ترجمة وتحرير نون بوست
تضمنت لائحة أكبر المعضلات السياسية الخارجية التي واجهها الرئيس الأمريكي السابق، جيمي كارتر، خلال فترة رئاسته، خطر قيام حرب نووية والسبل الكفيلة للتعامل معها من قبل الحكومة الأمريكية. وعلى الرغم من أنه لم يسبق التطرق لهذه المسألة علنا، إلا أنها أخذت تكتسب أهمية متزايدة. في الواقع، لا تزال القرارات التي اتخّذها كارتر بهذا الشأن سرية، بيد أن الوثائق التي كشفت عنها مؤخرا وكالة المخابرات المركزية، فضلا عن سجلات الأرشيف التي توجد في العديد من المكتبات الرئاسية، فتحت المجال للاطلاع على استعدادات البيت الأبيض لنهاية وشيكة للعالم.
في الوقت الراهن، يبدو وكأن العالم على مشارف نهايته، وذلك بالنظر إلى تسابق العديد من الدول إلى امتلاك الأسلحة النووية، على غرار كوريا الشمالية وباكستان. والجدير بالذكر أن هذه المخاوف كانت مرتبطة بشكل مباشر بالتهديد الذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي، في الوقت الذي كان فيه جيمي كارتر رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.
خلال تلك الفترة، نشب صراع بين المخططين العسكريين في كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بغية تخطي ما كان يُعتبر آنذاك “هرطقة” غير واردة، أي قوانين “عقيدة التدمير المؤكد المتبادل”، الذي كان النظام العالمي يرزح تحت حكمه منذ الخمسينيات والتجهيز للصمود في وجه حرب نووية عالمية.
في هذا الصدد، كانت تدور في ذهن جيمي كارتر ومسؤولي البيت الأبيض أسئلة أكثر أهمية من قبيل، “ما الذي سيقع على عاتق الرئاسة الأمريكية في حال نجحت في تخطّي حرب نووية؟” أو “من سيعين القائد الجديد؟” “وكيف سيتم ذلك؟” فضلا عن “كيف لهذا القائد أن يؤدي أبرز ثلاثة مهام على رأس البيت الأبيض، أي أن يكون الرئيس التنفيذي للحكومة، ورئيس الدولة، والقائد العام لقواتها المسلحة؟”.
فيما يلي لمحة عن كيفية تطوير الحكومة الأمريكية لبعض أسرار أمنها الوطني الأكثر صلابة، وكيف بإمكان إدارة دونالد ترامب، أو أي من خلفاء الرئيس، الاعتماد عليها لضمان البقاء على قيد الحياة في مواجهة نهاية العالم
ونتيجة لذلك، صدر التوجيه الرئاسي رقم 58، الذي أقره كارتر خلال الأشهر الأخيرة من رئاسته، كإجابة على جميع هذه الأسئلة. وفيما بعد، قام الرئيس السابق، رونالد ريغان، بتعديل تلك الخطط من خلال توجيهاته الرئاسية في سنة 1983. في واقع الأمر، تفيد محتويات هذه التوجيهات باستمرارية خطط الحكومة، التي لا تزال سارية المفعول بالنسبة لإدارة دونالد ترامب. وقد مثلت هذه المخططات محور برامج بلغت تكلفتها مليارات الدولارات، علاوة على توظيف منظّري مؤامرات من جميع أنحاء العالم.
فيما يلي لمحة عن كيفية تطوير الحكومة الأمريكية لبعض أسرار أمنها الوطني الأكثر صلابة، وكيف بإمكان إدارة دونالد ترامب، أو أي من خلفاء الرئيس، الاعتماد عليها لضمان البقاء على قيد الحياة في مواجهة نهاية العالم.
