طردت كولومبيا، قبل يومين، السفير الإسرائيلي من أراضيها، تنديدًا بالجرائم الإسرائيلية المتواصلة في حق الفلسطينيين بقطاع غزة منذ أكثر من أسبوع، رغم حاجة البلد للسلاح الإسرائيلي الذي تستخدمه قواتها المسلحة، المنخرطة منذ عقود في صراع مع جماعات مسلحة يسارية وقوات شبه عسكرية يمينية وعصابات مخدرات.
بالتزامن مع ذلك، استقال جوش بول، مدير الشؤون العامة والكونغرس في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية الأمريكية، بسبب تعامل إدارة الرئيس جو بايدن مع الصراع في “إسرائيل” وغزة، معلنًا أنه لا يستطيع دعم المزيد من المساعدات العسكرية الأمريكية لـ”إسرائيل”، ووصف رد الإدارة بأنه “رد فعل متهور قائم على الإفلاس الفكري”.
جاءت هذه القرارات من دولة واقعة في أمريكا اللاتينية ومن الولايات المتحدة نفسها، بينما في المقابل يواصل القادة العرب إصدار بيانات التنديد والشجب، وفي أحسن الأحوال يسمحون للشعوب بالخروج في مظاهرات للتنديد بما يحصل في غزة وكامل فلسطين المحتلة، وبعض القادة لم يسمحوا بالتظاهر أصلًا.
امتهان القادة العرب إصدار بيانات التنديد والاستنكار، دفع كيان الاحتلال الإسرائيلي لمواصلة جرائمه والتنويع فيها، وهو مطمئن كل الاطمئنان أنه لا رادع له، رغم أن للعرب نقاط قوة عديدة لهم أن يستعملوها إذا أرادوا ذلك، ولها أن تغير موازين القوى.
تواصل الجرائم الإسرائيلية
لا تكاد تمر جريمة حتى نسمع بأخرى أبشع منها، لكن يبقى قصف مستشفى المعمداني الجريمة الإسرائيلية الأبشع إلى اليوم، فقد سقط في المجزرة أكثر من 500 شهيد، بينهم أطفال ونساء وطواقم طبية، ونازحون لجأوا إليه بعد أن دُمرت منازلهم وبحثوا عن مكان آمن.
يقع المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، أسسته جمعية الكنيسة الإرسالية التابعة لكنيسة إنجلترا في 1882، ويعد من أقدم المستشفيات في فلسطين، ومن أكثرها إيواءً للمرضى، لكن آلة الحرب الإسرائيلية وصلته.
من المؤكد أن المعمداني لن يكون المستشفى الأخير الذي يقصفه الكيان الإسرائيلي، فمنذ بداية حربه ضد قطاع غزة هدد جيش الاحتلال باستهداف وقصف المستشفيات التي لجأ إليها المدنيون، ظنًا منهم أنها أماكن آمنة وفق ما تمليه كل الأعراف والأخلاقيات والقوانين الدولية.
تداولت منصات التواصل الاجتماعي والمؤسسات الإعلامية في اليومين الأخيرين صورًا صادمةً قادمةً من مستشفى المعمداني، لكن يوجد غيرها الكثير، التي اعتبرت أغلبها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
أمام هذا الدعم الغربي الكبير، وتواصل الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، لم يجد قادة العرب إلا إصدار بيانات تنديد واستنكار
يحدد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والمنبثق من اتفاقيات جنيف لعام 1949 “جرائم الحرب” بأنها انتهاكات خطيرة للقوانين الإنسانية في أثناء النزاعات والحروب ضد المدنيين بشكل عام، أي أن الاستهداف المتعمد للمدنيين والمناطق المدنية دون وجود سبب عسكري ضروري لهذا الاستهداف يعد جريمة حرب، وهو ما ينطبق على ما يفعله الكيان الإسرائيلي في قطاع غزة.
