منذ كنت طفلاً كنت أنجذب لحديث أصحاب الشعر الأبيض في المسجد والبيت وأي مكان أجد فيه بركة الوقار، كنت أجلس في مجلس والدي الذي يضم عددًا من علماء ووجهاء الموصل ولم أتجاوز العاشرة من العمر، وكان الشرط الوحيد الذي عليّ القبول به لأتمكن من الجلوس في طرف المجلس هو “تجلس تسمع ولا تتكلم”، إضافة إلى ذلك طبعًا المساعدة في تقديم الضيافة.
ومنذ ذلك الوقت كنت مولعًا بأحاديث التراث والشوارد والنوادر وأخبار الموصل والعراق والأجيال السابقة وطريقة عيشهم وما الذي كان وكيف تغير وما الذي دفع الأمور أن تصل على شكلها الحالي.
قبل أيام تصلني رسالة على الفيسبوك ماسنجر من صديق من أيام الدراسة الإعدادية نص الرسال كان صادمًا: “ملاح ما أكو أكل بالمحلي غير السليقة وماي المطر للشرب”
للأسف عندما بلغت الخامسة من العمر رحل جدي لوالدي الحاج سعيد الملاح مدير الإعدادية الشرقية وكنز تاريخي لم يدعني الموت أن أنهل منه، ولم أبصر جدي لأمي فقد توفي في ربيعي الأول – رحمهما الله -، لذلك كانت جدتي لأبي، وأمي مخزون الأحداث الذي يوثق الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية وحتى بلوغي مع سقوط بغداد 2003 على يد الغزو الأمريكي، الكثير من القصص والحكايات التي علق بعضها بالذاكرة والبعض الثاني اندثر بفعل الوقت وعدم وجود ما يذكرني به.
قبل أيام تصلني رسالة على الفيسبوك ماسنجر من صديق من أيام الدراسة الإعدادية نص الرسال كان صادمًا: “ملاح ما أكو أكل بالمحلي غير السليقة وماي المطر للشرب”، الرسالة اجتذبتني لترميني في دوامة ذكريات مع صديق الدراسة، كنا أنا وهو وبعض الأصدقاء نخرج من الإعدادية الغربية ونتحاور على طول الطريق ماذا نختار اليوم على الغداء من قائمة مطاعم شارع الدواسة الشهير، وكان يفضّل الرز بالفاصولياء بينما كنت من أنصار اللفات (الساندوتش باللهجة العراقية يسمى لفة) بأنواعها المتعددة.
السليقة نموذج التكاتف الاجتماعي حيث تجمع حبوب الحنطة في وعاء كبير يوقد تحته ما تيسر من أي شيء قابل للاحتراق، فالنفط مفقود في مدينة من أرض العراق صاحب ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، فيتم الطهي وتوزع على بيوت المحلة لتسد رمق الجوع
وما سمعته من والدتي عن أكلة “السليقة” وذكريات طفولتها في الستينيات من القرن الماضي، حيث تُقدم بيوت أحياء الموصل القديمة بعمل هذه الأكلة الموسمية وهي عبارة عن مسلوق حبوب الحنطة توضع في وعاء كبير وتوقد تحتها النار، يتسابق أطفال الحي “المحلة باللهجة الموصلية” ليأخذوا نصيبهم من أكلة السليقة بأطباق أو وعاء صغير يجلب من البيت لهذا الغرض، فيتجمهرون أمام وعاء السليقة الضخم بانتظار التوزيع.
وتصنع الأكلة خلال عملية إنتاج “البرغل” أحد المنتجات المستخرجة من الحنطة لغرض التخزين والمأونة الشتوية، حيث تسلق الحنطة ثم تجفف على أسطح المنازل قبل وضعها في غرفة في سراديب المنازل لتكون مخزون الطعام للشتاء القادم.
أصبحت سلة خبز العراق بلا خبز، وعشيقة دجلة الخير الرابضة على ضفته اليمنى بلا ذهبه الأزرق الذي يتدفق دون أن يتمكن أهل الموصل من الاستفادة منه بسبب المعارك
هذا التراث قفز ليكون اليوم الطبق الرئيسي في مدينة الموصل القديمة التي فتك بها الجوع منذ أكثر من عام، وأصبحت سلة خبز العراق بلا خبز، وعشيقة دجلة الخير الرابضة على ضفته اليمنى بلا ذهبه الأزرق الذي يتدفق دون أن يتمكن أهل الموصل من الاستفادة منه بسبب المعارك، فالماء يتم استخراجه من الآبار أو عن طريق جمع مياه المطر!
لم يكن للموصليون غير اقتفاء أثر الأشاعرة الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم يجمعون قوتهم إذا أصابتهم نازلة ويفرقونه بينهم لحين الفرج، فكانت السليقة نموذجًا لذلك التكاتف الاجتماعي، حيث تجمع حبوب الحنطة في وعاء كبير يوقد تحته ما تيسر من أي شيء قابل للاحتراق فالنفط مفقود في مدينة من أرض العراق صاحب ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، فيتم الطهي وتوزع على بيوت المحلة لتسد رمق الجوع الذي أصاب الكبير والصغير ولم يرحم أحد.
المدن الكبيرة تضعف، تجوع، تنكسر، تكبو، تمرض، لكنها لا تموت
التراث والتاريخ وعمق الجذور لمدينة مثل الموصل يجعلني أكرر ما أقوله منذ بداية الأزمة في مدينتي الموصل، المدن الكبيرة تضعف، تجوع، تنكسر، تكبو، تمرض، لكنها لا تموت، وعندما تنهض فإنها ستقود المركب العراقي نحو بر الأمن.