أشرق فجر 16 من نيسان/ أبريل 2017 على تركيا ليس ككل الأيام، فهذا اليوم على درجة بالغة من الأهمية سيذكره الكبير والصغير في المستقبل، ففي هذا اليوم قد تودع تركيا نظامها البرلماني وتباشر بالنظام الرئاسي، إنه يوم التعديلات الدستورية الذي لا يرمقه الأتراك وحسب، بل العالم أجمع.
إنه اليوم الذي قد يغير ملامح تركيا عبر تغيير هوية نظامها السياسي الذي وضعه مصطفى كمال أتاتورك قبل نحو 90 عامًا، ولا مبالغة إذا قيل إن ما قبل 16 من نيسان ليس كبعده، فهل يصوت الأتراك بـ”نعم” ويكون عيدًا على تركيا كما قال أردوغان، أم يصوتون بـ”لا” وتكون فرحة للمعارضين، وهزيمة مدوية للحكومة وللرئيس.
سيناريو نتيجة “نعم” في الاستفتاء
يصور المعسكر المؤيد للتعديلات الدستورية معركته بأنها ضمانة لإطاحة خطر أي انقلاب عسكري مستقبلي، فالنظام الحالي فيه ثغرات كثيرة تتيح حدوث انقلابات عسكرية، والشاهد ما حصل في منتصف يوليو/ تموز الماضي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وتحاجج الحكومة التركية، والرئيس أردوغان على وجه الخصوص، بأن التعديلات الدستورية ستسهل عملية صنع القرار، وتجنب البلاد شرور الائتلافات البرلمانية التي قيدت تقدمها في الماضي.
إذ عرفت تركيا 65 حكومة منذ تأسيس الجمهورية قبل 93 عامًا، مما يجعل متوسط عمر الحكومة 17 شهرًا فقط، وهي صفحة عدم الاستقرار التي تنادي الحكومة والرئيس بطيها من البلاد بعد إقرار النظام الرئاسي.
فالفائدة الأبرز التي ستجنيها البلاد وذلك ابتداءً من العام 2019 بعد الانتقال بشكل كامل إلى النظام الرئاسي، تتعلق بالحكومة التي سيشكلها الرئيس والتي لا تحتاج لثقة البرلمان ولا يمكنه إسقاطها، كما أنها ستكون متحررة من سطوة الأحزاب ومصير الائتلافات، وبالتالي ستكون أطول عمرًا من سابقاتها، كما أن الصلاحيات المعطاة للرئيس في ظل الرؤية التنموية التي يحملها لتركيا خلال السنوات المقبلة ستعطيه القدرة على سرعة تنفيذها بفضل تقليل التداخل بين السلطات.
تمرير التعديلات الدستورية، سيعزز من التعاون بين أنقرة وواشنطن باتجاه إيجاد حلول للأزمة السورية
سيناريو فوز معكسر المؤيدين للتعديلات الدستورية، سيبعث رسالة بالاستقرار السياسي على المدى المنظور، وسيكمل الاقتصاد مسيرته ويتأثر إيجابًا بأجواء الاستقرار، وهي الميزة الثانية التي تأملها الحكومة من وراء النظام الرئاسي.
إذ أوضح خبراء اقتصاديون أن الأسواق المحلية سترحب بنتيجة التصويت إذا كانت “نعم” فهذا مبعث على الاستقرار على المدى القريب، وستعود إليها الاستثمارات الأجنبية وتدفقات الأموال من الخارج، وعلى المدى المتوسط يعتقد اقتصاديون أن التحسن الاقتصادي وارتفاع قيم الأصول التركية يرتبط بمعدلات النمو الاقتصادية وانعكاسات النظام الرئاسي على العملية التنموية في البلاد، لذا سيكتنف المشهد “ضبابية” على الصعيد الاقتصادي، بالأخص إذا فقدت الحكومة حماستها من إجراء إصلاحات اقتصادية وازداد الاستقطاب في المجمع التركي.
