منذ كنت صغيرًا، كان الحوار الدائم على مائدة الطعام كل يوم يدور حول سرعتي في تناول الطعام وكيف أنني يجب أن آكل بشكل أسرع من ذلك، كان أبي يأكل وينهض، ثم أمي، ثم أبقى وحدي ولم أنته بعد من طعامي، يحضر أبي الشاي ويشربه وتتبعه أمي، وما زالت معدتي نصف فارغة.
ثم يبدأ الحوار المعتاد ككل يوم بأمر من والدي بالانتهاء من طعامي، فاعتزم النهوض لكنه سرعان ما يخبرني أنه يعلم أنني لم أشبع وأنني لم أنته حتى من نصف الطبق لكنه يعلم كذلك كيف أنني “لا أركز” عندما آكل فلا آكل جيدًا رغم الوقت الطويل الذي يمر.
وكانت الأزمة الحقيقة تظهر مع وجود أي زائر أو مع كوننا نحن ضيوفًا عند أحدٍ، فيبدأ الجمع بالنهوض وأنا لم أكمل أي شيء، حتى قطعة الدجاج التي أعشقها لم تكتمل، أنا فعلًا أحاول لكنني لم ولن أتمكن من الانتهاء منها مع انتهائهم، فأنهض وأترك طعامي مع بعض النظرات الحزينة، على كوب العصير المسكوب الذي لم أكمله، فأنا أعلم جيدًا، لن يتحمل الطفل أحد مثل والديه!
…
لي صديق مصري من أفضل من عرفتهم في غربتي، سمعنا يومًا خبر وفاة أخيه في مصر، كان خبرًا صادمًا أخبرني به شريف صديقنا المشترك – والذي مات هو الآخر بعدها بأشهر معدودة – وقال لي إنه يحاول إثناء معاذ عن السفر إلى مصر، فلو سافر فإن فرص عودته مرة أخرى صعبة بسبب ظروف أمنية لم تكن تخفى على أحد.
ذهبنا إلى العزاء ورأيت صديقي معاذ وهو يحاول استيعاب الأمر، فقدْ أحد أفراد الأسرة أمر قاسٍ فعلًا، والأقسى عدم التمكن من صنع أي شيء حيال ذلك ولا حتى أن تقول له وداعًا.
كنا نكلم والد معاذ لنعزيه في ابنه الأكبر لنجد الرجل قويًا متماسكًا حامدًا الله على فضله، كان معاذ على نفس درجة القوة كأبيه، لكن شعور العجز لازمه لفترة، فلو كنت مكانه لكان أبي وأمي أول شيء أفكر به بعد أن فقدوا سندهم الوحيد معهم والسند الآخر بعيد، بعيد جدًا، بينه وبينهم عرض البحر كله، كان عاجزًا كما كنا كلنا وقتها، فقد كان ألم البُعد طاغيًا تلك اللحظة على ألم الفقد.
…
أسامة أحمد، صاحب العمر ورفيق الدرب، عرفته منذ أن بدأت ذاكرتي العمل، فمبتدأ الذاكرة يعود دائمًا للفترة التي عرفته بها في طفولتي وأنا في السنة الدراسية الأولى، المدرسة والجيرة واللعب والنادي وحكايات كثيرة بيننا جعلت منه الأخ الذي لم تلده أمي.
كنت أراسله يومًا وهو يمر بأزمة شخصية أعرفها، كتب لي يومها “أنا تعبان أوي يا شامي”، أتذكر يومها أنني وجدت دموعي تنهمر دون إحساس مني، لكنني تماسكت وواصلت الحديث معه، اسمع منه دون تعليق، وإذا علّقت، كان كلامي كله دون فائدة، فأنا أعلم جيدًا أن الحديث في مثل هذه الأوقات لا يكون على قدر الألم ويتحول أي كلام وأي نصيحة إلى كلمة “معلش” التي لا تؤدي إلى أي شيء، لأنني أدرك جيدًا أن أفضل ما يمكن فعله في تلك اللحظة هو الوقوف بجانبه والاستماع إليه والنظر في أعماق عينيه.
لم أكن أبكي يومها بسبب شعوره ه, بالألم، بل من شعوري أنا بالعجز عن تخفيف ذلك الألم ولو بشكل جزئي، كانت دموعي تنهمر منّي عليّ لا عليه، وكانت كلماتي المواسية له سوطًا قاسيًا يضرب روحي، فشعرت أن كلمته “أنا تعبان” كالجبل الثقيل على كتفي، والذي لم يكسره ولا حتى يقويه، لكنه على الأغلب ترك أثرًا لن يمحيه الزمن.
…
تزوجت منذ أقل من سنة، كان عرسي أفضل مما أتمنى – كرجل – لكنه كان ككل الأعراس في الغربة، مفتقدًا لأغلب الأهل والأصحاب، بل وأقرب الأقربين لنا وهو أسامة سعد الله، شقيق زوجتي إيثار والذي لم يتمكن من السفر لأسباب كثيرة.
