“إذا كان هناك فكرة للتهجير توجد صحراء النقب في “إسرائيل”، من الممكن نقل الفلسطينيين إليها حتى تنتهي “إسرائيل” من مهمتها المُعلنة في تصفية المقاومة أو الجماعات المسلحة في القطاع مثل الجهاد الإسلامي وحماس، ثم تعيدهم بعد ذلك إذا شاءت”.. فجر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتلك التصريحات حالة جديدة من الجدل داخل الشارع المصري والعربي على حد سواء، في وقت يعاني فيه الشعب الفلسطيني من غياب العدالة الدولية وخذلان الأنظمة العربية.
التصريحات التي قيلت خلال المؤتمر الصحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتز، أمس الأربعاء، في القاهرة، لبحث الأوضاع في غزة، أحدثت حالة من الصدمة للمتابعين للشأن العربي، لما حوته من تطابق كلي وجزئي مع المزاج الإسرائيلي الحالم بتصفية المقاومة وتجريد القضية الفلسطينية من أذرعها وتقديمها على طبق من ذهب لدولة الاحتلال.
ليست المرة الأولى التي يعبر فيها السيسي عن دعمه لدولة الاحتلال، إذ تعتبر العلاقات بينهما في السنوات الأخيرة واحدة من أكثر العلاقات حميمية في المنطقة، ويعتبره الإعلام الإسرائيلي الكنز الإستراتيجي لدولتهم المزعومة، لكن الحديث عن تصفية المقاومة بهذا الشكل المباشر والواضح، وتقديم روشتة لحكومة نتنياهو لتنفيذ مخططها في القطاع والتفكير بعقلية واحدة لوأد الفصائل الفلسطينية المسلحة، كان المستجد الصادم الذي أربك كل الحسابات.
ماذا قال السيسي؟
بدا السيسي منذ انطلاق المؤتمر الصحفي مع المستشار الألماني متحفزًا كعادته في الأوقات الحرجة التي يتعرض لها في الداخل بين الحين والآخر، ويواكبها تصريحات في الغالب تكون مثيرة للجدل، تلك التي تصدر بشكل عفوي، لكن في مثل تلك اللقاءات ومع شخصيات بحجم مستشار واحدة من أكبر بلدان أوروبا، وفي ظرف حساس كالذي تتعرض له القضية الفلسطينية، فإن أي كلمة تقال سيكون لها تبعاتها وما بعدها، وهنا لا حديث عن إساءة القصد أو استخدام السخرية كوسيلة خطاب ردًا على ما يردده البعض.
الرئيس المصري قال خلال اللقاء بعدما طلب من حكومة الاحتلال نقل الفلسطينيين إلى صحراء النقب “لكن نقلهم إلى مصر.. العملية العسكرية دي ممكن تستمر سنوات وهي عملية فضفاضة.. أقول لسه ما خلصناش (لم نقض عليه) الإرهاب، لسه ما انتهيناش (لم ننته بعد) من المهمة، وتتحمل مصر تبعات هذا الأمر، وتتحول سيناء إلى قاعدة للانطلاق بعمليات إرهابية ضد “إسرائيل”، وتتحمل مصر تبعات ذلك، ويبقى السلام اللي إحنا عملناه كله يتلاشى بين أيدينا في إطار فكرة لتصفية القضية الفلسطينية”.
الواضح من حديث السيسي أن كل ما يشغله ألا تكون سيناء موطن سكان غزة، باعتبار أن تلك مسألة أمن قومي وخط أحمر ممنوع الاقتراب منه، أما لو كان التهجير لمكان آخر فلا مشكلة في ذلك
وتابع “نقل المواطنين الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء هو عبارة عن نقل فكرة المقاومة والقتال من قطاع غزة إلى سيناء، وبالتالي تصبح سيناء قاعدة للانطلاق بعمليات ضد “إسرائيل” وفي هذه الحالة سيكون من حق “إسرائيل”الدفاع عن نفسها وأمنها القومي فتقوم بتوجيه ضربات للأراضي المصرية”.