الأسواق المحلية سترحب بنتيجة التصويت إذا كانت “نعم”، فهذا مبعث على الاستقرار على المدى القريب، وستعود إليها الاستثمارات الأجنبية وتدفقات الأموال من الخارج
وسيكون على أوروبا أن تواجه رئيسًا ونظامًا سياسيًا في تركيا أقوى مما سبق، وستدفع قوة تركيا إلى لعب دور محوري أكثر في القضايا الإقليمية كسوريا والعراق، وسيتاح لها أيضًا إجراء شراكات مع الولايات المتحدة وروسيا ودول أخرى كالصين من منطلق التمكن والقوة.
من المرجح أن تتضح علاقات أنقرة مع بعض الدول الفاعلة في الملفات الإقليمية وأبرزها الملف السوري، فتمرير التعديلات الدستورية، سيعزز من التعاون بين أنقرة وواشنطن باتجاه إيجاد حلول ممكنة للأزمة السورية، في الوقت الذي تحولت فيه سياسة ترامب مع سوريا من القضاء على داعش وحسب إلى الدعوة لرحيل الأسد ونظامه أيضًا، وهي رغبة تتلاقى معها أنقرة التي ترفض بقاء الأسد وتدعو لرحيله.
سيكون على أوروبا أن تواجه رئيسًا ونظامًا سياسيًا في تركيا أقوى مما سبق
فيما يخص بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي بعد التصويت بـ”نعم” فإن أنقرة ستعيد تعريف علاقتها مع الاتحاد من جديد من منطلق موازين القوى الجديدة، فبعد انتكاس العلاقات بين الطرفين بخصوص ملف الانضمام للاتحاد، ستفرض أنقرة إجراءات صارمة على أوروبا مقابل شراكة محددة معها.
أردوغان ذكر في أكثر من مناسبة أن محاولة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ستبقى “على الطاولة” بعد الاستفتاء، وأكد مرارًا أنه سيوقع على أي مشروع قانون يعيد العمل بعقوبة الإعدام، وهذا من شأنه إنهاء فرص تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
في حال فوز معسكر “نعم” بفارق كبير، قد يمنح ذلك أردوغان الثقة لاتخاذ تحرك حاسم بعيدًا عن الاتحاد الأوروبي وإظهار أن بلاده قادرة على إقامة تحالفات استراتيجية بديلة مع أطراف أخرى، بما فيها روسيا عدو أوروبا اللدود.
وقد يشكل تعزيز الاتحاد الجمركي مع أوروبا بديلاً لعضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، إلا أن ذلك منوط برغبة أردوغان وسياسته المستقبلية تجاه أوروبا، فالمعلوم أن حجم التبادل التجاري بين تركيا والاتحاد كبير، إذ احتلت تركيا المرتبة الخامسة في حجم التبادل التجاري مع الاتحاد خلال 2016، حيث سجل حجم التبادل التجاري بين الجانبين 145 مليار يورو خلال العام 2016.
في حال فوز معسكر “نعم” بفارق كبير، قد يمنح ذلك أردوغان الثقة لاتخاذ تحرك حاسم بعيدًا عن الاتحاد الأوروبي وإظهار أن بلاده قادرة على إقامة تحالفات استراتيجية بديلة مع أطراف أخرى
وفيما يخص العلاقة مع الأكراد، فإن الحكومة على بوابة فتح معركة جديدة في سنجار شمال العراق للقضاء على فلول التنظيم الإرهابي “بي كا كا”، يرى مراقبون أن التصويت بـ”نعم” يجعل من غير المستبعد على أردوغان أن يتبنى موقفًا تصالحيًا حيال المسألة الكردية، حتى إلى درجة إعادة فتح الحوار من منطلق القوة وامتلاك زمام الحل.
سيناريو نتيجة “لا” في الاستفتاء
يرى المعارضون للتعديلات الدستورية بأن النظام الرئاسي نظام جيد إذا طُبق في بلد تعمل فيه أدوات فعالة للرقابة والتحقق كالولايات المتحدة، ولكن في تركيا، فالقضاء فيها يقع في المرتبة الـ151 من 180 بلدًا في سلم حرية الصحافة حسب منظمة مراسلون بلا حدود، ويشير كذلك المنتقدون بأن تمرير الدستور الجديد سيقضي على الديمقراطية، وعليه فإن هذه التعديلات بنظر المعارضين تكريس لمرحلة من الديكتارتورية الدستورية، عبر إعطاء منصب الرئيس صلاحيات تنفيذية وتشريعية كبيرة.