صفحات من كتيب “البقاء على قيد الحياة خلال هجوم ذري”، الذي أصدرته الحكومة الأمريكية في جميع أنحاء البلاد في سنة 1950. (الصورة من أرشيف مدينة بوسطن)
خلال فترة حكم جيمي كارتر، كان الاتحاد السوفييتي سباقا في التجهيز لحرب نووية، حيث كان يمتلك برنامجا مكلفا للاستعداد والتأهب المدني، بالإضافة إلى المئات، وربما الآلاف، من المخابئ تحت الأرض، واستمرارية شاملة للبرامج الحكومية. أما من جهتها، فقد كانت الولايات المتحدة تحظى بخبرات “راي ديربي”، الذي وُلد في ولاية آيوا الأمريكية سنة 1935، والذي أصبح فيما بعد أحد الخبراء البارزين بوزارة الدفاع في مجال الاستعداد للطوارئ والاستجابة للكوارث.
وتجدر الإشارة إلى أن ديربي قد قاد تدريبات الإجلاء عبر حلف الناتو في القارة الأوروبية، علاوة على تدريب المدربين الذين قيموا قدرة كل وحدة على امتصاص وتحمل الهجمات. وفي الولايات المتحدة، درّب ديربي العديد من فرق العمل الحكومية في مجال الدفاع المدني ضد الحوادث النووية والبيولوجية، والكيميائية. فضلا عن ذلك، قام الخبير الأمريكي بتطوير الخطة النموذجية التي ينبغي أن تعتمدها القواعد النووية الأمريكية في حال حدوث كارثة.
كلّفت وكالة التأهب الفدرالية راي ديربي بتقييم مدى نجاعة تنفيذ “الخطة دي” على أرض الواقع. وقد كانت أول ملاحظات ديربي أن الوكالات كانت نادرا، ما تقوم بتدريبات لدراسة فعالية خططها
في سنة 1977، إبان تنصيب جيمي كارتر، كان ديربي مسؤولا عن التدريب والعمليات بمكتب العمليات في ولاية فرجينيا الغربية والتابع لإدارة الخدمات العامة بوكالة التأهب الفدرالية. وخلال تلك الفترة، حثت الخطة الفدرالية الرئيسية لمواجهة الكوارث من قبيل الحروب النووية، التي تعرف “بخطة الطوارئ الفيدرالية دي”، جميع الوكالات الفيدرالية إلى تصميم، وتطوير، وبناء منشآتها الخاصة تحت الأرض، التي سيتم اللجوء إليها في حالة الطوارئ. في المقابل، لم تأخذ معظم الوكالات مسؤولية إنشاء هذه المخابئ على محمل الجد.
في هذا الإطار، كلّفت وكالة التأهب الفدرالية راي ديربي بتقييم مدى نجاعة تنفيذ “الخطة دي” على أرض الواقع. وقد كانت أول ملاحظات ديربي أن الوكالات كانت نادرا، ما تقوم بتدريبات لدراسة فعالية خططها. في الحقيقة، قامت قلة قليلة منها بالاحتفاظ بسجلات حيوية، على غرار القوانين، واللوائح، والتوجيهات التي تستخدمها الوكالات في عملها اليومي. فضلا عن ذلك، اتضح أن العديد من موظفي الوكالات ليسوا على علم إن كانوا يمثلون جزءا من الفرق التي من المفترض بها أن تقوم بعمليات الإجلاء أثناء وقوع كارثة.
ومن هذا المنطلق، اعتبرت هذه الإخفاقات من نتاج الإهمال المرتبط بالنظام وذلك منذ فجر العصر النووي. وبصرف النظر عن الازدهار قصير الأمد الذي حققته الحكومة في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية، التي تم خلالها إنشاء ستة مراكز لتأمين المدنيين تابعة للحكومة الفيدرالية حول البلاد، لم تتعامل الولايات المتحدة مع مسألة الدفاع المدني كجزء من إستراتيجيتها الرادعة.
أقر راي ديربي أن المشكلة تتجاوز مسألة التمويل
خلافا لذلك، أثبتت الحكومة الفيدرالية أن أولوياتها ترتكز على إنفاق المال لتطوير الأسلحة بدل حماية الشعب أو مساعدتهم على البقاء على قيد الحياة في حال حدوث هجوم نووي. وخلال السبعينيات، تخلت العديد من الوكالات الحكومية عن التخطيط للعمليات التي تعقب حدوث الكوارث، حيث أنها افترضت أن المنظمات الفيدرالية المختلفة، التي تختص في مجال “التأهب” أو “التعبئة” كانت تهتم بتلك الأمور.
