ترجمة وتحرير نون بوست
المقال الأصلي كتابة جيمس وو بالتعاون مع راجيش راو
تماما كما كان الإغريق في القديم يحلمون بالطيران عن طريق التسارع، تبدو طموحات اليوم المتعلقة بدمج العقل البشري مع الآلة لحل مشكلة هشاشة الإنسان، ضربا من الخيال. فهل حقا يمكن للعقل البشري أن يتصل مباشرة بذكاء اصطناعي، مثل الروبوت أو أي وسيلة أخرى، عن طريق برمجية تجمع بين العقل والكمبيوتر، لخلق تكنولوجيا تتجاوز قدرات العقل البشري؟
خلال الخمسين سنة الماضية، بذل الباحثون في المختبرات الجامعية والشركات جهودا كبيرة لتحقيق خطوات ملموسة لتحقيق هذه الطموحات. مؤخرا، أعلن بعض المستثمرين الناجحين مثل إيلون ماسك وبراين جونسون عن تأسيس شركة ناشئة جديدة هدفها تطوير القدرات البشرية عن طريق دمج العقل البشري والكمبيوتر. ولكن إلى أي حد بتنا قريبين من ربط عقولنا مع التكنولوجيا؟ وماذا ستكون تبعات هذا الإنجاز عندما يتم ربط العقل بالآلة؟
كيف تعمل تقنية وصل الدماغ بالحاسوب؟ وما الذي يمكنها تحقيقه؟
إعادة التأهيل والعودة للوراء
يعتبر إيب فيتس، الباحث في مركز الهندسة العصبية في الولايات المتحدة، واحدا من رواد هذا المجال، حيث كان سباقا في ربط الآلة بالدماغ . ففي سنة 1969، قبل أن تظهر الحواسيب الشخصية، أثبت هذا الباحث أن القردة بإمكانها تضخيم الإشارات الصادرة عن أدمغتها لتحرك إبرة موصولة بجهاز قياس الترددات.
وفي الإطار ذاته، أجريت الكثير من البحوث، مؤخرا، في هذا المجال قصد تحسين ظروف حياة الأشخاص الذين تعرضوا للشلل أو يعانون من إعاقات حركية كبيرة. ومما لا شك فيه أن الكثيرين قد ترامت إلى مسامعهم آخر الإنجازات التي تم تحقيقها وعرضت في وسائل الإعلام، حيث تمكن الباحثون في جامعة بيتسبرغ من استخدام إشارات تم تسجيلها داخل الدماغ من أجل التحكم في ذراع آلية.
فضلا عن ذلك، تمكن الباحثون في جامعة ستانفورد من رصد النوايا الحركية لدى أشخاص مصابين بالشلل عبر التقاط الإشارات الصادرة عن أدمغتهم، وهو ما سمح لهم باستخدام حاسوب لوحي موجود أمامهم دون أن تربطهم به أية أسلاك. ومن خلال اعتماد الطريقة ذاتها، يمكن إرسال بعض الإشارات الحسية في اتجاه عكسي نحو الدماغ، عبر توليد تيار كهربائي داخل الرأس أو في قشرة الجمجمة. ولكن ماذا عن أهم الحواس التي يعتمد عليها الإنسان أي النظر والسمع؟
في الحقيقة، تعد أكثر هذه الابتكارات التي تربط بين العقل والآلة تطورا، هي تلك التي تعمل في كلا الاتجاهين، بمعنى أنها تستطيع تسجيل الإشارات الصادرة عن الدماغ، وبث إشارات من الجهاز العصبي وإرسال إشارات نحوه
في واقع الأمر، تم تسويق بعض النماذج الأولية، مع العلم أنها تحتاج إلى تطوير، تتمثل في أعين اصطناعية مصممة خصيصا للأشخاص الذين يعانون من إعاقة بصرية. وفي الوقت الحالي، يعمل القائمون على هذا المشروع على تطوير هذه النماذج بشكل متواصل من خلال إجراء العديد من التجارب على العديد من الأشخاص.
علاوة على ذلك، تعتبر السماعات التي تزرع في الأذن، واحدة من أنجح التجارب وأبرز نموذج على إمكانية زرع الآلة داخل جسم الإنسان. والجدير بالذكر أن أكثر من 300 ألف مستخدم حول العالم يعتمدون على هذه التقنية حتى يتمكنوا من الاستمتاع بالأصوات من حولهم.
