليات على جماعته، وإنما اعتباره سلوك فردي لا يمكن تعميمه.
ثانيًا: النظريات الموقفية
نظرية الصراع الواقعي
ترى نظرية الصراع الواقعي بين الجماعات، أن الصراعات والتحيزات تنشأ حين يكون هناك سببًا وسياقًا تنافسيًا مع جماعة أخرى سواء أكان تنافسًا سلميًا أو عنفيًا، ويجري التفكير في هذه النظرية على أساس الجماعات الداخلية والجماعات الخارجية، أو التفكير بطريقة “نحن” و”هم”.
وفي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، قام مظفر شريف، عالم النفس الاجتماعي، بتجربة ميدانية في روبرز كيف بولاية أوكلاهوما الأمريكية، حيث أخذ 22 صبيًا إلى مخيم صيفي، لم يكونوا على معرفة ببعضهم من قَبل، ولدى وصولهم للمخيم قام بتوزيعهم بشكل عشوائي في مجموعتين.
العنصرية كمنظومة من الاعتقادات غالبًا لا تظهر على السطح، وإنما نزلت “تحت الأرض”، بمعنى، إذا لم يصرح الأفراد بالسلوك العنصري، فهذا لا يعني أنهم لا يضمرونها على الإطلاق
ثم فصلهم عن بعضهم لمدة أسبوع، حيث أقامت كل مجموعة في مكان بعيد نسبيًا عن الأخرى، وذلك للحد من فرَص التفاعل الاجتماعي بينها، ثم وضع بعد أسبوع الجماعتين في مواجهة إحداها الأخرى في سلسلة من الألعاب التنافسية، وسريعًا ما تولد العداء بينهما، حتى أصبح من المتعذر إجراء الألعاب غير التنافسية بين الجماعتين دون أن تتبادلا الشتائم أو ينشب عراك بينهما.
وعلى الرغم من أنه لم يتم تقسيم المجموعتين على أي أساس عرقي أو طبقي أو ديني أو أي أساس، فإن الأفراد سرعان ما تحيزوا لجماعاتهم وأظهروا العداء للجماعة المقابلة.
ويمكن فهم نظرية الصراع الواقعي على مستوى أبعد، عند محدودية الموارد وتشارك أكثر من جماعة البقعة الجغرافية نفسها، حيث يشعر بأن الآخر يشكل مصدر تنافس على الموارد، إذ يغدو الأمر مثل لعبة الأطفال السي سو، حيث إن ارتفاع أحدهم إلى الأعلى، يعني نزول الآخر إلى الأسفل.
نظرية الهوية الاجتماعية Social identity theory
يمكن تفسير التحيزات العنصرية التي يتخذها الفرد في مقابل الجماعات الأخرى، من خلال ما تطرحه نظرية الهوية الاجتماعية، حيث إن الأفراد لديهم حاجة دافعة للتماهي مع جماعات تشترك معها بالخصائص، لأن ذلك يقوي من تقديرهم لذواتهم، خصوصًا إذا ما كانت هذه الجماعة تتمتع بمكانة عالية بالمجتمع.
وتشمل هذه النظرية وفق جوشوا سيرل – وايت، مجموعة نقاط تعزز التماهي القومي، وهي:
– اعتقادنا بأن قضيتنا قضية عادلة تشبع حاجة إنسانية دفينة في داخلنا.
– عند شعورنا بأن جماعتنا ضحية لعدو ما، فإن ذلك يعزز شعورنا بأننا على صواب.
– تساعدنا الهوية القومية، في إيجاد المعنى لحياتنا.
ثالثًا: علم النفس التطوري
وفق علم النفس التطوري فالإنسان بالأصل كان قد نشأ في جماعات تشترك معه بالدم والجينات، وبالتالي كان يشعر بالمنافسة عند مقابلة أي أفراد أو جماعات تحمل ملامح مختلفة عنه، حسب رأي الدكتورة فيكتوريا آيسس من جامعة ويسترن أورانيو في لندن، بالإضافة لتفسيرات تطورية عديدة كتلك التي يضعها مارك سكلر، من أن هذه التحيزات كانت في الماضي لاعتقاد الأسلاف أن الجماعات الأخرى قد تحمل لنا الأمراض باختلاطنا بها وتواصلنا معها.
العنصرية الرمزية والعنصرية الحديثة
يؤكد دايفد سيرز أن العنصرية كمنظومة من الاعتقادات غالبًا لا تظهر على السطح، وإنما نزلت “تحت الأرض”، بمعنى، إذا لم يصرح الأفراد بالسلوك العنصري، فهذا لا يعني أنهم لا يضمرونها على الإطلاق، بل الغالب أن نمط العنصرية الحديث هو عنصرية كامنة يصعب رصدها وملاحظتها، ويتم تجميلها بقوالب تبريرية ومنطقية، ويلخص سنيدرمان ذلك بقوله:
“يعتبر التعصب العنصري الآن أمر غير مرغوب فيه، لذا فإن الناس يفضلون التعبير عنه بطرائق خفية غير مباشرة، فهم لن يقولوا إنهم يعارضون حصول السود على مساعدة الحكومة لمجرد أنهم سود، وإنما سيقولون أنهم يعارضون تلك المساعدة لأن السود لا يبذلون جهدًا كافيًا لحل مشاكلهم بأنفسهم”.
أثر النخبة والسلطة في بث خطاب الكراهية
إذا كانت مقولة في أو كاي V. O. Key: إن عامة الشعب ما هم إلا صدى للحَاكم، فإن درجة التسامح واللاتسامح متأثرة بشكل كبير بنوعية الرسائل التي تبثها السلطة الحاكمة والنخَب المهيمنة على الإعلام، وهو ما لاحظه جيمس غيبسون في أن النخَب والخطاب الإعلامي يسهم في تحديد موقفنا من الآخر بما يصوره لنا، وبما يشعرنا به من مدى درجة التهديد الذي يشكلها الآخر.