أُلخّص قناعات أراها في بساطتها ووضوحها من فاضحات، لكن سنضعها تحت باب ذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وغيرهم.
أولها: أن نصرة المقاومة لا تكون فقط بالتظاهر العاطفي وإن كان هذا عمل جبار وإنما يقتضي الانخراط في معركة بأهمية معركة طوفان الأقصى عملًا مؤسسًا وراء أمواج الجماهير التي لم تبخل ولم تقصر.
وثانيها: أن جوهر العمل المطلوب قطريًا هو التقاء صادق حول الديمقراطية في كل قطر بين مختلف الفاعلين، فقد جربنا الفرقة دهرًا طويلًا، ولم نفلح في إسناد المقاومة التي لا تخوض معركتها الأولى وما زلت أمامها معارك أخرى.
إن أهم سؤال مطروح في الساحات العربية اليوم هو: لماذا تجمعنا فلسطين ومعاركها وتفرقنا معارك الديمقراطية في الداخل؟
رأيت في تونس وحدة الجماهير وفرقة النخب
بعد مذبحة المستشفي المعمداني، انفجرت قلوب الناس، فنزلت ليلًا بلا تخطيط ولا برنامج إلا الشعور بالقهر والرغبة في الثأر، وكانت كثير من الوجوه السياسية التونسية من اليسار والإسلاميين وسط الجمهور، وكان لكل منهم فريق شعاراته، لذلك عشنا صراع الشعارات وتكرر الأمر في مظاهرة يوم الخميس (المليونية التي فاقت مظاهرة الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011)، أما الاستجابة للنفير العام الذي أطلقه القائد هنية فلم يستجب له إلا شباب الثانويات وقليل من الحيارى الصادقين.
لقد تخلف السياسيون وصبوا بذلك ماءً باردًا على موجة الإسناد والتعاطف العفوية، فلم تتسع بل تلاشت، وأتوقع أن المظاهرات القادمة سينخفض نسقها وستكون حزبية ثم تبرد كلما طالت المعركة هناك، ويصير الأمر عاديًا كأن ليس هناك معركة.
لقد سجل سياسيون كثر حضورهم والتقطوا صورًا ولم يروا الجمهور المتعطش إلى عمل أكبر من مظاهرة رفع عتب والسبب واضح لدي، فهناك مكاسب داخلية محتملة من تجميع الجمهور العاطفي، ماذا لو صار هذا الجمهور جمهورًا انتخابيًا ذات يوم، سينتخب الجهة التي أطرته وقادته، إذن لندعه سائبًا مثل سرب خطاف جميل فلا يبيت في قفص أحد، إن الروح المسيطرة على كل طرف من النخبة السياسية (ما دمت غير قادر على الربح وحدي فليخسر الجميع).
لقد عايشت هذا السلوك الصفري منذ وعيت وكنت في كل معركة أقول سينتهي ويتحد الناس حول فلسطين لا بالصراخ وإنما بالفعل التنظيمي الديمقراطي في الداخل، فيحصل الإسناد السياسي لمعركة التحرير هناك بمعركة ديمقراطية هنا، ولكنني سجلت خيبة أخرى.
رغم ذلك فإن معركة الديمقراطية هي الحل
في الأقطار المطبعة جهرة كما في الأقطار المطبعة تحت الطاولة، رفضت الجماهير العربية كل علاقة مع الكيان، لكن الأنظمة جميعها اتفقت على قمع هذا المطلب ومنعت الاقتراب من سفارات العدو وسفارات من يسنده.
في هذه المعركة كما فيما سبقها كان المطلب واضحًا ويتكرر وكان القمع ثابتًا، وكانت قناعة الجمهور تزداد وضوحًا بحقيقة أن هذه الأنظمة تعيش من دعم تلك السفارات، فهي تحميها من جمهورها، لكن لأن الجمهور بلا قيادة سياسية فإن المطلب لا يصل إلى التحقق على الأرض.
لا نرى الأنظمة تغير موقفها تحت تأثير جمهور طيب ومبلبل الذهن وما يزيده بلبلة هو أن النخب المتحزبة تشاطره المطلب كل في مكتبه أو في مغارته السياسية، لكن عند اللقاء الجماعي في الشارع حول التحرر من سلطة السفارات لا يتحول اللقاء إلى فعل جماعي، لأن شرط الديمقراطية لم يتحقق.
إن التنافي الحزبي بين مكونات الساحات السياسية القطرية خذل بناء الديمقراطية وعادت الأنظمة القمعية من ثغرة الفرقة وها هي تحكم وتحمي خطوط العدو من الغضب الشعبي في مصر وتونس والأردن والمغرب والعراق.
في وضع ديمقراطي تقوده برلمانات منتخبة وحكومات تعمل تحت رقابة برلمانية وشعبية يتحول أمر السفارات كما أمر الدعم اللوجستي وحتى التطوع للقتال (إذا طلبته المقاومة) من مطلب شعبي في الشارع إلى إجراءات حكومية بالقوة.
والحكومات التي ترفض ذلك يمكن إسقاطها بنفس الشارع، هذه هي الوضعيات الديمقراطية التي يمكن أن تسند المقاومة فعلًا لا صراخًا في الشوارع، قوة الشارع جاهزة لكن النخب تخلفت عن المعركة الحقيقية وهي معركة الديمقراطية، فهل يمكن الاستدراك في هذه المعركة؟
إمكان الاستدراك غير وارد ولو طالت المعركة
لا أراهم يتفقون، فهم مرتاحون في وضع الفرقة والتنافي، إنهم منتبهون إلى أن الديمقراطية تضطرهم إلى جهد عظيم من التنازلات والبحث عن المشتركات بحيث يفقدون نجوميتهم السياسية ويفقدون منظومة مصالح بنوها وعاشوا منها ويعرفون يقينًا أن الديمقراطية تذوبها في وضع آخر ليس لهم فيه مكانة ولا مكاسب بما في ذلك العشاء السنوي اللذيذ في سفارة فرنسا في عيدها الوطني كل 14-07، لهذه الأسباب خربوا الربيع العربي واستلذوا عودة الديكتاتورية التي ضمنت لهم وضعهم المستقر.
لذلك أراقب بأمل أن معركة طوفان الأقصى ليست بصدد تحرير الأرض المحتلة، هدفها الأول، فحسب، بل هي تحرر الساحات العربية لا من الأنظمة بل من النخب الاستئصالية وهو مكسب في الطريق يتضح كل يوم، والتحرر من الأنظمة والسفارات سيكون مكسبًا تتيهأ أسبابه بزوال الاستئصاليين من الساحات.
متى وكيف لا تحضرني الإجابة، فهي ليست برشامًا جاهزًا يمكن تناوله مع شربة ماء، لكنني أرى الأفق وفيه أرى شبيبة تتعلم من طوفان الأقصى وتتدرب على الشوارع وتتدرب أيضًا على تجاوز النخب الاستئصالية بنقاباتها وأحزابها وتحولها إلى قش قديم.
أنا في لحظة الإيمان بنصر عظيم بكلفة عالية في الأرواح ومنه سيتولد خطاب المنتصرين ليمحو خطاب المهزومين، فيكون طوفانًا عظيمًا ينظف الساحات من القش العفن، أعني من النخب الاستئصالية وما أكثر أسمائها وما أوضع فعلها، الطوفان قادم ولم يعد مهمًا عندي أن أرى نتائجه، فلا أشك في حدوثه، فغزة تنصرنا علينا.