بات من الواضح أن الاستفتاء على الدستور المزمع تنظيمه اليوم 16 من أبريل/ نيسان 2017 بهدف التأسيس لنظام رئاسي وتعزيز صلاحيات الرئيس لن يكون سوى حلقة من حلقات صراع تركيا المحتدم بين نسقين متباينين من أسلوب الحكم الذي ظل يطبع المشهد التركي على امتداد ما يقارب القرن من الزمن.
النسق الأول الذي يمثل تركيا العلمانية – الحديثة المنبثقة عن مُخرجات معاهدة لوزان (Lausanne -1923) التي تم التنازل بموجبها عن الكثير من الأراضي العثمانية في شرق أوروبا والبلقان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي يمكن اعتبارها انعكاس طبيعي للانخراط في سلسلة الحروب ضد روسيا القيصرية وبعد ذلك الحرب العالمية الأولى ضمن دول المحور، فضلاً عن العوامل الداخلية كالثورات والنزعات الانفصالية، الشيء الذي عجل بإنهاء الإمبراطورية العثمانية وإعلان جمعية الاتحاد والترقي عن عزل السلطان عبد الحميد الثاني.
ومن ثم الإعلان عن تأسيس الجمهورية التركية سنة 1923 بملامح جديدة ومختلفة كليًا عن الحقبة العثمانية بالموازاة مع القطيعة التامة مع كل ما يمت لماضيها الحضاري والثقافي من صلة والتمهيد لضم تركيا إلى حلف شمال الأطلسي في خمسينيات القرن الماضي.
سطوة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية وتدبيرها لانقلابات عسكرية متتالية على حكومات منتخبة ديمقراطيًا بحجة الدفاع عن “قيم العلمانية”
هذا النسق “العلماني” الذي أرسى أسسه مصطفى كمال أتاتورك، كما ترسخ بفضله نظامًا ديمقراطيًا ومؤسسات دستورية منتخبة وقوية وفصل للسلطات، إلا أنه لم يكن خاليًا تمامًا من النقائص التي شابته كسطوة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية وتدبيرها لانقلابات عسكرية متتالية على حكومات منتخبة ديمقراطيًا بحجة الدفاع عن “قيم العلمانية” والتعصب للقومية التركية على حساب أقليات إثنية أخرى لا سيما تجاه المكون الكردي، الشيء الذي أدخل البلاد في مرحلة من عدم الاستقرار لا زالت آثارها بادية إلى غاية يومنا هذا كالحرب ضد حزب العمال الكردستاني.
أما المشروع الثاني فقد بدأ التأسيس له عمليًا منذ سنة 2002 أي مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة التدبير الحكومي، حيث شهدت تركيا قفزات نوعية لا يمكن نكرانها على مستوى المشاريع التنموية الاستراتيجية والقضاء على المديونية الخارجية، فضلاً عن بداية المصالحة مع ماضيها الحضاري وعمقها الجيواستراتيجي وبداية التحرر من الاعتماد على الوصاية الغربية، حيث بدت تركيا كلاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه، فضلاً عن النمو الاقتصادي الملحوظ (ولوج نادي العشرين G20) ووضع برنامج يؤهل البلاد لأن تصبح ضمن القوى الاقتصادية العشرة في العالم في أفق سنة 2023 أي بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان الجمهورية.
تحديات كبيرة على المستوى الداخلي أو الخارجي، وقد تمثل ذلك جليًا في ردود الفعل القوية تجاه أي تحلل من ربقة رواسب “تركيا الكمالية”
هكذا تجد تركيا نفسها أمام مفترق طرق يجسده الصراع المعقد بين النسقين المتضاربين والذي قد لا يخلو من مخاض عسير وتحديات كبيرة على المستوى الداخلي أو الخارجي، وقد تمثل ذلك جليًا في ردود الفعل القوية تجاه أي تحلل من ربقة رواسب “تركيا الكمالية”، حيث كان آخرها محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 من يوليو/ تموز 2016، حتى وإن بدت المحاولة مغلفة هذه المرة بغلاف ديني وتستند في مرجعيتها الفكرية إلى تيار رجل الدين فتح الله غولن الذي تتهمه سلطات أنقرة بتدبير المحاولة الفاشلة، وما أعقبها من عمليات تطهير واسعة النطاق في أسلاك الدولة كافة بحجة مكافحة ما يصطلح عليه بـ”الكيان الموازي”.
لا شك أن تركيا الجديدة قد شقت طريقها بثبات على درب التخلص من بعض قيود معاهدة لوزان التاريخية والتأسيس لنظام سياسي واقتصادي متين يؤهل البلاد لأن تصبح رقمًا عالميًا صعبًا لا يمكن تجاوزه ويليق برصيدها التاريخي وإرثها العثماني
أما على المستوى الخارجي فقد جاءت ردود الفعل هذه المرة ضد هذا التحول واضحة بل وأكثر قوة من أوروبا، حيث لم تتوان عواصم أوروبية عديدة عن منع مهرجانات خطابية لمسؤولين حكوميين أتراك تستهدف الجالية بهدف الترويج لمشروع التصويت بنعم للاستفتاء على الدستور الجديد تحت مسوغات عديدة كالسعي إلى تعزيز سلطة الرئيس أردوغان وترسيخ سلطة الفرد الواحد وتقويض أركان النظام العلماني، في مقابل السماح للقوى المناوئة للحكومة التركية بالترويج لحملتهم المضادة.
قرار المنع هذا الذي لم يخل من حرب كلامية واتهامات متبادلة جعلت من أوروبا طرفًا رئيسيًا في السجال الداخلي بشأن مشروع الدستور المثير للجدل، كما يمكن وصفه أيضًا كتعبير عن التوجس من مشاريع الرئيس أردوغان الطموحة، الشيء الذي يمكن أن ينضاف إلى ملفات شائكة ومعقدة تشوب العلاقات بين الطرفين، كملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي تلوح سلطات أنقرة بإعادة تقييمه وتنظيم استفتاء شعبي بشأنه، وملف اللاجئين والهجرة وتبادل المطلوبين على خلفية الاتهام بالإرهاب وتدبير المحاولة الانقلابية ودعم تنظيم PKK.
لا شك أن القوى الكبرى ترصد عن كثب هذه التطورات المتسارعة التي تشهدها بلاد الأناضول
لا شك أن تركيا الجديدة قد شقت طريقها بثبات على درب التخلص من بعض قيود معاهدة لوزان التاريخية والتأسيس لنظام سياسي واقتصادي متين يؤهل البلاد لأن تصبح رقمًا عالميًا صعبًا لا يمكن تجاوزه ويليق برصيدها التاريخي وإرثها العثماني، ولا شك أيضًا أن القوى الكبرى ترصد عن كثب هذه التطورات المتسارعة التي تشهدها بلاد الأناضول، لكن السؤال الذي سيبقى مفتوحًا هو إلى أي حد ستسمح هذه القوى لتركيا بمواصلة السير على هذا الطريق بالنظر إلى موقعها الجغرافي شديد الأهمية ومقومات التطور والتنافسية التي تزخر بها البلاد؟