وصلة ثنائية الاتجاه بين الدماغ والحاسوب يمكنها في نفس الوقت تسجيل إشارات قادمة من المخ وإرسال إشارات إليه عبر التحفيز
في الحقيقة، تعد أكثر هذه الابتكارات التي تربط بين العقل والآلة تطورا، هي تلك التي تعمل في كلا الاتجاهين، بمعنى أنها تستطيع تسجيل الإشارات الصادرة عن الدماغ، وبث إشارات من الجهاز العصبي وإرسال إشارات نحوه. وفي الوقت الراهن، يحاول مركز الهندسة العصبية والتقاط الإشارات في الولايات المتحدة، اكتشاف آليات الاتصال بين الدماغ والآلة، وذلك بهدف إعادة تأهيل المصابين بالجلطات وحوادث العمود الفقري. ومن المتوقع أن يحدث ذلك ثورة تقنية منقطعة النظير في عالم.
وفي الأثناء، ثبت أن هذه الوصلة بين الدماغ والحاسوب يمكن استخدامها لتقوية التواصل بين منطقتين في الدماغ، أو بين الدماغ والنخاع الشوكي، أو لإحداث مسار جديد للمعلومات حول المنطقة المتعرضة للضرر، من أجل إعادة الحياة للعضو المصاب بالشلل. وفي ظل كل النجاحات التي تحققت إلى حد الآن، قد يعتقد الإنسان أن دمج العقل البشري والحاسوب بات وشيكا جدا، وقد يتم تسويقها قريبا للمستهلكين.
تعتمد هذه التقنيات بشكل أساسي على تسجيل الإشارات الكهربائية من سطح جمجمة الإنسان
ليس بعد
في الحقيقة، ومن خلال إلقاء نظرة متفحصة على بعض النماذج التي تم عرضها والتي تقوم على إحداث وصلة بين العقل البشري بالحاسوب، يمكن الجزم بأنه لا يزال أمامنا طريق طويل لنقطعه. ففي واقع الأمر، تنتج هذه الوصلة بين الدماغ والكمبيوتر حركات أكثر بطء وأقل دقة وتعقيدا من تلك التي يحدثها الإنسان في ظروف طبيعية، وفي حياته اليومية من خلال استخدام أطرافه. علاوة على ذلك، توفر العين الاصطناعية للمستخدم درجة وضوح أقل بكثير من العين الطبيعية، في حين أن السماعات الاصطناعية لا تؤمن معلومات إلكترونية كافية لتحفيز حاسة النطق، كما تقوم بتشويه تجربة الاستماع للموسيقى.
من جهة أخرى، وحتى تعمل كل هذه التقنيات، ينبغي زرع أقطاب كهربائية في الدماغ عن طريق التدخل الجراحي، وهي عملية يخشى أغلب الأشخاص من الخضوع لها. في المقابل، لا تتطلب كل التقنيات التي تربط العقل بالآلة اقتحام رأس الإنسان، إذ أن هناك نماذج للاستعمال الخارجي لا تستوجب تدخلا جراحيا.
شريحة إلكترونية تستخدم لمراقبة الإشارات الكهربائية في قشرة الدماغ، ويتم تجربيها الآن في مركز الهندسة العصبية بالولايات المتحدة
وتعتمد هذه التقنيات بشكل أساسي على تسجيل الإشارات الكهربائية من سطح جمجمة الإنسان. وتجدر الإشارة إلى أنه قد تم تطبيق هذه التقنيات فعلا للتحكم في فأرة الحاسوب، والكرسي المتحرك، والذراع الآلي، فضلا عن الطائرة الطنانة، والروبوت الإنسان الٱلي، وحتى في التواصل بين دماغين.
أول عرض لتقنية ربط الدماغ بالحاسوب دون تدخل جراحي لزرع المجسات في داخل المخ، هذا الروبوت المسمى “مورفيس” تم تصنيعه في مختبرات الأنظمة العصبية في جامعة واشنطن في سنة 2006. تقنية وصل الدماغ بالحاسوب هي التي تحدد الأدوات التي يحملها الروبوت بيده وأين يضعها بالضبط بحسب أوامر المخ
في المقابل، تم إجراء كل هذه التجارب في مختبرات علمية، حيث تكون الغرف هادئة جدا ولا يتعرض المشاركون للتجربة لأي تشويش، ويتم اتباع المراحل والإرشادات بكل دقة. كما تمتد التجربة لوقت محدود بهدف إثبات مدى نجاحها فقط. خلافا لذلك، ثبت بالدليل القاطع أن هذه الابتكارات من الصعب الاعتماد عليها بشكل سريع ومستدام في الحياة الواقعية الحافلة بالتحديات والمفاجئات.
