السؤال عن ثبوتية من كل ما نعرفه و نؤمن به، تلك كانت ببساطة “الفلسفة الشكوكية” أو الشك في علم الفلسفة المعروف بـ”Skepticism”، ولأن الفلسفة معناها “حب الحكمة” و السعي وراء المعرفة، كانت الفلسفة الشكوكية أحد أهم علوم الفلسفة، لأنها تشك في المعرفة الحقيقة، وتسأل إن كانت معلومة أو مؤكدة، لتدفع صاحبها في رحلة لإثبات المنفي.
الشكوكية هي عدم ضمان صحة أي شيء إلا بتقديم دليل يثبت صحته، ويقدم إجابات شافية، وذلك لتجنب الإيمان بقشور الأمور وسطحيتها، من أجل مزيد من البحث حول بواطن الأمور وجوهرها، وهنا نعرض مقارنة بين الفلسفة الديكارتية في النظر للفلسفة الشكوكية، وكيف كان رأي الفلاسفة المسلمين فيها، وكيف تعامل معهم المسلمون حين ذاك.
كان على رأس “الشكوكيين” الفيلسوف المعروف “رينيه ديكارت”، بل كان أكثر الفلاسفة شكًا فيما يعرفه هو وتوصل إليه شخصيًا، ليكون الحل في نظر “ديكارت” للوصول إلي حقيقة بواطن الأشياء، هو عدم الإيمان بها، فكفر بكل ما توصل إليه من حقائق وقرر عدم تصديقها، حتى ولو كان مؤقتًا، باعتقاده أنه إذا استمر في الإيمان بها، فلن يعرف أبدًا إن كان على صواب أم على خطأ.
ديكارت من الشك إلى الإيمان
رينيه ديكارت
بدأ ديكارت بالمعرفة التجريبية، أي تلك التي نكتسبها عن طريق حواسنا المختلفة، كالسمع والبصر والشم والحس، إلا أن الشك وجد طريقه في تلك أيضًا، معللًا ديكارت ذلك بأن حواسنا تخدعنا في كثير من الأحيان، فالطعام يختلف مذاقه عندما نكون مرضى، والإحساس بالبرودة يختلف باختلاف الظروف المحيطة، وبهذا لم يكن قرار “ديكارت” بعدم تصديق كل شيء بالقرار الصائب، ذلك لأن الأمور ساءت عما كانت من قبل.
يقول ديكارت؛
” بحثت في الوجود فلم أجد موجود إلا أنا، أنا أفكر إذًا أنا موجود، وكل موجود لا بد له من موجد، فمن الذي أوجدني، ولا يجوز أن يكون الذي أوجدني أقل مني، لأن لا يجوز أن يقدر الأدنى على خلق الأعلى، ولا يجوز أن يكون الذي خلقني مساويًا لي، لأنه لو كان مساويًا لي، فلماذا لم أوجده أنا، ونكون نحن متساويان، إذًا لابد أن يكون الذي أوجدني أعلى مني، وليس هناك أعلى مني إلا الله”
أنا أفكر، إذًا أنا موجود
لم يكن “ديكارت” متأكدًا من أي شيء، سوى أنه يشك، ولهذا اعتبر نفسه يفكر، وبالتبعية تأكد بأنه موجود، ليكون ذلك المعتقد الأساسي له، ولعلم الفلسفة بشكل عام، أي أن الإنسان لا يمكنه الشك في وجوده على الإطلاق، ولأنه شعر بالنقص في تلك المرحلة، وجد ديكارت أن شعور الإنسان بالنقص ينبع من فكرته الفطرية عن الكمال هي التي يقارن بها نقصه الكامل، ولأن “ديكارت” في الأصل كاثولكي ملتزم، آمن بوجود الإله بعد تأكده من وجود الإنسان عن طريق إيمانه بكمالية الإله.
الشك محرك الفكر الإنساني
لا يعتبر الشك في بواطن الأفكار بالشيء السلبي، بل ثبت التاريخ بالفعل أن الشك هو محرك الفكر الإنساني والتغيير الحركي أيضًا، فيخرج أحد الأشخاص أو إحدى المجموعات في حالة متمردة على أنظمة أو أفكار معهودة، وتشك في ثبوتيتها وصلاحيتها، فتكون النتيجة إما بشك سلبي لا يغير شيئًا، أو شك ديناميكي ينتج عنه انقلاب في الأفكار وثورة على الأنظمة المعهودة.
يرى البعض أن الشك لازم الحضارة الإنسانية منذ بدايتها، وربما يعود تاريخه إلى ما قبل الأديان السماوية، بل كان ملازمًا لكثير من المعتقدات الدينية، كالبوذية مثلًا حينما ظهرت بعد بالشك في الهندوسية، ونرى ذلك متمثلًا أيضًا في نشأة الأديان الإبراهيمية مع الشك في كل ما كان سائدًا ومتوارثًا بين الأجيال من عبادة الأصنام.
ولكن لا يقتصر الشك على الشك الديني فحسب، بل يشمل الأنظمة السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية أيضًا، ولكل واحد منهم نوعًا ولكل واحد منهم أنواع مختلفة وشديدة التنوع وثرية التاريخ في مختلف أنحاء العالم.
