لئن عُرفت سواحل موريتانيا بأسماكها وحيتانها، فقد عُرفت صحراؤها القاسية بمدنها التاريخية الرائعة التي يحكي البعض منها جزءًا كبيرًا من قصة الشعب الموريتاني وتاريخه وأنماط اهتمامه القديمة والمتغيرات التي طرأت عليه وغنى مكوناته وتعدده الثقافي وعمارته الفريدة.
رائحة المدن تأخذكم في جولتها الأسبوعية لمدن المغرب العربي، إلى واحدة من هذه المدن التاريخية لموريتانيا، مدينة وادان، المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، حيث العمارة الصحراوية والتنوع الثقافي والمكتبات التي تزخر بالمخطوطات الثمينة.
مدينة وادان
أعلى هضبة آدرار، وبالقرب من تكوين حجري ضخم يُدعى “قلب الريشات” شمال شرق البلاد، تقع مدينة وادان الموريتانية، التي بناها عثمان الأنصاري ويعقوب القرشي وعلي الصنهاجي سنة 536 هجري، تُحيط بها العديد من واحات النخيل التي زادتها جمالاً على جمالها رغم قساوة الطبيعة.
مدينة تتكون من جزأين: أحدهما غير مأهول بالسكان ويطلق عليه المدينة القديمة التي تعتبر وجهة سياحية لكثير من السياح الأجانب، حيث أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي، بالإضافة إلى جزء آخر مأهول بالسكان، حيث توجد المباني الإدارية الخاصة بالمدينة.
تروي لك أزقتها وممراتها الضيقة المتعرجة جهود سكانها الذين تحدوا قساوة الطبيعة
شوارع المدينة القديمة
تعكس مدينتها القديمة ودورها الضاربة في القدم وسورها ذي الأبواب الأربعة الذي ما زالت بقاياه قائمة إلى الآن، جزءًا من حضارات وأمم مرت بصحراء موريتانيا على امتداد التاريخ، مقدمة لزائرها صورةً عن ماضٍ مزدهر وعمران فريد، تأقلم مع الصحراء.
مباشرة عند دخولها، تروي لك أزقتها وممراتها الضيقة المتعرجة جهود سكانها الذين تحدوا قساوة الطبيعة – حر الصيف وشمسه وبرد الشتاء وصقيعه -، ممرات تأخذك إلى أطول شارع يقسم المدينة إلى شطرين من الجنوب إلى الشمال، ليصل ما بين المسجد العتيق عند سفح مرتفع والجامع الجديد في أعلى نقطة منها، إنه شارع الأربعين عالمًا، تقول إحدى اللافتات المعلقة هناك.
شارع به 40 منزلاً متجاورًا، في كل منزل عالم على الأقل، من خلاله تتعرف الآباء المؤسسين للمدينة من أمثال “أحمد طالب ولد أطوير الجنة” صاحب الرحلة الشهيرة “رحلة المنى والمنة”، التي رسمت صورة عن مسار رحلة الحجيج الشناقطة، وعلاقاتهم مع الدول الواقعة على طول تلك الرحلة.
وأنت تتجول بين أزقتها وشوارعها، يستهويك الحجر الجيري الذي شيدت به المنازل العتيقة التي يغطي جدرانها الطين الأحمر، ويشد بصرك أبواب منازلها المصنوعة من خشب السنط الأحمر الأصلي، وتؤطرها زخارف ورسوم وأقواس وأشكال هندسية مختلفة.
ولا تكتمل الجولة داخل هذه البيوت دون زيارة “البئر المحصنة” التي حفرها الوادانيون داخل أحد البيوت من أجل تأمين المياه في حالة إغلاق السور خلال فترات الحصار عند التعرض لأي تهديد خارجي قديمًا، وما زالت قلعة وادان ومسجداها يحكيان عظمة الفن المعماري الذي بلغته الحضارة في تلك المنطقة في أثناء ازدهارها.
