ترجمة حفصة جودة
عندما تكون بالقرب من شارع صلاح سالم جنوب شرق القاهرة، ستجد مساحات شاسعة من القبور تمتد لعدة أميال ويحيط بها سور كبير تحت تلال المقطم، داخل هذا المكان، يعيش مئات آلاف المصريين ويعملون شأنهم كشأن أي مكان آخر في القاهرة، عندما تقود في منطقة قايتباي، تجد طريقًا يبدو وكأنه طريقًا جانبيًا آخر، لكنه يأخذك فجأة نحو “مدينة الموتى”، وخلال دقائق يلوح جامع قايتباي في الأفق على يسارك وبجواره ميدانًا مركزيًا يمثل قلب هذا الحي التاريخي.
بينما تدور القطط الضالة في الشوارع الترابية، يعمل الحرفيون في الورش، هذا الهدوء غير المتوقع يمثل تغييرًا مفاجئًا عن وتيرة الحياة في العاصمة الفوضوية “القاهرة”، يبدو الحي ريفيًا أكثر من حضريًا، يقول خالد عبد الحميد – والذي يعمل في النجارة منذ أن كان بعمر الـ10: “أنا سعيد جدًا لأن أغنيسكا وفريقها جاء هنا، أشكرهم كثيرًا، لقد جاء الكثير من الناس لمشاهدة أعمالنا اليدوية وأعادوا الحياة للمكان” (أغنيسكا دوبرولسكا: المؤسس البولندي لجمعية “أرتيشنوس المعمارية” ومقرها القاهرة).
هذا الترابط بين العمارة والحياة الاجتماعية يتحقق الآن في مشروع باسم “من الموت إلى الحياة: فن الشمول، مساحة للفنون والثقافة في مدينة الموتى بالقاهرة” هذا المشروع انطلق رسميًا عام 2015، وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، بدأ المشروع لحفظ المجمع التاريخي للسلطان المملوكي الأشرف قايتباي الذي يعود للقرن الـ15 داخل مدينة الموتى، يضم المجمع مسجد ومدرسة وبقايا أحواض الشرب.
كامل هدهد أحد حرفيي الزجاج
الفن يأتي إلى الناس
مع خبرتهم الواسعة في الحفاظ على التراث المعماري في الشرق الأوسط، جددت “أرتيشنوس” العديد من المعالم الأثرية في مدينة الموتى خلال السنوات الماضية، ومن بين المعالم الأكثر تميزًا في القاهرة التاريخية أصبحت قاعة استقبال السلطان قايتباي مركزًا فنيًا وثقافيًا في المنطقة، كما نظمت المؤسسة المعمارية العديد من الأحداث الثقافية عن المجمع الشهير وداخله، هكذا توسع المشروع ليجعل الثقافة والفن جزءًا أساسيًا من هذا المكان المهمش في العاصمة، والذي قليلاً ما يحصل على مثل هذه المشاريع.
تقول دبرولسكا – والتي تعمل في القاهرة منذ 20 عامًا وتتواصل يوميًا مع سكان مدينة الموتى -: “الفكرة من المشروع هو تقديم الفن من خلال مشاركة المجتمع المحلي” وتستشهد دبرولسكا بشعار المشروع: “الفن يأتي إلى الناس”، قبل أن تصل المهندسة المعمارية دبرولسكا وزملاؤها إلى منطقة قايتباي، كان خالد يبحث عن وظيفة أخرى، فالحرف اليدوية التقليدية لم تعد منتشرة الآن، لكن الآن ومن خلال المشروع ساهم خالد في تجديد قاعة السلطان قايتباي وشارك في 10 معارض فنية.
يقول خالد: “لقد شاهد الناس منتجاتي في المعرض وأصبحت أعمالي معروفة الآن، لقد أصبحت على الخريطة”، لم يعد خالد يرغب في تغيير مهنته، فهو ينتج الآن الأثاث على النمط الأوروبي التاريخي والتصميم الإسلامي التقليدي، وكجزء من المشروع، تُقام المعارض كل شهرين أو ثلاثة أشهر في حي قايتباي بهدف تشجيع الحرف المحلية وجذب الناس من خارج المنطقة للشراء مباشرة من الحرفيين أنفسهم، وبالإضافة إلى المواهب المحلية، تدعو المؤسسة الفنانين من جميع أنحاء العالم للمشاركة في هذا المجتمع والعمل في منطقة قايتباي والاستلهام من الثقافة المحلية.
