كيف تضفي الصحافة الأمريكية الشرعية على همجية “إسرائيل” ضد الفلسطينيين؟

ترجمة وتحرير: نون بوست

لقد دأبت المقالات الافتتاحية الأخيرة في الصحف الأميركية الليبرالية الرائدة على تصوير الإرهاب الجماعي المستمر الذي تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين باعتباره أمرًا مشروعًا.

فقد أيدت وسائل الإعلام الهجوم الإسرائيلي على غزة، والتمويل الأميركي للهجوم، في حين انتقدت أولئك الذين يقدمون وجهات نظر معارضة ولو بقدر ضئيل. لقد أفضت وسائل الإعلام الأميركية مرارا وتكرارا الشرعية على العنف الذي تمارسه إسرائيل، حتى وهو يقتل الناس؛ وهو عكس ما يُنظر إليه به نظيره الفلسطيني.

في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” افتتاحية تشيد بالرئيس الأمريكي، جو بايدن، على “إدانته المطلقة لإرهاب حماس”، وقد جاء فيها  “في هذا الصدد، تتناقض كلمات بايدن الحازمة أيضًا مع المراوغات التي يبديها عدد صغير من أعضاء الكونغرس اليساريين في حزبه، وهو الأمر الذي نبذته السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارين جان بيير على وجه التحديد”.

ويشير الارتباط بكلمات جان بيير إلى أن “المراوغات” التي تعترض عليها الصحيفة هي التصريحات التي “تقترح أن هجوم حماس على إسرائيل يجب أن يُنظر إليه في سياق الإجراءات السابقة التي قامت بها إسرائيل”، فضلًا عن تلك التي “تعارض المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل على منصات التواصل الاجتماعي ودعت إلى وقف فوري لإطلاق النار في الصراع”.

وقبل يوم واحد من نشر هذه الافتتاحية، قامت جماعات حقوق الإنسان “ميزان” و”الحق” والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بتوثيق قيام إسرائيل، في الفترة ما بين منتصف نهار 10 و11 تشرين الأول/ أكتوبر، بتدمير أحياء بأكملها في القرم وعزبة عبد ربه والسيكا، حيث تنتشل فرق الإنقاذ “عشرات الجثث” و”أخرى لا تزال تحت الأنقاض، وقد استُهدفت الجامعة الإسلامية في غزة وقُصف مبنى برنامج الفاخورة للمنح الدراسية”، وهي اعتداءات أسفرت عن مقتل 57 فلسطينيًا، من بينهم 20 طفلًا.

وأشاروا كذلك إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية وقصف الأراضي الزراعية و”المباني السكنية” في المنطقة الوسطى، وعلى الأخص في مخيمات اللاجئين الثلاثة المكتظة بالسكان، البريج والنصيرات ودير البلح؛ أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 49 فلسطينيًّا، من بينهم 15 طفلًا.

بالنسبة لصحيفة “واشنطن بوست”، فإن “الغموض” حول ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة تمويل مثل هذه الفظائع، أو محاولة وضع حد لها من خلال وقف إطلاق النار، يعدّ أمرًا “غير مرحب به”.

ترشيد لغة “الإبادة الجماعية”

وفي افتتاحيتها الأخيرة، أعربت صحيفة “واشنطن بوست” عن قلقها بشأن الفلسطينيين ولكنها ما زالت تؤيد الحملة العسكرية الإسرائيلية، قائلة “بعد ذبح مدنييها، فإن لإسرائيل – مثل أي دولة أخرى – كل الحق في الرد عسكريًّا”.

بالنسبة لصحيفة “واشنطن بوست”، فإن عنف الاحتلال عادل، وعنف المحتل ليس كذلك، إذ يمكن لإسرائيل “الرد عسكريًّا” على القوات الفلسطينية التي تقتل الإسرائيليين، لكن الفلسطينيين ليس لديهم نفس الحق، حتى بعد 75 سنة من التطهير العرقي، وحتى في ظل الفصل العنصري“.

وفي 14 تشرين الأول/ أكتوبر، أيدت افتتاحي صحيفة “نيويورك تايمز” بقوة الهجمات الإسرائيلية، قائلة إن إسرائيل “مصممة على كسر قوة حماس، وهي تستحق في هذا الجهد دعم الولايات المتحدة وبقية العالم”، ويواصل المؤلفان القول بأن “إنهاء سيطرة حماس على غزة يُعد خطوة أساسية”.