مكتبات ومتحف يحفظان تاريخ البلاد
بين ثنايا هذه الدور والأزقة، تعترضك مكتبات “وادان التاريخية”، التي تحتوي آلاف المخطوطات النادرة في شتى المصنفات من علوم نقلية وعقلية كالنحو والصرف والبلاغة والطب والفلك وغيرها من العلوم التي أنتجتها الحضارة العربية والإسلامية في أوج ازدهارها خلال العصر الوسيط.
ويتجاوز عدد المكتبات في المدينة 18 مكتبة تشهد على إرث ثقافي ثري لمدينة تاريخية، ظلت فترة كبيرة من الزمن هي النواة العلمية الأولى في تغذية المنطقة، ففيها وضع أول شرح لمختصر الخليل ابن اسحاق “موهوب الجليل على شرح الشيخ خليل” وفيها أيضًا، عثر على مخطوط “مروج الذهب” للمسعودي.
إلى جانبها، تجد متحف “وادان” الذي يحتوي على آلاف القطع الأثرية التي يعود بعضها إلى العصر الحجري الأول والثاني، فكان شاهدًا على إرث المدينة الخلاق والثقافات المتنوعة التي مرت بها لكونها كانت ممر للقافلات القادمة من خارج البلاد ومحطة وقوف لهم.
عند زيارتك لـ”وادان” ومكتباتها، يسكنك إحساس جميل، إحساس له طابع خاص يمتاز بالرحيل عبر الزمن والانتقال إلى حضارات سكنت الجهة، فتكفلت معالم المدينة والرسوم والأسماء المتناثرة على جدرانها وأزقتها، بحفظ تاريخها المزدهر.
طبيعة خلابة لعشاق المغامرات الصحراوية
إضافة إلى بيوتها الأثرية ومكتباتها العلمية التي أعلنتها اليونسكو إرثًا حضاريًا عالميًا، تتميز المدينة بطبيعتها الخلابة الرائعة التي تسحر العقول وتسلب القلوب بنخيلها وهضابها وصحرائها مشكلة فسيفساء تستهوي الفؤاد قبل البصر، رغم ما يقال عن قساوتها.
ويمثل مناخها وموقعها الصحراوي، عنصر جذب لعشاق المغامرات الصحراوية للقيام بجولات ترفيهية بين الكثبان والهضاب والطبيعة الساحرة للمنطقة، فمن أعلى نقطة في المدينة لك أن تشاهد واحات النخيل والحقول والينابيع المائية التي تقع عند سفح الهضبة.
وإن كنت من هواة العلم والاستكشاف، فضالتك هناك، فغير بعيد عن الهضبة التي أقيمت فوقها “وادان”، تستقبلك “عين الصحراء” أو “قلب الريشات” كما يحلو للموريتانيين تسميتها، إحدى أغرب الظواهر الجيولوجية التي احتار العلماء في وصفها، وهي عبارة عن حفرة صخرية رسوبية دائرية متدرجة من الأكبر إلى الأصغر يبلغ قطرها أكثر من 30 ميلاً، تنبثق من عمق الرمال، تشكلت إثر سقوط نيزك ضخم من الفضاء واصطدامه بكتل صخرية، حسب بعض الدراسات.
سكان يعكسون ثقافة أبائهم وأجدادهم
رغم مرور الزمن وما حصل من تطور شمل كل القطاعات والمجالات، ما زال السكان المحليون لمدينة وادان، يحافظون على تقاليدهم وثقافاتهم المتوارثة عن أبائهم وأجدادهم في الأزياء ونمط العيش والأكل واللهجة، ومن خلالهم لك أن تعرف نمط حياة سكان المنطقة القدامى الذين عُرف عنهم الكرم والأصالة والنُبل، فهم أهل الخير والعِلم.
عند تجولك هناك، في وادان، تجد أناسًا بسطاء، يبتسمون للحياة ويرحبون بالضيف ويبجلون الزائر، ليرسموا مع باقي معالم المدينة، قلعة شامخة بين وادي النخيل الباسقات ووادي العلماء، تعزف عبر الوقت ألحان تبجيلها، لتبقى محل احتفاء، رغم عاديات الزمن والطبيعة.