مضيفًا: “القطاع تحت سيطرة “إسرائيل”.. عايز أقول إيه اللي خلَّى الموضوع وصل لكده. هل فيه دولة فلسطينية نجحنا إنها تخرج للنور رغم المبادرات، وإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ويبقى فيه قوات عربية أو أممية أو من الناتو تضمن الأمن والاستقرار”.
إقرار السردية الإسرائيلية
تضمنت تصريحات السيسي 4 محاور رئيسية تتطابق مع المزاج الإسرائيلي وتعتبر بشكل واضح إقرارًا بسردية وتفسير حكومة الاحتلال للمشهد الحاليّ، سواء داخل فلسطين بصفة عامة أم قطاع غزة على وجه التحديد:
الأول: قبول فكرة التهجير من حيث المبدأ، دون أي اعتبارات لحق الشعب الفلسطيني في البقاء في أرضهم وداخل منازلهم، الأمر فقط يتعلق بعدم التهجير إلى سيناء، لكن من الممكن أن يكون ذلك في أي مكان آخر، ولتكن صحراء النقب على حد قوله.
الثاني: إقرار الرواية الإسرائيلية بشأن تصفية المقاومة، وبدلًا من الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في الزود عن أرضه وعرضه وتاريخه، يقدم الرئيس المصري روشته الناجعة لأجل ذلك بأن يتم إخراج سكان غزة خارج القطاع، ثم تستفرد حكومة الاحتلال بالفصائل الفلسطينية التي سماها السيسي، حماس والجهاد وغيرها، ثم تقضي عليها وتصفيها بشكل كامل، وبعد ذلك يعود الفلسطينيون المهجرون إلى القطاع، وهذا أيضًا مرهون برغبة “إسرائيل” إذا شاءت”.
الثالث: اعتبار أن ما تقوم به دولة الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني حق مشروع للدفاع عن النفس والأمن القومي، الأمر هنا سيان داخل فلسطين وخارجها، وهو إقرار بالسردية الإسرائيلية دون تسمية ذلك انتهاك يجب مقاومته وتغول على حقوق الشعب الفلسطيني يتطلب التصدي له دبلوماسيًا وعسكريًا.
الرابع: التطابق مع الخطاب الإسرائيلي بوصف ما تقوم به المقاومة أنه “إرهاب” وليس دفاعًا عن الأرض والعرض، حين قال “وتتحول سيناء إلى قاعدة للانطلاق بعمليات إرهابية ضد “إسرائيل” في إشارة إلى فصائل المقاومة حين تستهدف الداخل الإسرائيلي من سيناء حال تم تهجير الفلسطينيين إلى هناك.
غطاء لجرائم الاحتلال وخذلان للقضية
التصريحات قوبلت بانتقادات حادة لما اعتبره البعض “خذلانًا وانبطاحًا” غير مبرر، عبر تبني الرواية الإسرائيلية في التعاطي مع ملف المقاومة والتهجير وتصفية القضية برمتها، حيث علق نائب الرئيس المصري السابق، محمد البرادعي، في حسابه عبر منصة إكس (تويتر سابقًا): “الحديث عن تهجير الفلسطينيين من أرضهم حتى تنتهي “إسرائيل” من تصفية “المقاومة”، يعتبر إقرارًا بالتفسير الإسرائيلي لحق الدفاع عن النفس المخالف لميثاق الأمم المتحدة”.
وأضاف أن الحديث عن تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه حتى تنتهي دولة الاحتلال من تصفية المقاومة بدلًا من “الحديث عن ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار والدخول في مفاوضات بشأن أصل الداء: الاحتلال والفصل العنصري، هو مخالفة صريحة للقانون الدولي الإنساني بتحريم التهجير القسري، وإقرار بالتفسير الإسرائيلي لحق الدفاع عن النفس المخالف لميثاق الأمم المتحدة”.