وحتى بالاعتماد على تقنية زرع الأقطاب الكهربائية في الدماغ، فإن هناك مشكل آخر سيظهر مع محاولة قراءة العقل، مرتبط بآلية عمل الدماغ نفسها. نحن نعلم أن كل خلية عصبية مرتبطة بالآلاف من الخلايا المجاورة لها مكونة بذلك شبكة ضخمة ومعقدة ودائمة التغير، فما الذي قد يعنيه ذلك لمهندسي الأعصاب؟
هناك معضلة أخرى تتمحور حول الضرر الذي قد يصيبنا، إذ أن النسيج الدماغي لين ومرن، في حين أن أغلب الأدوات الناقلة للإشارات الكهربائية، أي الأسلاك التي تربط النسيج الدماغي، تعد صلبة وغير مناسبة
يشعر الباحثون بالحماس حيال النجاحات التي تم تحقيقها مؤخرا في مجال العلاج الدقيق لجملة من الأمراض المستعصية مثل السكري
تخيل أنك تحاول فهم محادثة بين مجموعة كبيرة من الأصدقاء حول موضوع معقد، ولكنك مجبر على الاستماع لأكثر من شخص واحد. في الحقيقة، قد تتمكن في الغالب من أن تستوعب موضوع الحديث ومسار النقاش عند تركيزك مع شخص واحد، ولكنك بكل تأكيد لن تتمكن من الاستماع للتفاصيل وفهم مختلف المواقف التي تم التعبير عنها. ومن هذا المنطلق، يمكن الجزم بأن حتى أفضل السماعات الاصطناعية لا يمكنها إيصال الرسائل إلى الدماغ إلا بكميات محدودة وبطريقة بسيطة. وبالتالي، وبالاعتماد على هذه التكنولوجيا يمكننا الاستماع لمحادثة ولكن لا يمكننا فهم نقاش طويل ومعقد.
علاوة على ذلك، هناك مشكل آخر يتمثل في حاجز اللغة، إذ أن الخلايا العصبية تتواصل مع بعضها من خلال تفاعلات معقدة من الإشارات الكهربائية والتفاعلات الكيميائية. وفي الأثناء، يمكن ترجمة هذه اللغة الكهربائية والكيميائية الخاصة بالدماغ بالاعتماد على دوائر كهربائية، ولكن ذلك ليس بالأمر الهين. ووفقا للمنطق ذاته، عندما نخاطب عقلنا باستخدام التحفيز الكهربائي، فإن ذلك يتم بلغة خاصة بنا. وبالتالي، يصبح من الصعب على الخلايا العصبية فهم ما تريد المحفزات إيصاله من رسائل في ظل النشاط العصبي المحيط بها.
وأخيرا وليس آخرا، هناك معضلة أخرى تتمحور حول الضرر الذي قد يصيبنا، إذ أن النسيج الدماغي لين ومرن، في حين أن أغلب الأدوات الناقلة للإشارات الكهربائية، أي الأسلاك التي تربط النسيج الدماغي، تعد صلبة وغير مناسبة. وعلى هذا الأساس، قد تؤدي الأجهزة التي يتم زرعها في الدماغ إلى أضرار في الدماغ أو إحداث رد فعل قوي من جهاز المناعة، مما قد يجعل هذه الآلة تفقد فاعليتها مع مرور الوقت. خلافا لذلك، من الممكن ابتكار أسلاك مصنوعة من ألياف يمكنها التأقلم مع الخلايا البشرية، مما قد يحل هذه المشكلة.
التكيف والتعايش
على الرغم من كل هذه التحديات، إلا أننا متفائلون بشأن مستقبل دمج الآلة والإنسان، علما وأن هذه الابتكارات التي من شأنها أن تحقق مبتغانا في هذا المجال ليس بالضرورة أن تكون كاملة. في حقيقة الأمر، يمتلك الدماغ قدرات مذهلة على التأقلم مع الأوضاع الجديدة وتعلم كيفية توظيف هذه الآلة تماما كما نتعلم مهارات جديدة في الحياة، على غرار قيادة السيارة واستخدام الحاسوب اللوحي. وبنفس الطريقة، يمكن للدماغ ترجمة أنواع جديدة من الإشارات حتى لو قدمت له من الخارج، باستخدام أقطاب مغناطيسية على سبيل المثال.
تعمل الترجمة واستعمال مجسات اصطناعية لتزرع في قشرة الدماغ لنقل معلومات
ووفقا لهذه المعطيات، نعتقد أن تقنية الاتصال ثنائي الاتجاه بين الدماغ والحاسوب، التي تمكن الأجهزة الإلكترونية من مخاطبة الدماغ البشري وفهم الإشارات الصادرة عنه باستمرار خلال مسار التعلم، ربما تكون خطوة ضرورية لتقليص الهوة بين الدماغ والحاسوب. والجدير بالذكر أن تحقيق هذا التأقلم يعد الهدف المقبل لمراكز البحث.