من جهته، أقر راي ديربي أن المشكلة تتجاوز مسألة التمويل. فعلى الرغم من أن الشعب الأمريكي قد أوضح من خلال استطلاعات الرأي أنه يريد برنامجا للدفاع المدني، إلا أنه لم يولي اهتماما يُذكر بمشاريع تنمية هذا المجال باعتبار أنه كان يعيش في حالة سلم. ومن المرجح أن الأمريكيين قد افترضوا وجود برنامج كبير في مكان ما، على أهبة الاستعداد ليتم تطبيقه ضد أي هجوم سوفياتي محتمل. وبحلول السبعينات، أصبح الوضع العالمي أكثر استقرارا، وبالتالي، لم يهتم الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين بوضع أسس برنامج دفاعي.
في الأثناء، ظهر تعقيد آخر ضمن مسألة مجابهة أي حرب نووية، يتعلق باضطرار الجيش لعبور أحد خطوطه الحمراء، المتمثل في المشاركة في مسألة الأمن الداخلي، وذلك بهدف إنقاذ البلاد بشكل فعال. ففي مثل هذه الظروف، سيتم حتما الإعلان عن تطبيق الأحكام العرفية، مما يعطي الجيش سلطات استثنائية لإدارة توزيع الموارد. ولذلك، افترضت الحكومة أنها في حاجة إلى نوع من سن بعض الأحكام العرفية وذلك قبيل اندلاع الحرب فعليا.
وفي ظل تواتر الأخبار عن اندلاع وشيك للحرب، درست الحكومة خطة إجلاء عدد كبير من السكان، وخاصة أولئك الذين يعيشون على مقربة من الأهداف العسكرية الاستراتيجية الهامة. أما صانعو القرار السياسي، فقد علموا أن هذا الأمر سيتطلب بعضا من الإكراه، واستعمال القوة إذا تطلب الأمر. خلافا لذلك، لم يرغب الجيش، بالإضافة إلى السياسيين، في التطرق إلى هذا السيناريو، بالتالي، تم تطوير العديد من الخطط بهذا الخصوص والاحتفاظ بها في كنف السرية، مما يضمن عدم اطلاع أي أطراف أخرى على محتواها وتخطي المساءلة العامة.
ولسائل أن يسأل: ما هي الإجراءات التي سيتم اتخاذها بخصوص أعضاء الحكومة أنفسهم؟ في هذا الصدد، وفي إطار حالة الطوارئ، أو في حال حدوث تغيير على مستوى حالة الاستعداد الدفاعي، سيأمر رئيس هيئة الأركان المشتركة 60 مسؤولا بالانتقال إلى المواقع المجهزة لحمايتهم. والجدير بالذكر أن الحكومة كانت تدير ما يُعرف بالمنشأة الخاصة في “ماونت وذر” في منطقة بيريفيل بولاية فيرجينيا، التي أعدت حتى يلجأ لها مجموعة من كبار المسؤولين في السلطة التنفيذية في حال نشوب حرب نووية.
استنكر العديد من القادة السياسيين الاقتراحات المتعلقة بسبل مجابهتهم للحرب وبالأخص فكرة الاختباء طوعا في المخابئ السرية بعيدا عن أسرهم وعن الشعب
فضلا عن ذلك، تم إنشاء مواقع آمنة احتياطية أخرى بالقرب من “هاغرستاون”، “وماريلاند” “ومارتينسبورغ” بولاية فرجينيا الغربية وتحديدا في القاعدة البحرية القريبة من “كوانتيكو” بولاية فرجينيا وذلك من أجل مكتب التحقيقات الفدرالي، بالإضافة إلى منطقة “فرونت رويال” بولاية فرجينيا على مقربة من منشأة، كان من المفترض أن تقوم وزارة الخارجية الأميركية بإعادة تهيئتها. كما تقع منشآت أخرى داخل الكليات في منطقة “بيلتواي” أو بالقرب منها.