الحديث عن تهجير الفلسطينيين من أرضهم حتى تنتهي إسرائيل من تصفية "المقاومة " بدلًا من الحديث عن ضرورة الوقف الفوري لاطلاق النار والدخول في مفاوضات حول أصل الداء: الاحتلال والفصل العنصري ، هو بالاضافة مخالفة صريحة للقانون الدولي الانساني بتحريم التهجير القسري، و اقرار بالتفسير…
— Mohamed ElBaradei (@ElBaradei) October 18, 2023
الرأي ذاته ذهب إليه الناشط السياسي المصري رامي شعث، الذي رأى في حديث السيسي “موقفًا متخاذلًا” ويأتي “في سياق كامب ديفيد والاتفاقات الإبراهيمية والتطبيع مع الكيان الصهيوني”، معتبرًا في تصريحات صحفية له أن التلميح إلى نقل الفلسطينيين إلى النقب لحين ضرب المقاومة ينطوي على “القبول بجريمة حرب تاريخية، بدلًا من المواجهة والإصرار على وقف آلة الحرب الإسرائيلية، والتهديد بمواقف مصرية حدية”.
ويرى شعث أن ما طرحه السيسي “قبول وغطاء سياسي لجرائم الحرب والإبادة الجماعية الإسرائيلية، واعتراف للصهاينة بأن المقاومة إرهاب ومن المقبول تصفيتها والتخلص منها، والحقيقة أن المقاومة هي الشعب الفلسطيني، والتخلص منها أو تصفيتها، تصفية للقضية الفلسطينية ذاتها”.
ليس بجديد
يستند أنصار الرأي الذي يميل إلى أن السيسي ونظامه يقدمان خدمات لـ”إسرائيل”، عبر خنق المقاومة وتقليم أظافرها وتقزيمها عسكريًا وسياسيًا، لم يقدمها نظام عربي أو غربي في العالم، إلى عدد من المؤشرات التي فرضت نفسها خلال السنوات الماضية، وكشفت عن عمق العلاقة القوية بينه وبين نتنياهو بشكل شخصي.
فالسيسي هو صاحب التصريح الشهير بأنه لن يسمح بأن تكون سيناء منصة لاستهداف دولة الاحتلال مهما كان الثمن، وهو كذلك الذي أعرب عن دعمه الكامل لحماية أمن المواطن الإسرائيلي بصرف النظر عن الجرائم والانتهاكات التي تمارسها وترتكبها حكومة بلاده المحتلة بحق الشعب الفلسطيني.
في 2019 نشر موقع “والا” العبري، تقريرًا ترجمه موقع “الخليج أونلاين” كشف عما أسماه “حربًا سرية” مارسها الجيش الإسرائيلي ضد أهداف تابعة لكتائب القسام على مدار 4 سنوات في شبه جزيرة سيناء، بزعم محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ومساعدة الجيش المصري في ذلك.
التقرير أشار إلى أن دولة الاحتلال استغلت العلاقات الجيدة مع نظام السيسي الذي سمح لها بالوجود في سيناء لإحباط أي محاولات لإرسال أسلحة أو مساعدات لقطاع غزة، لافتًا أن الطيران الجوي الإسرائيلي الموجود في منطقة سيناء نجح في تدمير 15 ألف صاروخ متطور كانوا في طريقهم إلى مخازن “حماس” في القطاع لتقليص قدراتها العسكرية.
https://youtube.com/shorts/I-VS6MWWjNw?si=qx4RExEVwF8PB10p
بالتوازي مع ذلك ساهم النظام المصري في خنق المقاومة الفلسطينية من خلال ردم الأنفاق كافة التي كان يعتمد عليها الفلسطينيون في مواجهة المحتل، من خلال تفريغ منطقة الحدود من سكانها وهدم المنازل لاكتشاف الأنفاق المخبأة، بل وإغراقها بالماء حتى لا يمكن استخدامها مرة أخرى، وبناء سور خرساني حديدي لمنع أي تسللات محتملة.