كانت الفرحة فعلًا ناقصة دونه، لكن ما كان يشغلني وقتها هو شعوره، فلو أن فرحتنا نحن ناقصة، فعلى الأقل هناك فرحة، هناك أصوات عالية وتبريكات المدعوين، لكن هو وحيد في مصر، لا فرحة ولا تبريكات ولا وجود له بجانب أول عروس في بيتهم.
أدرك جيدًا ما كان يشعر به، لكنني لم أكن قادرًا على فعل أي شيء.
…
يأكل أبي الطعام بسرعة خرافية رغم أي شيء، فحتى لو لم يكن أكثرنا جوعًا يظل أسرعنا في تناوله للطعام، فيأكل وينتهي من طعامه كله في الوقت الذي لم يكن أسرع من يأكل معه قد انتهى من نصف طعامه بعد، أعترف أنني كنت دائمًا أعتقد أن والدي، وبسبب سرعته تلك في تناول الطعام، يرى أنني بطيء، فكانت المشكلة دائمًا أمامي متمثلة في سرعته هو لا بطئي أنا، فأنا آكل بشكل طبيعي لكنه هو من ينهي طعامه بسرعة، إذًا فالمشكلة مشكلته!
…
لنا صديقة وأخت عزيزة، كانت معنا في بلاد بعيدة عن بلادنا، لكنها، ولظروف شخصية، قررت يومًا أن تزور وطنها الأم لتُنهي بعض الأمور، كان سفرًا طبيعيًا ككل مرة، فهي عادة تسافر دون أي مشكلات أو مضايقات، لكن القدر جاء هذه المرة حتى يخبرنا أنه مجددًا فرض عليها البقاء لفترة هناك رغبة عنها، فشلت كل محاولاتها في العودة، وفشلت محاولاتنا كذلك في مساعدتها.
يومها، يوم أن عرفت أنها مُنعت من السفر، أخبرتني زوجتي إيثار وهي تبكي بحرقة وتقول: “أنا مش عارفة أعملها إيه” فكان ردي بين نفسي “أنا كذلك لا أعرف ماذا أفعل”.
بعدها بأسابيع، وبعد فشل كل المحاولات، قررت أن تأخد أشياءها من بلادنا البعيدة، فكنا نحن من نقوم بتلك المهمة بدلًا عنها، فنرسل لها كل متعلقاتها بعد إفراغ البيت الذي كانت تسكنه، أذكر يومها ونحن في بيتها أنني كنت أفكر في شعورها هي، هناك أصدقاء لها يقومون الآن بمهمة نقل كل متعلقاتها من بيتها الذي عاشت به لفترة ليست بالقليلة، إنها بعيدة أو نحن بعيدون عنها، وتفصلنا كاميرا الهاتف التي من خلالها تصف لنا ما يجب أخذه وما يجب تركه، كان شعورًا قاسيًا بحق، أن تنزع بيديك شيئًا آخر يربطها ببلادنا البعيدة، فالإنسان في النهاية مهما سافر يدرك أن له منزلاً – ولا أقول سكنًا – ينزل به في تلك البلد، فتزداد نسبة شعوره بالاستقرار، وتظل المحاولة حاضرة حتى يذهب إلى ذلك المنزل.
أما الآن، وبعد أن تم تسليم المنزل لأصحابه، ماذا بقي؟
وقتها، أدركت شعور العجز مرة أخرى، وأيقنت أن المشكلة أحيانًا لا تكون فيما نمر نحن به، بل فيما يحدث ونحن بعيدون عنه، حتى لو كان عرسًا!
…
كتبت هذه الكلمات على عدة أيام لعدم تحملي كتابتها مرة واحدة، وفي الأثناء، قرأت منشورًا على فيسبوك، لأحد الأصدقاء الذي يعيش معنا في بلادنا البعيدة، كتب: “توفت أمي الحبيبة الغالية” كانت تلك الكلمة مؤلمة جدًا بالنسبة لي، حتى إنني تظاهرت بعدم الاهتمام حتى لا أفكر فيما يمكن أن يفكر به أي شخصي مكاني.
بالنسبة لي، كان العجزُ كلّه متمثلاً في كلماته تلك، أن تموت حبيبتك الغالية وأنت بعيد أو أن يموت أبوك وأنت غير قادر على ضمه ضمة أخيرة، كل ما يمكن فعله في تلك اللحظة أن تسأل من يعرفونك بأن يكونوا “خير خلف”، وأنت، أنت لست أنت في تلك اللحظة، فكل قرارات العقل التي تتخذ تلك اللحظة، إن قررت عدم الذهاب لأسباب خاصة بك وأنت على مقدرة منه، تتلاشى، فأنت أصلًا لا تملك الاختيار، سواء كنت تريد السفر أم لا، لأن في السفر لهم سفر آخر لجنهم التي على الأرض وشياطين جهنم تلك لن تراعي أبدًا أنك فقدت من عاشوا لأجلك ومن تعيش أنت في خيرهم.