كيف رأي الفلاسفة المسلمين الفلسفة الشكوكية؟
أبو حامد الغزالي
ربما أول من يخطر بالبال عند ذكر الفلسفة الشكوكية هو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، إلا أن هناك من اقتدى به ديكارت في منهاجيته، حيث سبقه في الوصول إلى منهج الفلسفة الشكوكية، فكان ذلك هو الفيلسوف المُلقب بـ “حجة الإسلام” في عصره، هو “أبو حامد الغزالي”.
من لم يشك فلم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، و من لم يُبصر، يبقى في متاهات العمى.
كان للغزالي بصمة واضحة في علم الكلام والمنطق، حيث عُرف بأنه أحد مؤسسي “المدرسة الشعرية” في علم الكلام، إلا أنه كانت له بصمته أيضًا في علم الفلسفة، فكان شافعي الفقه، صوفي الطريقة، ووطأ مبدأ الشكوكية حينما حل بالعراق، وحاول أن يصل إلى الحقيقة التي اختلفت حولها الفرق الأربعة التي هيمنت على الفلسفة الإسلامية في ذلك الوقت من القرن الخامس الهجري.
كانت الفرق الأربعة تتمحور حول؛
“الفلاسفة” الذين يدّعون أنهم أهل النظر والمنطق والبرهان.
“المتكلمون” الذين يرون أنهم أهل الرأي والنظر.
“الباطنية” الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم.
“الصوفية” الذين يقولون بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
سعى الغزالي ليتقصى الحقيقة بين تلك التيارات الأربعة؛ فحللها ودرسها بعمق شديد، حتى تعرّف عليها عن قرب، واستطاع أن يستوعب كل آرائها، وقد سجل ذلك بشكل مفصل في كتابه (المنقذ من الضلال)، بيد أنه خرج من تلك التجربة بجرعة كبيرة من الشك جعلته يشك في كل شيء حتى مهنة التدريس التي أعطاها حياته كلها.
يقول أبو حامد الغزالي في هذا؛
إن العلم اليقيني هو الذي يُكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم
ليقترن الغزالي بمقولة “علمني الشك اليقين”، لتشكل مكانة الغزالي في تاريخ الفلسفة مادة دسمة لاختلاف الفقهاء والفلاسفة والمتصوفة بين من يعلي من شأنها ومن يعارضها، ومع ذلك، فإن هذا الاختلاف حول منزلة الغزالي في تاريخ الفلسفة ينتصب دليلا على الحضور المعرفي القوي للغزالي، على الرغم من اتهامه بالكفر والإلحاد بسبب فلسفته الشكوكية، واتخاذها وسيلة للإيمان.
ابن الهيثم: الفيلسوف المُهمَش
لم يُتهم الغزالي وحده بالكفر، بل تشارك معه “ابن الهيثم، الفيلسوف المجهول بين المسلمين، فربما هو معروف أكثر بمؤسس علم البصريات، وعالم الفيزياء والرياضيات والفلكيات النابغ، إلا أنه يتم تهميش “ابن الهيثم” الفيلسوف، لأسباب كثيرة من ضمنها اتهامه بالكفر الصريح والإلحاد، وذلك بسبب مؤلفاته في الفلسفة الشكوكية في الإسلام.
إنّ حوار ابن الهيثم مع الفلسفة اليونانيّة لم يمنعه من تأصيل هذه الرؤية في تربتها العربيّة، فبالإضافة إلى ما ورثه عن اليونان وما استلهمه من الطريقة الأرسطيّة والأفلاطونيّة، فإنّه عمد إلى إعادة الاعتبار لبعض المصطلحات التراثية كتقنية “السبر والاعتبار” التي استمدها من الفقه الإسلامي، ولأن الغزالي ناظر ألسنة العرب من شعراء، ولأن السبر في لسان العرب يعني غرض القياس والامتحان، فقد طوّر ابن الهيثم المصطلح ليعني؛
“السبر والتقسيم هما أحد مسالك العلّة والطريق إلى معرفتها وإثباتها ويجمع كل هذا مبحث القياس”
يقول ابن الهيثم: “إنّ جميع الأمور الدنيويّة والدينيّة هي نتائج العلوم الفلسفيّة، وثمرة هذه العلوم هو علم الحقّ والعمل بالعدل، فيقول ابن الهيثم عن نفسه؛
“سعيت دومًا نحو المعرفة والحقيقة، وآمنت بأني لكي أتقرب من الله، ليس هناك طريقة أفضل من أن أبحث عن المعرفة والحقيقة.
يرى “إسماعيل الفاروقي” فيسلسوف الأديان المقارنة (من الآباء المؤسسين لمدرسة المنظور الحضاري في قراءة الفكر الغربي ونموذجه المعرفي) في كتابه “إسهامات في الإصلاح الفكري الإسلامي المعاصر) بأن مفهوم الحقيقة مفهوم موضوعي، أما الجهد الإنساني في الوصول إليها هو النسبي والمتغيّر، فالحقيقة إن كانت جوهرًا واحدًا لا يتبدل ولا يتغير، فموقع الإنسان منها فردًا كان أم جماعة، هو موقع جزئي يتغير بالزمان والمكان، ولأن فلاسفة الإغريق رأوا بأن البحث عن المعرفة من سمات السعادة العظمى، فلا ضرر من البحث عن الحكمة والمعرفة في كل زمان ومكان، إذا نظرنا إلى ذلك خارج قوالب الظن والإثم والشرك والكفر، فربما تحقق الشكوكية إحدى سمات السعادة العظمة التي تحدث عنها الإغريق.