القول إنّ عنف “إسرائيل” متفوق أخلاقيًّا على جماعات المقاومة الفلسطينية يحمل رسالة واضحة مفادها أن الأولى مشروعة في حين أن الأخيرة ليست كذلك.

إن افتتاحية صحيفة “نيويورك تايمز” مليئة بعبارات مثل أن إسرائيل “لا ينبغي أن تغفل عن التزامها بحماية أولئك الذين لم يحملوا السلاح”، وتناقض هيئة التحرير ادعاءاتها حول “التزام” إسرائيل المفترض بحماية المدنيين من خلال الاستشهاد بوزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، الذي وصف الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”، وهو ما يبرره المؤلفون بالقول إن التصريح جاء “في جو من العاطفة الشديدة”.

وبطبيعة الحال، غالانت ليس المسؤول الإسرائيلي الوحيد الذي استخدم لغة الإبادة الجماعية منذ تصعيد حربهم على فلسطين. فقد قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الأدميرال، دانيال هاغاري، إن إسرائيل أسقطت “مئات الأطنان من القنابل” على غزة وأن “التركيز ينصب على الضرر وليس على الدقة”.

وقال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إن “الأمة بأكملها هي المسؤولة. هذا الخطاب حول مدنيين غير مدركين وغير متورطين ليس صحيحًا. إنه غير صحيح على الإطلاق”. وأضاف قائلًا “نحن ندافع عن بيوتنا، نحن نحمي بيوتنا، هذه هي الحقيقة، وعندما تحمي الأمة بيتها تقاتل وسنقاتل حتى نكسر عزيمتهم”.

ولم يكتف القادة الإسرائيليون بالإشارة مرارا وتكرارا إلى أنهم لا يعتزمون “حماية” المدنيين، بل إن إسرائيل تعمدت ذبحهم على نطاق واسع. على سبيل المثال، قبل يوم من نشر الافتتاحية، ذكرت جماعة حقوق الإنسان الحائزة على جوائز، الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين، أن إسرائيل قتلت حوالي 600 طفل فلسطيني حتى تلك اللحظة في هجومها على غزة، وهو ثلث إجمالي عدد القتلى.

تأكيدات غريبة

وحتى في الوقت الذي تتجنب فيه إسرائيل أي التزام بحماية المدنيين قولاً وفعلاً، فإن صحيفة “نيويورك تايمز” تقارن مرارًا وتكرارًا السياسة العسكرية الإسرائيلية بشكل إيجابي مع سياسة القوات الفلسطينية، حيث كتبت أن “إسرائيل تستعد لإرسال شبابها وشاباتها إلى المعركة، حيث سيواجهون عدوًا لا يحترم نفس قواعد الحرب التي التزموا بها”.

القول إنّ عنف “إسرائيل” متفوق أخلاقيًّا على جماعات المقاومة الفلسطينية يحمل رسالة واضحة مفادها أن الأولى مشروعة في حين أن الأخيرة ليست كذلك. وقد أصدرت صحيفة “نيويورك تايمز” تأكيدًا غريبًا مفاده أن “ما تقاتل إسرائيل من أجل الدفاع عنه هو مجتمع يقدر حياة الإنسان وسيادة القانون”.

وبما أنه لا يوجد مثل هذا التأكيد على “القيم” الفلسطينية، فإن الرسالة هي أن ذبح الفلسطينيين أمر مشروع، وإذا كان المجتمع الفلسطيني (أو أجزاء كبيرة منه) يقدر الإجرام القاتل، فإن المعنى الضمني هو أنه من المرغوب فيه أن يتم القضاء عليهم من قبل قوة يفترض أنها أكثر تحضرًا.

وفي هذه الأثناء، قبل يومين من نشر المقال الافتتاحي، قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن إسرائيل استخدمت الفسفور الأبيض – الذي يمكن أن “يحرق الناس بمجرد لمسه، حراريًا وكيميائيًا، حتى العظام” – فوق ميناء مدينة غزة والمناطق الريفية على طول خط الهدنة الإسرائيلي اللبناني.

وقالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن استخدام الفسفور الأبيض في غزة، إحدى أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان في العالم، “يزيد من المخاطر التي يتعرض لها المدنيون وينتهك الحظر الذي يفرضه القانون الإنساني الدولي على تعريض المدنيين لمخاطر غير ضرورية”.