على العموم، يشعر الباحثون بالحماس حيال النجاحات التي تم تحقيقها مؤخرا في مجال العلاج الدقيق لجملة من الأمراض المستعصية مثل السكري. وتتم هذه العملية، في الغالب، من خلال استعمال أجهزة كهربائية يتم زرعها في جسد الإنسان وهي كفيلة بعلاج المرض دون أدوية، من خلال إصدار الأوامر للأعضاء الداخلية للمريض.
في المستقبل القريب، سوف تُطور آليات اتصال الدماغ بالحاسوب، ليمتد دورها من مجرد إعادة القدرة على استخدام وظائف الجسم عند المصابين بإعاقات، إلى تطوير قدرات الإنسان لتتجاوز القدرات البشرية الطبيعية
من ناحية أخرى، اكتشف العلماء طرقا جديدة لتجاوز عقبة الفرق بين اللغة الكهربائية واللغة البيوكيميائية الموجودة داخل عقل الإنسان. فعلى سبيل المثال، تبدو فكرة حقن الإنسان بسوائل عصبية، مشروعا واعدا، إذ قد يسمح ذلك للخلايا العصبية بالنمو إلى جانب الأقطاب الكهربائية عوضا عن رفضها.
من المساعدة إلى التطوير
أعلنت الشركة الناشئة التي أسسها إيلون ماسك، والتي تحمل اسم نيورالينك، أن هدفها النهائي هو تطوير الأداء البشري بتوظيف الاتصال بين العقل البشري والآلة. وذلك بهدف إعطاء أدمغتنا الأسبقية في السباق الدائر حاليا بين الإنسان والذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، يأمل ماسك أنه، وفي ظل إمكانية توصيله بالتكنولوجيات الجديدة، يمكن للعقل البشري تطوير أدائه وقدراته. وبالتالي، يمكننا تجنب مستقبل حالك السواد تكون فيه الغلبة للذكاء الاصطناعي، الذي قد يتفوق بشكل كبير على قدرات الإنسان الطبيعية.
في الواقع، قد تبدو هذه الرؤية موغلة في التشاؤم، ولكن لا يجب علينا استبعاد هذه الفرضية. وعلى كل حال فإن سيارات القيادة الذاتية كانت تعتبر ضربا من الخيال العلمي قبل عشر سنوات فقط، إلا أنها الآن تسير بجانبنا في الطريق.
في المستقبل القريب، سوف تُطور آليات اتصال الدماغ بالحاسوب، ليمتد دورها من مجرد إعادة القدرة على استخدام وظائف الجسم عند المصابين بإعاقات، إلى تطوير قدرات الإنسان لتتجاوز القدرات البشرية الطبيعية. لذلك، يجب أن نكون على وعي تام ببعض المشاكل التي قد ترافق هذه التقنية، والمتعلقة باحترام خصوصية الأفراد وهويتهم وإمكانية غياب العدالة والمساواة بين الأفراد.
تماما مثل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية وتقنية الواقع الافتراضي التي تستخدم في الوقت الراهن، فإن الوصلات بين الدماغ والحاسوب، ستكون منتجا مخيفا ومحفوفا بالمخاطر
وتجدر الإشارة إلى أن فرق العمل على تطوير هذه التقنية تتضمن فلاسفة وأطباء إلى جانب مهندسين، يعملون بشكل جماعي لدراسة الجوانب الأخلاقية والروحانية ومسألة العدالة الاجتماعية. وذلك بهدف خلق مجموعة من القواعد والأخلاقيات التي تنظم هذا المجال قبل أن يتطور لدرجة يصعب بعدها التحكم فيه.
عموما، ربط أدمغتنا بشكل مباشر بالتكنولوجيا قد يكون في النهاية تطورا طبيعيا يحققه الإنسان في ظل التكنولوجيات التي تم التوصل إليها إلى حد الآن، تماما كما تم في السابق التوصل إلى استخدام الكرسي المتحرك لتجاوز مشكلة الإعاقة الجسدية، واستخدام النقش على الطين والكتابة على الورق لمساعدة الذاكرة.
وتماما مثل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية وتقنية الواقع الافتراضي التي تستخدم في الوقت الراهن، فإن الوصلات بين الدماغ والحاسوب، ستكون منتجا مخيفا ومحفوفا بالمخاطر، بمجرد نشرها في الأسواق وحيازة المستهلكين لها، إلا أنها، وفي الوقت نفسه، ستكون تقنية واعدة ومبهجة.
المصدر: ذي كونفرسيشن