في المقابل، وبالنسبة لإمكانيات الجيش والقوات الجوية، فقد كانت تمتلك طائرات هليكوبتر كافية فقط لنقل حوالي ثلث العدد المطلوب من المسؤولين، وذلك بافتراض أن النقل الجوي ممكن في مثل تلك الظروف، (كما دعتهم التعليمات إلى الوصول إلى مقصدهم بطريقة أخرى غير محددة في حال كانت المروحيات غير متوفرة). وفي الأثناء، وحتى في حال تمكن قادة أميركيون كبار من الوصول إلى “ماونت وذر”، فإن قدرتهم على التواصل مع الوكالات الفيدرالية، والحكومات الأخرى، والشعب الأمريكي يعد أمرا مشكوكا فيه، وذلك بالنظر إلى أن المواقع لم تكن مؤهلة بالشكل الكافي.
من جانب آخر، استنكر العديد من القادة السياسيين الاقتراحات المتعلقة بسبل مجابهتهم للحرب وبالأخص فكرة الاختباء طوعا في المخابئ السرية بعيدا عن أسرهم وعن الشعب، (وقد كان عضو الكونجرس في السبعينيات، “ديك تشيني” أبرز هؤلاء المشككين في هذه الإجراءات). ومن المثير للاهتمام أن الحكومة الأمريكية قد رجحت فرضية أن الاتحاد السوفياتي كان على علم بكل شيء، حتى أنهم تمكنوا من شراء أرض في قاعدة “ماونت وذر” بهدف مراقبة حركة العاملين في حالات الطوارئ. ونتيجة لذلك، مثّل تفادي نهاية وشيكة للعالم، إجراء غبيا.
صورة مأخوذة من سماء مجمّع “ماونت وذر” في سنة 1991
قبيل تولي جيمي كارتر دفة الحكم، كانت البلاد تنفق أقل من 100 مليون دولار سنويا على الدفاع المدني، وذلك مقارنة بأكثر من 30 مليار دولار سنويا للحفاظ على سلامة أسلحتها النووية من التهالك. وعلى الرغم من أن الكونغرس قد حدّد قيمة برنامج الدفاع المدني الموحد، إلا أنه لم يفعل الكثير لتمويله. من جهته، أصبح جيمي كارتر أول رئيس أمريكي يولي اهتماما كبيرا لهذه المسألة، وذلك منذ فترة رئاسة جون كينيدي.
في أيلول/سبتمبر سنة 1978، أعلن كارتر أن الدفاع المدني جزء لا يتجزأ من استراتيجية البلاد الردعية، حيث اعتبر أن الشعب أو الحكومة وعلى الرغم من أنهم معرضون لخطر كبير من الهجمات النووية إلا أنهم عدم تأمين مخابئ آمنة يعتبر خطرا أكبر على حياتهم. وقد تم التطرق إلى هذا الإجراء ضمن توجيه رئاسي قصير تم تصنيفه سريا في ذلك الوقت.
في أعقاب إعلان كارتر، ارتفعت ميزانية الدفاع المدني الأمريكية بشكل متواضع في البداية، في الوقت الذي أثبتت فيه سلسلة من الدراسات مدى ضعف الدفاعات المدنية في البلاد. في الواقع، كانت الملاجئ التي تم إنشاؤها خلال خمسينيات القرن الماضي والتي عفا عليها الزمن، آخذة في التداعي، كما بات من الضروري تجديدها أو استبدالها.
على الرغم من اعتراض البنتاغون، أقر كارتر مشروعا لتعزيز الدفاع المدني للحكومة والبرامج المستمرة في إطار وكالة واحدة، فضلا عن وضع هدف طموح
كما كشفت الدراسات أنه قد تم تجاهل الأوامر التنفيذية التي أُسندت إلى الوكالات المختلفة في هذا الخصوص على نطاق واسع. علاوة على ذلك، لم تكن هناك موارد فيدرالية متاحة لإجلاء أعداد كبيرة من السكان، الأمر الذي يعتبر المحور الرئيسي لأي برنامج دفاع مدني. أما بالنسبة للتمرينات العسكرية، فقد تجاهلت السيناريو الافتراضي لأي هجوم نووي متوقع. وفي هذا السياق، رسمت هذه الدراسات الطريق لسياسة جديدة كليا.