جرافيتي للفنان البولندي آرثر شالوبكا
في الفناء بجوار مجمع المملوكي، تظهر أعمال الجرافيتي على جدران أحد المنازل، فأر بني اللون له أذنين كبيرتين وعيون خضراء، بجانب القط الفرعوني الشهير، قام برسم الجرافيتي فنانيّن من بولندا عملا في المنطقة لمدة 10 أيام في ديسمبر الماضي، أحد هؤلاء الفنانين يستخدم اسمًا مستعارًا – فرانك ميسا – وهو اسم الفأر الذي رسمه خلال 12 عامًا، يأمل فرانك أن يجلب هذا العمل السعادة للمارين بجواره، أما القط فهو حيوان مقدس في مصر القديمة ولا يزال المصريون يحبونه حتى اليوم.
في يناير الماضي، زارت الفنانة البريطانية ليندساي سيكولويتز القاهرة لمدة 3 أسابيع، وبالتعاون مع الحرفيين المحليين أنتجت مجموعة “المسافرون” وهي مجموعة أعمال نحتية تستخدم مجموعة من المواد الأصيلة مثل أوراق الذهب والطين والزجاج والجبس والأصباغ الخام وعرق اللؤلؤ والحجر الجيري، وذلك لتتبع تاريخ التبادل الثقافي والتجاري في مصر، تقول سيكولويتز: “كنت أعمل بمواد مختلفة جنبًا إلى جنب مع الحرفيين في محاولة لخلق شيء ما له علاقة ثقافية بالحي”.
أدوات محلية
مع الاستلهام من القطع الأثرية والتقنيات التاريخية، قدم نحت سيكولويتز انعكاسًا للرحلات المعاصرة عبر البحر الأبيض المتوسط، كما أقامت الفنانة ورشة أعمال حرفية لأطفال الحي وطلبت منهم صنع أشكال من الطين والتي يرغبون في اصطحابها معهم في رحلة طويلة، كانت الثعابين والتماسيح والقطط التي صنعوها معروضة بجوار عملها الخاص عند افتتاح المعرض أول فبراير، شارك الأطفال وسكان الحي في المشروع بطريقة تفاعلية وممتعة من خلال العديد من الأنشطة الإبداعية مثل الجداريات والفسيفساء والنحت وورش العمل.
في 31 من مارس استضافت المؤسسسة عرض مباشر لمهرجان “D-CAF” في مجمع السلطان قايتباي، وشارك فيه فنانون من مصر وأيرلندا، ورغم أن بقية المدينة يملكها الموتى، فإنها نابضة بالحياة، حيث يعمل الناس ويمارسون روتين حياتهم اليومي في هذا المكان المميز جدًا بين المقابر والأضرحة والمعالم المملوكية الجميلة.
الميدان المجاور لمسجد قايتباي
تقول دبرولسكا: “هذا المكان فريد وينبض بالحياة ورغم أن الناس يعيشون في سعادة وسلام فالمكان مهمل، لذا فهو بحاجة لإظهاره حتى يكتشفه الزائرون ويقدرون هذا التراث”، أما سيكولويتز فتقول: “عندما تنظر لمدينة الموتى تجد أنها جميلة جدًا وسريالية، أعتقد أن حالة النشاط في الحي جعلت الناس يقدرون إمكانيات المكان وقدرات الحرفيين المحليين به”.
في حوالي الساعة الواحدة يصبح الميدان الصغير بجوار مسجد قايتباي مكتظًا بطلاب المدارس والأطفال الذين يلعبون في الشوارع والحرفيين الذين يعملون في الزجاج والمعادن والخشب، يقول كامل هدهد أحد حرفيي الزجاج والذي يعمل مع المؤسسة في تجديد بعض المواقع التاريخية: “تتعرض صناعة الزجاج اليدوية للاندثار، لذا نحن بحاجة لتعزيز هذه الصناعة وعمل المزيد من الإعلانات لجذب الناس إلى تلك المنطقة”، يأمل الحرفيون في أن يجذب المشروع المزيد من الاهتمام إلى الحي وأن يساعد في جذب السياح في المستقبل.
عندما سرت بعيدًا عن مسجد قايتباي، كان هناك طاقم فيلم بجوار الساحة يجهزون المكان لتصوير مسلسل تليفزيوني عن المعالم التاريخية في القاهرة، بينما تجلس مجموعة من النساء على الرصيف يرتدون الأسود في حداد.
المصدر: ميدل إيست أي