وكما لاحظت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، استخدمت إسرائيل هذا السلاح أيضاً في غزة في سنة 2009، وخلال الجولة الحالية من القتال، قامت إسرائيل “بقطع الكهرباء والمياه والوقود والغذاء عن غزة في انتهاك لحظر القانون الإنساني الدولي للعقاب الجماعي”، ومن أجل “مجتمع يقدر حياة الإنسان وسيادة القانون”، تقوم إسرائيل بالكثير من عمليات القتل  وانتهاك القانون.

مظهر أخلاقي خادع

وبالمثل، أعلنت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” أن “لإسرائيل كل الحق في استخدام القوة العسكرية لمنع “هجمات مثل تلك التي نفذتها حماس في السابع من شهر تشرين الأول/ الأول/ أكتوبر”، وأن إسرائيل “يجب أن تظل وفية لقيمها من خلال بذل كل ما في وسعها لتقليل معاناة السكان الفلسطينيين الأبرياء في غزة”.

وأشاد المقال ببايدن لقوله إنه سيطلب من الكونغرس “حزمة دعم غير مسبوقة للدفاع عن إسرائيل” ولاقتراحه الغامض بأن تفكر إسرائيل فيما إذا كان قتل آلاف الفلسطينيين سيساعدها على “تحقيق أهدافها”. ثم تؤكد الافتتاحية أن “عدم استهداف إسرائيل للمدنيين لا يشكل سوى عزاء بسيط لعائلات القتلى والجرحى”.

ربما يعتقد المؤلفان أنه من الكرم أن نذكر إقدام إسرائيل على قتل حوالي 3000 فلسطيني  في 11 يومًا. ولكن مثل هذا التعاطف يكون أسوأ من كونه عديم الفائدة عندما يتم تعبئته بكذبة تبرر كل عمليات القتل وتخلق ذرائع لجميع أعمال القتل القادمة.

على سبيل المثال، قبل يومين من الافتتاحية، ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا): “لقد استهدفت إسرائيل ودمرت العديد من المباني السكنية في المناطق المكتظة بالسكان”، بما في ذلك “مبنى سكني في مدينة جباليا، شمال قطاع غزة، حيث قُتل عشرة فلسطينيين، ومبنى سكني في منطقة مصبح في رفح، حيث قُتل ما لا يقل عن 11 فلسطينيًا”، بينهم نساء وأطفال، ومبنى منظمة خيرية في رفح، حيث قُتل 11 فلسطينيًا، وأصيب عدد آخر. وفي صباح يوم 16 تشرين الأول/أكتوبر، أفادت التقارير أن القوات الإسرائيلية استهدفت مبنى سكنيًا في خان يونس، مما أسفر عن مقتل 22 فلسطينيًا”.

علاوة على ذلك، ذكرت منظمة الصحة العالمية، في 15  تشرين الأول/ أكتوبر، أن “أربعة مستشفيات في شمال غزة لم تعد تعمل نتيجة للأضرار والقصف. وقد تلقى 21 مستشفى في قطاع غزة تعليمات من القوات الإسرائيلية بالإخلاء. وأكدت منظمة الصحة العالمية مجددا أنه يجب اتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة لحماية العاملين في مجال الصحة والمرافق الصحية، بما في ذلك المرضى والمدنيين الذين يحتمون بها.

العنف الاستعماري هو قضية عنف السلب والتعذيب و مذبحة بعد مذبحة بعد مذبحة.

وتظهر هذه الأوهام حول عدم استهداف إسرائيل المفترض للمدنيين و”قيمها” الإنسانية المزعومة كل قسوتها – القتل بلا رحمة، والجروح الجسدية والنفسية البشعة، وسادية الحصار – كحوادث مؤسفة ذات نية حسنة في الطريق إلى تحقيق العدالة؛ إنه خطاب يهدف إلى إخفاء الوحشية الإسرائيلية تحت قيمها الأخلاقية الخادعة.

لكن العنف الاستعماري هو قضية عنف السلب والتعذيب و مذبحة بعد مذبحة بعد مذبحة. لأنه لا يمكن قيام دولة عرقية يظل فيها الفلسطينيون أقلية مضطهدة في وطنهم دون عنف وحشي متواصل.

ومن خلال ممارسة كل تلك الهمجية كما لو كان من الممكن الدفاع عنها، فإن وسائل الإعلام الأمريكية تقوم بدورها في مساعدتها على الاستمرار.

المصدر: ميدل إيست آي