وعلى الرغم من اعتراض البنتاغون، أقر كارتر مشروعا لتعزيز الدفاع المدني للحكومة والبرامج المستمرة في إطار وكالة واحدة، فضلا عن وضع هدف طموح. وفي حال قيام حرب نووية شاملة، ستعمل الحكومة على الحفاظ على 80 بالمائة من البلاد، وبالتالي يجب أن توفر للقيام بذلك ميزانية لا تقل عن 250 مليون دولار سنويا.
في 19 حزيران/يونيو سنة 1979، تم إحداث “الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ”، حيث قام كارتر بإيلاء أهمية بالغة لإدارة الوكالة، حيث عهد إلى كل من مجلس الأمن القومي والبنتاغون مهمة الإشراف على التأهب المدني، الذي أصبح مرتبط بشكل وثيق بالأمن القومي والسياسة النووية الإستراتيجية. وفي هذا الإطار، جاء في مذكرة سرية لوكالة المخابرات المركزية أن “التخطيط أثناء التعرض لهجوم نووي”، الذي يتعلق بكيفية عمل الرئاسة خلال حرب نووية، قد أصبح الآن جزءا من إستراتيجية الأمن القومي.
في الواقع، مثلت هذه المعطيات تغيرا إيجابيا أسعد راي ديربي كثيرا، حيث أن الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ ستتكفل بمهمة مواصلة برنامج عمل وكالة التأهب الفيدرالية الذي كان ديربي يعمل عليه. وفي الأثناء، كلفته الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ بمهمة قيادة المنشأة الخاصة في ماونت وذر، ليصبح بكل المقاييس المشرف الأول عليها. عموما، كان من المفترض أن تزيد سرية المقر وميزانيته وتعقب الوافدين عليه. من جانب آخر، كان من المقرر أن يتحمل ديربي مسؤولية قائمة الموظفين الحكوميين الناجين، والموارد المخزنة التي سيحتاج إليها لإعادة بناء الحكومة بعد حرب نووية.
الجدير بالذكر أن الخطة الأساسية تضمنت سلسلة من وثائق إجراءات الطوارئ الرئاسية التي تمت مراجعتها وتنقيحها من قبل المساعد العسكري، لمستشار الأمن القومي زبغنيو بريجينسكي، العقيد بيل أودوم
وفي شأن ذي صلة، انصب تركيز البيت الأبيض على إيجاد حل لمعضلة كبيرة، تتمثل في توفير آلية للرئيس الجديد تسمح له بإدارة عمليات نووية خلال وبعد التبادل النووي. وخلال الفترة الأولى من رئاسة كارتر، عقد مدير المكتب العسكري في البيت الأبيض، هيو كارتر، اجتماعا مع مجموعة عمل صغيرة لمراجعة “”مخطط الطوارئ للبيت الأبيض”، الذي يمثل وثيقة سرية للغاية التي تحدد الإجراءات اللازمة التي يجب أن تتخذها وكالة الخدمة السرية لإجلاء الرئيس، وكيف سيعين المكتب العسكري خليفة للرئيس إن قتل.
والجدير بالذكر أن الخطة الأساسية تضمنت سلسلة من وثائق إجراءات الطوارئ الرئاسية التي تمت مراجعتها وتنقيحها من قبل المساعد العسكري، لمستشار الأمن القومي زبغنيو بريجينسكي، العقيد بيل أودوم. وقد أورد أودوم في إحدى مذكراته أن الإجراءات المقترحة كانت تفتقر بشكل واضح للأفكار الخلاقة والاتصال بالواقع.
من ناحية أخرى، أشارت إحدى مذكرات البيت الأبيض إلى أن التواصل اليومي بين البنتاغون ومنشآت الطوارئ الرئاسية في “ماونت وذر” وكامب ديفيد والبيت الأبيض كان مرضيا في الظروف العادية. ولكن في حال واجهت الدولة اضطرابا مدنيا أو تعرضت “لتخريب غير المتوقع” فإن ذلك لن يكون كافيا. فضلا عن ذلك، وفي حال نشوب حرب تقليدية أو نووية لن توفر تلك المنشآت الحماية الضرورية، بعبارة أخرى أيا كان الناجون المختبئون فلن يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى يُستهدف بدورهم.