كل ذلك بجانب الحصار المفروض على الفلسطينيين بحرًا وجوًا، أدى في النهاية إلى تقليص الإمكانيات العسكرية لفصائل المقاومة، ووضعها في مأزق حقيقي كاد أن يطيح بها، لولا نجاحها في إيجاد منافذ أخرى للحصول على السلاح، وهي الخدمات التي يثمنها الإسرائيليون لنظام السيسي، وعليه يدافعون عنه إعلاميًا وسياسيًا بشكل كبير حفاظًا على ما يقدمه لهم من مصالح إستراتيجية من الصعب أن يقدمها لهم غيره.
أوهام الأمن القومي المحلي
الواضح من حديث السيسي أن كل ما يشغله ألا تكون سيناء موطن سكان غزة، باعتبار أن تلك مسألة أمن قومي وخط أحمر ممنوع الاقتراب منه، أما لو كان التهجير لمكان آخر فلا مشكلة في ذلك وهو ما ألمح إليه البعض قراءة لتصريحات بايدن وبعض التسريبات الإعلامية التي تشير إلى أن خطة التهجير باتت في الأمتار الأخيرة بعدما تم الاتفاق على المبدأ.
يختزل السيسي أمن مصر القومي في عدم التفريط في شبر واحد من سيناء، متناسيًا أن مجرد بقاء دولة الاحتلال على الحدود معه قمة التهديد الذي يمكن أن يضع الأمن المصري على المحك، بل إن وجود المقاومة وصدها لمخطط التمدد الاستيطاني الإسرائيلي في غزة وتقويتها قدر الإمكان في حد ذاته امتداد للأمن القومي المصري، وعليه فإن العلوم العسكرية تقول إن دعم القاهرة للمقاومة واجب لتوسيع الهوة بين الحدود المصرية ومناطق السيطرة الإسرائيلية.
بات من الواضح، بعيدًا عن الشعارات الرنانة هنا وهناك، أنه ليس هناك من أمين على القضية الفلسطينية سوى أبنائها، وأنهم وحدهم دون غيرهم الأحرص على إبقاء جذوتها مشتعلة
التصريحات الصادمة للسيسي حاول أنصاره تبريدها قدر الإمكان من خلال الحديث عن أنها جاءت على سبيل السخرية، وأنها وسيلة لإحراج دولة الاحتلال سياسيًا وعسكريًا، بالتحذير من أن تهجير الفلسطينيين خارج القطاع سيفتح عليها جبهات مقاومة جديدة ربما لا تستطيع التصدي لها، ما يمكن أن يصدر القلق للداخل الإسرائيلي من مغبة ذلك.
رأي آخر في هذا الاتجاه التبريري عبر عنه المستشار بأكاديمية ناصر العسكرية التابعة للجيش المصري، اللواء حمدي بخيت بقوله: “حديث الرئيس السيسي رسالة واضحة وصارمة إلى الولايات المتحدة يفيد مضمونها بأن السلام مع “إسرائيل” على المحك، وعلى الدولة الداعمة للاحتلال تحمّل مسؤولية انهيار معاهدة السلام ودخول المنطقة في دوامة من عدم الاستقرار تصعب السيطرة عليها”.
ومن المفارقات المتناقضة أن السيسي الذي قال في تصريحاته “مصر ترفض تصفية القضية الفلسطينية بالأدوات العسكرية أو أي محاولات لتهجير الفلسطينيين”، يوفر لدولة الاحتلال على طبق من ذهب كل الخدمات التي تقود إلى هذا المسار، مقدمًا لهم روشتة سياسية وأمنية لتنفيذ هذا المخطط.
في ضوء ما سبق، بات من الواضح، بعيدًا عن الشعارات الرنانة هنا وهناك، أنه ليس هناك من أمين على القضية الفلسطينية سوى أبنائها، وأنهم وحدهم دون غيرهم الأحرص على إبقاء جذوتها مشتعلة عبر وقود المقاومة وعدم الانبطاح والتمسك بالأرض مهما كان الثمن، والتعويل على العرب ومساندتهم ما عاد يصدق فيه إلا قول الشاعر إبراهيم ناجي في قصيدته “الأطلال”: “كان صرحًا من خيال فهوى” .