…
كنت أزور أبي وأمي وأختي في بلادهم التي كانوا فيها، إجراءات سفري كانت كعادتها روتينية، فدعوة من أبي وطلب مني ألتمس فيه أخذ تأشيرة محددة بعد أيام بقائي معهم ثم طائرة ثم لقاء ليس كأي لقاء في صالة الوصول.
وصلت وقتها وكان اللقاء كأي لقاء بين ابن وأخ مشتاق وأسرته، جلسات مع أمي، حكايات مع أبي في السيارة، انتظاري لأختي أسماء أمام مدرستها حتى تخرج، السفر إلى العُمرة، ثم أخيرًا، ترتيب الحقائب مجددًا من أجل السفر، وبداية فترة قاسية جديدة في بلاد بعيد.
كان كل شيء ككل مرة أزورهم فيها، نفس الأحداث ونفس التسلسل ونفس المشاعر، إلا أن الشوق كان أكبر.
وقبل سفري بيوم واحد، مرض أبي مرضًا ليس كأي مرض قبله، الجسد ضعيف، تناول الطعام أصبح بطيئًا، لا طاقة لفعل أي شيء سوى التمدد على الأرض، فكان الطلب منا لرؤية الطبيب وكان الرفض منه، وبعد إصرارٍ منا ذهبنا إلى المستشفى لنجد أن الطبيب يأمر باحتجازه في المستشفى عدة أيام لوجود فيروس في جسده يتطلب الرعاية والملاحظة.
كل ذلك في ليلة ويوم، كل ذلك وقد أصبحت المدة التي تفصلني عن سفري عدة ساعات، فكرت كثيرًا فيما يجب فعله، فأبي مريض في مستشفى، أمي قوية كالعادة لكنها تترقب هي الأخرى لحظة تخيفها وتخيفني أكثر، وأسماء تبكي، لا تعرف ماذا تفعل وهي ترى أبيها لأول مرة في فراش المرض بهذا الشكل، كنت أعرف أنها تخاف من المستشفيات.
أفكار كثيرة كانت تدور في خاطري، بين سفري الذي لا أستطيع تغيير موعده بأي شكل، فقد تأجل عدة مرات وهذه آخر فرصة أمامي للخروج من البلد بشكل قانوني، وأبي الذي لا أستطيع فعل أي شيء له.
كانت لحظة قاسية بحق وقت أن أحضرت الحقيبة من المنزل ورجعت إليهم لوداعهم، كان أبي يدعو الله لي أن يحفظني، وأمي متماسكة كما هي، وأنا الجلْد الذي لا أبكي أمامهم، تمكنت يومها من التغلب على نفسي بنفسي وعلى عدم البكاء، قررت وقتها أن بكائي سيكون في المطار وحيدًا، كما كنت أفعل كل شيء حينها.
قبلت يديه ومسح هو على رأسي ثم خرجت من الغرفة وهو نائم ينظر إليّ، لم أقل له أي شيء حينها، وأمي كانت قد أصرت على أن تكون معي حتى أصل إلى السيارة، كنت أحتضنها حتى باب المستشفى، ثم أشرت إلى السيارة وقلت لها: “خلاص العربية أهي، يلا اطلعي بقى وما تسيبيش بابا لوحده”، لكنها رفضت وهي تبكي، أعرف لماذا كانت تبكي يومها، ليس فقط لأنني أتركها في هذا الموقف، لكن تلك كانت المرة الأولى منذ ولادتي التي أسافر فيها دون أن تكون معي حتى ضابط الجوازات.
أصرت أمي على عبور الطريق معي للسيارة وأصررت أنا على الرفض، كان خوفي من نفسي وقتها أكثر من خوفي عليها، فلو أن نفسي تغلبت لبكيت، ولو بكيت لانهارت أمي أمام عيناي، فآثرت السلامة لها ولي وصرت أدفعها وهي تحتضنني داخل باب المستشفى ثم قلت لها: “خليكي هنا بقى واطلعي للحاج، سلام عليكم”، وقبلت رأسها وركضت حتى السيارة.
..
لم أتمكن من البكاء في المطار، كانت الغصة في قلبي أشد من أن أبكي، فالتنفس كان صعبًا لكن انهمار دموعي كان أصعب، تمنيت وقتها لو أنني أستطيع البكاء والصراخ، حتى إنني دخلت إلى الحمام للبكاء خصيصًا ولكن دون جدوى، دعوت الله وقتها لو أنني أستطيع العودة، لو أنني أبقى تحت أقدامهم، لو أنني قادر على أن أكون سندًا لمن حولي ولو مرة واحدة.
كانت كل أمنياتي وقتها ألا أترك أبي عندما أجبره المرض على تناول الطعام ببطء للمرة الأولى في حياته.