رسم توضيحي لتنظيم المقاعد في منشأة خاصة في قمة “ماونت وذر” في بيريفيل، فيرجينيا، حيث يشرف كادر من مسؤولي السلطة التنفيذية على قيادة الحرب النووية
من الناحية العملية، يوحي ذلك بأن المقرات الثابتة للقيادة المركزية لن تفي بالغرض، في حين أن اعتماد موقع قيادة متحرك يعتبر خيارا نظريا. وفي الأثناء، لا يمكن للبيت الأبيض أن ينقل الرئيس أو خليفته إلى طائرة إجلاء أثناء تعرضه لهجوم نووي مفاجئ، وحتى إن نجح في ذلك، فسيكون من المستحيل معرفة أي نوع من الطاقم يجب أن يكون مرافقا لهما.
من جهة أخرى، ونظرا لأن كارتر ونائب الرئيس، والتر مونديل، هما الوحيدين اللذين يملكان “حقيبة الطوارئ الرئاسية”، التي تثبت هويتهما كقادة للقوات المسلحة، سيتعرض نظام القيادة والسيطرة النووي في البلاد للخطر الداهم إن فقدا الأهلية أو ماتا، إلا إن وجد سبيل آخر يسمح للجيش بأن يحدد هوية خليفة الرئيس.
ومن هذا المنطلق، يتمثل الحل الأساسي الذي عرضه المكتب العسكري في البيت الأبيض في شفرة الأسماء الملفوظة من مصمميها. فعلى سبيل المثال إن اكتشف المتحدث باسم البيت الأبيض توماس “تيب” أونيل جونيور أنه الناجي الوحيد، فكل ما يحتاجه للسيطرة التامة على الحكومة وترسانتها النووية أن يوفر للموظف الناجي في مركز القيادة لإجراءات الطوارئ في البنتاغون إثباتا صوتيا عن هويته من خلال استخدام مصطلح “فلاغ داي”. بينما سيستخدم الرئيس المؤقت لمجلس الشيوخ مصطلح “فور فينغر”، بينما سيعتمد وزير الخارجية سايروس فانس عبارة “فايد أواي” للتعريف بنفسه.
في مواجهة هذه التحديات، سيعمل البيت الأبيض من خلال وحدة معنية بهذا الأمر على وضع تصور غير مركزي وأكثر مرونة لحقيقة أهمية نجاة الحكومة
في الواقع، سيحاول موظف إجراءات الطوارئ في البنتاغون التأكد من الهوية الحقيقية للناجي والتثبت من صحة كلامه. ولكن في حال كانت الصواريخ السوفياتية في طريقها إلينا، فإن المصممون لهذا النظام الهش لن يكون متأكدين أن هذه الإستراتيجيات ستفي بالغرض، وهو ما سيكشف مدى فاعلية الاستجابة العسكرية لدولتنا وأمنها الأساسي.
في مواجهة هذه التحديات، سيعمل البيت الأبيض من خلال وحدة معنية بهذا الأمر على وضع تصور غير مركزي وأكثر مرونة لحقيقة أهمية نجاة الحكومة. عموما، ولتعريف استمرارية الرئيس تحتاج هذه الوحدة للعودة إلى ثلاثة مراكز أساسية، وهي: فكرة البقاء على قيد الحياة (على الرئيس ومساعديه الأساسيين إدارة الحرب)، التواصل (يجب عليهم التواصل مع بعضهم البعض ومع البلاد، وبعض القيادات الكبرى في الدولة)، والدعم (فالأشخاص يحتاجون لأشخاص آخرين في مكان آخر لمساعدتهم).
على خلفية هذه المعطيات، تم التوصل لهذه التوصيات: تحديد 5 مجموعات مؤلفة من 50 شخصا من “كوادر الوكالات” مستعدين للعمل أو الانتشار خلال حالة الطوارئ لدعم خليفة الرئيس. وقد منحت فرق “دعم خليفة الرئيس” شفرة كوادر “تريتوب” من قبل البنتاغون. وسيجندون بشكل اعتباطي من بين “بضع مئات الموقع، ربما ألفين أو 3 آلاف، سيقع عليهم الاختيار الأولي”، ما سيسمح بإعادة تثبيت المعرفة المؤسساتية التي تتصف بأنها “شديدة المرونة والتأقلم”.