بدورها، تقول المقررة الأممية لحقوق الإنسان فرانشيسكا ألبانيز، إن سكان غزة يتعرضون للإبادة، محذرة من تطهير عرقي للفلسطينيين، فيما اعتبر المقرر الأممي الخاص بـ”الحق في المياه” بيدرو أرواخو أغودو، تقييد فرص الناس في الحصول على المواد الحياتية “جريمة حرب”.
لكن كالعادة، كيان الاحتلال الإسرائيلي لا يعترف بالأخلاقيات ولا القوانين الدولية، إذ يتعمد قصف المدنيين والمدارس ودور العبادة والأطقم الطبية وسيارات الإسعاف ويحرم الأهالي من المساعدات ويتعمد تجويعهم، بغية تهجير سكان شمال غزة.
متظاهرون في محيط وداخل مقر الكونغرس الأمريكي، يرفعون الأعلام الفلسطينية ويهتفون بعبارات تضامنية مع الفلسطينيين، مطالبين بهدنة إنسانية في قطاع غزة.#مجزرة_المستشفى #مجزرة_المعمداني pic.twitter.com/FR3oTced8V
— نون بوست (@NoonPost) October 18, 2023
جرائم كثيرة تمت بمباركة غربية واسعة، حيث حصلت تل أبيب على دعم مالي وعسكري وسياسي مطلق من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وتناقش عواصم غربية أخرى تقديم دعم إضافي لكيان الاحتلال في الحرب ضد الفلسطينيين.
وكانت الولايات المتحدة قد سارعت بإرسال ذخيرة متطورة طلبها الإسرائيليون لتزويد طائراتهم المقاتلة التي تقصف قطاع غزة، كما أرسلت واشنطن حاملة الطائرات “جيرالد فورد” إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، تصحبها طائرات مقاتلة وطرادات ومدمرات، وقررت أيضًا إرسال حاملة الطائرات “دوايت أيزنهاور” والسفن المرافقة لها إلى المنطقة.
فيما أعلنت بريطانيا نشر تجهيزات عسكرية للمراقبة البحرية والجوية وسفينتين في شرق البحر المتوسط دعمًا للكيان الإسرائيلي، بدورها وضعت ألمانيا تحت تصرف الكيان الصهيوني طائرتين مسيّرتين حربيتين من طراز “هيرون تي بي” تحمل كل منهما طنًا من الذخائر، أما باريس فاكتفت بتقديم معلومات استخبارية، إلى جانب الدعم الدبلوماسي الفاضح.
اكتفاء العرب بالمظاهرات والتنديد
أمام هذا الدعم الغربي الكبير، وتواصل الجرائم الإسرائيلية في حق الفلسطينيين، لم يجد قادة العرب إلا إصدار بيانات تنديد واستنكار، خوفًا على كراسي حكمهم، فعند القادة العرب الكرسي أهم من دماء آلاف الأبرياء الفلسطينيين.
بعض القادة، ونحكي هنا عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اقترح علنًا دون خجل وعلى مسمع المستشار الألماني أولاف شولتز، تهجير الفلسطينيين إلى صحراء النقب إلى حين القضاء على المقاومة وبعدها يتم إرجاع الفلسطينيين إلى غزة.
فيهم من ساوى بين القاتل والضحية، وحمّل المقاومة الفلسطينية مسؤولية ما يجري في قطاع غزة حاليًّا، ذلك أن حركة حماس تصنف عند بعض القادة العرب كحركة إرهابية، لا ينبغي التعامل معها بل وجب محاسبتها وفق قوانينهم.
على القادة العرب أن يفعلوا دبلوماسيتهم للتعريف بعدالة القضية الفلسطينية وحشد الدعم في المحافل الدولية
أفضل القادة من سمح بخروج المظاهرات في الشوارع، وأغلبها كان في منطقة المغرب العربي، فضلًا عن العراق والأردن، وبدرجة أقل في دول الخليج، حتى يتم تخفيف الضغط على الأنظمة الرسمية المطبعة مع الكيان الصهيوني.
