كشفت الأزمة التي تتعرض لها غزة خلال الأيام الماضية، وحرب الإبادة التي يواجهها شعب القطاع منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ على أيدي قوات الاحتلال المدعومة شكلًا ومضمونًا، علانية وسرًا، من أمريكا ومعسكر الغرب، ما انتاب الكثير من المواقف الإقليمية والدولية من انقلاب وتغير جذري، فيما ارتأت بعض الأنظمة أن تظل بمقاعد المتفرجين دون أي تأثير ملموس.
ويأتي على رأس تلك المواقف التي تعرضت للانتكاسة، الموقف السعودي، الذي ظل لعقود طويلة داعمًا بشكل واضح ومباشر للقضية الفلسطينية، بل كان في بعض الأوقات أحد اللاعبين الرئيسيين في المشهد الفلسطيني، إلا أنه كان الحاضر الغائب في حرب الإبادة الأخيرة التي يتعرض لها قطاع غزة.
تساؤلات عدة فرضت نفسها بشأن جمود الموقف السعودي وبروده، مكتفيًا – كغيره من بلدان العالم غير المعنية بالقضية -، ببيانات الإدانة والشجب والاستنكار، فيما غاب ولي العهد – دائم الحضور في مختلف المحافل والملفات الإقليمية – عن المشهد بشكل لافت للنظر ومثير للجدل.. فما سر هذا التراجع في الموقف السعودي؟
بداية متزنة.. إدانة وتحذير
اتسم الخطاب السعودي بداية الأزمة بالتوازن، ففي أول رد فعل للرياض عقب الإعلان عن عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها المقاومة، أكدت المملكة أن تلك العملية كانت “نتيجة استمرار الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضد مقدساته”، ثم أعادت التجديد على رفضها “التهجير القسري” للفلسطينيين من قطاع غزة ونددت باستمرار استهداف “إسرائيل” “للمدنيين العزّل”.
وبعد أسبوع تقريبًا من بدء المواجهات، تحديدًا السبت 14 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مصدر مقرب من الحكومة السعودية قوله إن المملكة أبلغت مسؤولين أمريكيين تعليقها محادثات التطبيع مع دولة الاحتلال، مشددة مرة أخرى على رفضها لدعوات التهجير ومنددة باستمرار القصف الإسرائيلي.
التصريحات ذاتها جددها مجلس الوزراء السعودي في اجتماعاته التي عقدت برئاسة العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، مطالبًا بـ”الوقف الفوري لإطلاق النار ورفع الحصار عن غزة، والدفع بعملية السلام، وفقًا لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية”، بحسب وكالة الأنباء السعودية.
وخلال الأيام الماضية استقبل ولي العهد السعودي في الرياض وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، كما تلقى اتصالات من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيريه الفرنسي إيمانويل ماكرون، والإيراني إبراهيم رئيسي، مؤكدًا خلال تلك المباحثات موقف بلاده الرافض للعدوان والتهجير.
تراجع وبرود
توقع البعض أن الخطاب السعودي سيتطور مع مرور الوقت من محطة التصريحات الشاجبة والمُدينة إلى إجراءات ومواقف تدفع الاحتلال إلى إعادة النظر في سياساته، خاصة في ظل ما تمتلكه المملكة من أدوات ضغط قوية على رأسها النفط الذي بمقدوره أن يكون السلاح الأكثر قوة والقادر على قلب الطاولة إذا ما تم إشهاره.
لكن اللافت أنه مع استمرار القصف الإسرائيلي وتعزيز الاحتلال لحرب الإبادة التي يشنها ضد سكان غزة، لم تفارق الرياض مكانها، حيث الاكتفاء بالمؤتمرات والجلسات التي تجدد من خلالها الحديث عن موقفها من القضية ودعمها للشعب الفلسطيني دون ترجمة ذلك إلى أدوات ووسائل فوق الأرض.
ثم جاء ما نقلته صحيفة “فايننشيال تايمز” البريطانية أمس عن مسؤول سعودي، حين أشار إلى أن المملكة “لم تعلق محادثات التطبيع مع تل أبيب على الرغم من عدم وجود اتصالات بشأنها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول” وأن “الأولوية الآن التعامل مع الأزمة الحاليّة” ليكشف الكثير من المسكوت عنه في الموقف السعودي إزاء القضية الفلسطينية برمتها.
ومع اليوم الخامس عشر للحرب الشعواء التي تتعرض لها غزة والحديث عن تصفية القضية برمتها وتعريض حياة سكان القطاع للخطر، تصر الرياض على موقفها البارد، حيث التصريحات والشعارات العنترية، دون ترجمة ذلك إلى إجراءات ومواقف، حتى قمة السلام التي عقدت اليوم في القاهرة لبحث تطورات الموقف غاب عنها ولي العهد السعودي عكس ما كان معمولًا في السابق، في جمود مثير للتساؤل.