رسم باليد لكيفية نقل عمل الحكومة، عثر عليه من دون تعديل في ملاحظات أودوم
في واقع الأمر، وضع فريق أودوم قائمة من الاحتياجات لهذه الفرق. وفي الأثناء، سيتوجب على فريق الدعم معرفة هوية الرئيس الحالي أو خليفته والتثبت منها في المقام الأول. وفي حين تبقى تفاصيل النظام الذي طوروه شديدة السرية، قيل لي، أنه كان سيتم اعتماد ما يمكن اعتباره أول أنموذج “لشريحة التعقب” المزروعة في بطاقة دعم خليفة الرئيس، التي ستضخم من خلال تكرار ترددات الراديو. في الوقت ذاته، ستلتقط الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ ومركز القيادة في الدفاع القومي، تلك الإشارات.
عموما تعد هذه التقنية خطيرة نظرا لأنه يمكن اختراقها لتعقب الرؤساء المحتملين، وبالتالي يتطلب الأمر توفير آلية حماية لردع أي عملية انتحال. (ولكن المخطط عجز عن توظيف من التكنولوجيا المتوفرة لإنجاح العملية، ولم يتحقق ذلك إلا إبان قدوم إدارة جورج بوش، حيث تمكنت الحكومة من التعقب الرئاسي الإلكتروني عبر الأقمار الصناعية وأنظمة الهاتف الخلوي).
في الحقيقة، تطور مشروع أودوم بنسق بطيء. وفي الأثناء، طلب من الوكالات تقدير مدى استعدادها وقدرتها على قيادة سلسلة من الأوامر التنفيذية السرية
في مرحلة ثانية، ينبغي على كل فريق، على حدة، أن يساعد الرئيس الجديد حتى يباشر مهامه الرئاسية، أي وظيفته كقائد عام ورئيس الدولة والرئيس التنفيذي. في الوقت نفسه، على الفريق أن تتواصل مع الفرق الأخرى التي نجت والتثبت من هويتها بكل سرية. من جانب آخر، سيتحتم على هذه الفرق التواصل مع البنتاغون أو عناصره الذين ظلوا على قيد الحياة لتنفيذ مخطط الحرب النووية. علاوة على ذلك، من المفترض أن تتلقى هذه الفرق المعلومات الإستخباراتية والأضرار التقديرية، وتخاطب الولايات والحكومات المحلية أيضا. ومن المثير للاهتمام أن كل فريق مؤلف من 50 شخصا عليه الاستعداد للعمل كعضو تنفيذي مستقل من دون مساعدة خارجية لمدة 6 أشهر على الأقل.
في الحقيقة، تطور مشروع أودوم بنسق بطيء. وفي الأثناء، طلب من الوكالات تقدير مدى استعدادها وقدرتها على قيادة سلسلة من الأوامر التنفيذية السرية. عموما، لا تزال هذه الأوامر سرية إلى يومنا هذا، ولكن بعض الوثائق العامة لا زالت تحتوي على بضع معلومات. فقد صدر عن إدارة كارتر في البيت الأبيض 29 وثيقة عن إجراءات الطوارئ على الأقل. والجدير بالذكر أن الوثيقة الثانية تعنى بإعادة إنشاء الكونغرس، وهي مسألة شديدة الحساسية بالنسبة للفرع التنفيذي، علما وأنه لم يتطرق لهذه المسألة إلا نادرا في المراسلات. بينما عنونت الوثيقة الخامسة “بتوفير التعبئة لموارد الأمة”، واهتمت الوثيقة السادسة بتجنيد القوى المدنية الاحتياطية لحالة الطوارئ. كيف يمكن إعادة بناء الكونغرس؟ ما هي الموارد التي سيتم تعبئتها؟ ومن الذي سيعيد صياغة الخطط؟ لا نعرف بعد.