طيلة فترة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة التي يبدو أنها ستتواصل لمدة أطول، امتهن القادة العرب إصدار البيانات فقط، من باب إثبات الوجود فقط لا أكثر، فيما نزلت الشعوب إلى الشوارع حاملة الأعلام الفلسطينية ومنددة بالجرائم الإسرائيلية.
نقاط قوة معطلة
هذه المظاهرات الشعبية التي جابت مختلف عواصم ومدن العالم العربي بدرجة متفاوتة طيلة الأيام الماضية مهمة، فهي تساهم في تشكيل الرأي العام العربي وتثبت أن المواطن العربي ما زال متشبثًا بقضيته المركزية رغم محاولات الأنظمة والكيان الصهيوني تحييده وإبعاده عنها.
تمنح هذه المظاهرات دعمًا رمزيًا للفلسطينيين وتؤكد وقوف الشعوب العربية إلى جانب المقاومة، كما أنها تضغط على الأنظمة الرسمية لتعديل مواقفها وتجبر بعضها على اتخاذ مواقف متقدمة مما يحصل في قطاع غزة والضفة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
صحيح أن هذه المظاهرات والهبة الشعبية مهمة، لكن الشعوب لها أن تقوم بما هو أهم، وهو مقاطعة المنتجات الإسرائيلية المنتشرة في الأسواق العربية، ومقاطعة منتجات كل الدول الحليفة للكيان الإسرائيلي التي أعلنت صراحة تقديم الدعم العسكري والمالي للإسرائيليين في حربهم ضد الفلسطينيين.
على العرب ألا يكتفوا بالخروج للساحات والشوارع والصراخ، وإنما عليهم الضغط أكثر على القادة لتفعيل نقاط القوة التي تمتلكها الدول العربية وهي كثيرة، وأهمها سلاح النفط والغاز، فوقف تصدير هذه المنتجات سيكون له وقع كبير ويجبر الغرب على التفكير مرة أخرى فيما يحصل في قطاع غزة.
“بدنا نسوان الحكام العرب يجوا يشوفوا الأطفال”.. مسعفة فلسطينية في مستشفى شهداء الأقصى، تنهار غاضبةً من فظاعة الجرائم التي رأتها على أجساد الأطفال الصغار جراء القصف الإسرائيلي العشوائي والمستمر على قطاع غزة منذ 12 يومًا.
#غزة_تحت_القصف
#مجزرة_مستشفى_المعمداني… pic.twitter.com/2GNqGEqTNO
— نون بوست (@NoonPost) October 18, 2023
فضلًا عن سلاح النفط والغاز، يمكن لمصر مثلًا أن تستغل سلاح قناة السويس، وقد رأينا قبل سنوات كيف أثر جنوح سفينة في القناة على التجارة العالمية، وهذا سلاح مهم وشرعي يمكن استعماله للضغط على الدول الغربية المساندة للكيان الإسرائيلي.
لن نقول على العرب تجهيز الجيوش وإرسالها إلى فلسطين لتحريرها، بل أقل الإيمان يمكن طرد سفراء الكيان وتعليق اتفاقيات السلم والتطبيع المبرمة معه، للضغط عليه لوقف جرائمه في حق الفلسطينيين الأبرياء.
على القادة العرب أن يفعلوا دبلوماسيتهم للتعريف بعدالة القضية الفلسطينية وحشد الدعم في المحافل الدولية، حتى يحصل إجماع على نقد ممارسات الكيان الإسرائيلي، ما يمكن أن يجبره على وقف عدوانه المتواصل منذ أيام.
ضعف الدبلوماسية العربية، جعل بعض الدول التي كانت إلى وقت قريب مساندة للقضية الفلسطينية تتراجع عن مواقفها لصالح الكيان الإسرائيلي، ذلك أن الإسرائيليين نجحوا في التغلغل في العديد من الكيانات والتجمعات الإقليمية والدولية.