تناقض فج.. السير عكس الاتجاه
المتابع للموقف السعودي الراهن مقارنة بما كان عليه قبل ذلك يلاحظ تناقضًا كبيرًا، سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بصفة عامة، أم التعاطي مع مثل تلك الملفات الإقليمية الحساسة، حيث كانت المملكة أبرز الأضلاع العربية والإسلامية الداعمة للفلسطينيين في المجمل.
هذا الدعم لم ينقطع منذ يونيو/حزيران 1967 حين نجحت حملة التبرعات الشعبية في السعودية في جمع أكثر من 16 مليون ريال لدعم الفلسطينيين، ثم الإفتاء في ديسمبر/كانون الأول 1968 بجواز دفع الزكاة إلى اللجان الشعبية لمساعدة الأشقاء في فلسطين المحتلة.
وفي العام التالي مباشرة وجه رئيس اللجنة الشعبية لدعم الفلسطينيين حينها، الأمير سلمان بن عبد العزيز (الملك الحاليّ) لمبادرتين، الأولى: دعوة السعوديين للاكتتاب لصالح رعاية أسر مجاهدي وشهداء فلسطين بنسبة 1% من رواتبهم، والثانية: حث مواطني المملكة على التبرع بشكل منتظم لحساب اللجنة الشعبية ووضع أسمائهم في قوائم الشرف، حتى وصلت حجم التبرعات عام 1988م أكثر من 160 مليون ريال.
كما ظلت المملكة لسنوات طويلة الممول الأكبر للمقاومة الفلسطينية، وأحد الروافد الأساسية لتوفير الغذاء والوقود والرواتب لسكان قطاع غزة، وذلك قبل أن تنسلخ من تلك المهمة قبل عدة أعوام، منذ أن بدأ قطار التقارب مع الاحتلال تحت ولاية محمد بن سلمان.
التراجع الكبير في الموقف السعودي تجاه الفلسطينيين لم يقتصر فقط على التخلي عن الدعم المقدم والاكتفاء بالتصريحات الجوفاء، لكنه تجاوز ذلك إلى ما تعرضت له القضية الفلسطينية – رغم أنها قضية العرب الأولى – من انزلاق في ترتيب أولويات المملكة، ففي الوقت الذي تحتل فيه الرياض مكانة الصدارة في ملفات إقليمية أخرى كالملف السوداني واليمني والليبي، تتراجع بشكل كبير إزاء الملف الفلسطيني، في تناقض مثير للتساؤل.
أين ذهبت السعودية؟
بعد مرور 15 يومًا على الحرب في غزة، لم تستطع السعودية أن تثبت قدرتها على قيادة الشرق الأوسط كما تسعى وتدّعي، فبعد سكون مشوب بالحذر، ظهر الأمير محمد بن سلمان كالماء بلا لون أو طعم أو رائحة، لا يجرؤ على تصدر المشهد أو حتى المشاركة فيه، هكذا علق رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام “تكامل مصر”، مصطفى خضري، على الموقف السعودي إزاء الوضع في غزة.
وأضاف خضري في تصريحات خاصة لـ”نون بوست” أن هذا الأمر لم يكن متوقعًا من دولة بحجم المملكة السعودية، تطرح نفسها كحامية للمسلمين وبلد تحمي البيت الحرام كعبة المسلمين في الشرق والغرب، لكن تعاطيها مع الأزمة لا يتناسب مطلقًا مع الثقل الذي كانت تسعى لترسيخه في المنطقة خلال السنوات الأخيرة واتضح في أكثر من ملف.
ولفت الباحث المصري إلى أن ابن سمان حين ظهر على الساحة كان كأنه يخشى أمرين، الأول: أن يتدخل لدعم غزة ولو بإدخال المساعدات فيفقد علاقته مع بايدن ونتنياهو، والثاني: أن يظهر كحليف منتظر للكيان الصهيوني فيتصادم مع الرأي العام العربي والإسلامي، ويفقد فرصته في الترويج لنفسه كقائد للإقليم، لذا ارتأى أن يترك الصدارة ذات التكلفة العالية، وفضل الجلوس في مقاعد المتفرجين، الذين يعيشون ويموتون دون أثر.
وهكذا بات واضحًا أن السعودية تضحي بإحدى أبرز نقاط ثقلها في المنطقة، وهي دعم القضية الفلسطينية والوقوف في ظهر المقاومة، من أجل حسابات أخرى تراعي مصالح حليفها الإسرائيلي الجديد، وداعمه الأكبر الولايات المتحدة، وتتجنب استعداءهما، لتواصل مسيرتها في درب التخلي عن مرتكزاتها وثوابتها القديمة، التي يبدو أنها الطريق الأبرز نحو المملكة الجديدة التي يريدها ولي العهد الطامح في قيادة بلاده نحو عصر مختلف.