مواطنون يشاهدون لقطات على التلفزيون تظهر إطلاق صاروخ كوري شمالي الصنع في محطة للسكك الحديدية في سيول في الخامس من نيسان/أبريل
هذا ما نعلمه حقيقة، عندما صدرت التوجيهات الرئاسية المدونة حدثت جملة من التغييرات الفعلية في أواخر سنة 1980،حيث أنشأت وكالة الاستخبارات الأمريكية وكالتها السرية الخاصة، مكتب الاستخبارات القومية للدعم في حالة الطوارئ، الذي من المقرر إدارته من فيرجينيا. وفي الأثناء، كان من المفترض أن يتلقى هذا المكتب المعلومات من كل مديريات وكالة الاستخبارات الأمريكية، ويجند فرق دعم متأهبة للعمل، مؤلفة من 3 أشخاص، لاختيار مواقع “تريتوب” في اليوم الموعود.
ومن خلال وثائق الميزانية، تبين أن الوكالات بدأت في طلب المزيد من الموارد لتمويل فرق دعم من سيخلف الرئيس، في حين أخذ البنتاغون يختبر مدى صلابة مراكزه القيادية المتحركة. من جانب آخر، طورت القوات الجوية مخططات لإضافة عرض نطاق ترددي كهرومغناطيسي مكرس لربط الحكومة مع آخر أقمارها الصناعية. وفي الأثناء، كان من المقرر أن يزور الرئيس المعين لخلافة الرئيس الحالي “ماونت واذر” خلال بعض المناسبات التي تجمع كل فروع الحكومة.
لم يثبت الرئيس الأمريكي المعجب بتويتر الذي لجأ للتدخل العسكري ضد دولة ذات سيادة تدعمها روسيا، بعد أن شاهد صور أطفال يموتون جراء تعرضهم لغاز السارين، والذي دأب على التحدث عن بناء أكبر، وليس أفضل، ترسانة نووية، بعد براعته في التعامل مع الأزمات
ومن المثير للاهتمام أن ريغان قد اكتشف أن هذا النظام غير مؤهل، إثر أن اطلع عليه قبل توليه الرئاسة، ولكن مشاركته في لعبة الحرب في إيفي ليغ سنة 1982، أقنعته بأن حماية الرئاسة لا يمكن تحقيقه، كما أن هناك هوة عميقة فيما يتعلق بأبرز الدفاعات في البلاد. ونتيجة لذلك، بادر ريغان بإقناع أحد مساعديه وهو توماس ريد، إلى جانب الملحق البحري في مجلس الأمن القومي أوليفر نورث، بإدخال بعض التعديلات على نظام كارتر عوض التخلي عنه.
عندما نلقي نظرة على العالم بعد مرور 35 سنة، سنجد أن روسيا قد احتلت القرم، فضلا عن أن النقص الحاد في موارد الناتو يهدد باحتلال دول البلطيق، الأمر الذي قد يجر التحالف إلى الحرب. في الوقت ذاته، تخشى الولايات المتحدة من أن تتمكن كوريا الشمالية قريبا من صناعة صواريخ تحمل رؤوسا نووية عابرة للقارات قادرة على بلوغ أجزاء من الولايات المتحدة.
من جهة أخرى، لم يثبت الرئيس الأمريكي المعجب بتويتر الذي لجأ للتدخل العسكري ضد دولة ذات سيادة تدعمها روسيا، بعد أن شاهد صور أطفال يموتون جراء تعرضهم لغاز السارين، والذي دأب على التحدث عن بناء أكبر، وليس أفضل، ترسانة نووية، بعد براعته في التعامل مع الأزمات. وفي الوقت الذي ظهرت فيه مخططات النجاة في حالة الطوارئ منذ عهد جيمي كارتر، يمكننا الجزم في الوقت الراهن بأن الرؤساء القادمين سيتم التأكد من هويتهم من خلال أداة تفوق تقنية الهمس بالاسم المشفر، مع العلم أن التهديدات تؤكد على أن العالم سيشهد قريبا لجوء الولايات المتحدة لهذا النظام. وفي الأثناء، سنحتاج بشدة لأحد هؤلاء الرؤساء.
المصدر: فورين بوليسي