النظام الرئاسي نظام جيد إذا طُبق في بلد تعمل فيه أدوات فعالة للرقابة والتحقق كالولايات المتحدة
أشار مراقبون أن التصويت بـ”لا” سيؤدي إلى طلب المعارضة باستقالة حكومة يلدريم والذهاب بانتخابات مبكرة، إذ ستروج المعارضة أنها فقدت شرعيتها بعد الفشل في تمرير التعديلات الدستورية، وهذا امتحان آخر ستمر به تركيا في ظل التحديات الأمنية الداخلية والإقليمية والاقتصادية التي تواجهها تركيا.
وسيسبب ذلك انكماش في موقع ودور الرئيس أردوغان على وقع الهزيمة، وتعسر قيادة البلاد إلا من خلال حكومة ائتلافية، واجتماع هذا من شأنه أن يقوض الاستقرار في البلاد على المدى القصير، ويوجه ضربة للاقتصاد الذي واجه خلال الشهور الماضية انتكاسات كثيرة آلمت مفاصله وأثرت على الليرة التركية والسياحة وقطاعات أخرى.
ستروج المعارضة أن الحكومة فقدت شرعيتها بعد الفشل في تمرير التعديلات الدستورية وعليها الذهاب لانتخابات مبكرة
ويرى علي باكير في مقال على جريدة القبس الكويتية بعنوان “تداعيات نتائج الاستفتاء الكبير على تركيا”، أن نجاح المعسكر المعارض للتعديلات الدستورية سيكون أوّل هزيمة لحزب العدالة والتنمية منذ عام 2002، وسيكون كذلك بمنزلة هزيمة للرئيس رجب طيب أردوغان الذي يُعتبر صاحب المشروع منذ أن كان رئيسًا للوزراء، وهذا دوره سيؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي في تركيا وسينعكس بشكل سريع على الوضع الاقتصادي الذي يعاني ضغوطًا كبيرة في الوقت الراهن بسبب حالة عدم الاستقرار داخليًا وإقليميًا.
وإذا حصلت هزة اقتصادية قوية بسبب هذا فعاقبة هذا ستكون كبيرة على الحزب الحاكم، إذ سيفقد حزب العدالة والتنمية من شعبيته ابتداءً، وسيتداعى سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار بشكل أكبر وقد يلامس مستوى 4 ليرات للدولار، وهو مستوى تاريخي لليرة سيؤدي معها إلى انخفاض في مستوى أعداد السياح في البلاد بسبب حالة عدم الاستقرار ومنه أيضًا إلى ارتفاع في معدلات سعر الفائدة لتلافي هبوط أكثر لسعر صرف الليرة والحول دون هروب الأموال الأجنبية من البلاد، وبالتزامن مع هذا فإن تكلفة الاقتراض سترتفع مشكلة حالة من الركود في الأسواق المحلية.
ستكون نتيجة” لا” بمنزلة هزيمة للرئيس أردوغان الذي يُعتبر صاحب المشروع منذ أن كان رئيسًا للوزراء
وبعيدًا عن الاقتصاد فإن الموقف التركي سيكون صعبًا، في مواجهة الاتحاد الأوروبي والتحديات الإقليمية وسياسة تركيا الخارجية، فمن المتوقع أن يكون موقف أنقرة ضعيفًا أمام هذه المعطيات، إذ لن تكون تركيا قادرة على خوض حروب جديدة وبالأخص المعركة التي على وشك البدء بها في شمال العراق بسنجار، لمحاربة تنظيم “بي كا كا”، كما لن يكون موقف أنقرة قويًا بعد هذا أمام موسكو وواشنطن اللتين ستحاولان استغلال موقفها الضعيف لفرض إملاءات عليها، كما ستبقى المشاكل البنيوية في الدستور التركي والتعارض بين مؤسساته.
وفي النهاية فإن الشعب التركي وحده من سيحسم نتيجة الاستفتاء اليوم وهو وحده أيضًا من سيقرر مستقبل البلاد فهو إن لم يقبل بسلطة العسكر وخرج في الشوارع بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، فقد لا يقبل أيضًا السير في سلطة الرجل الواحد إلى الأبد وعدم إكمال مسيرة التطور والتنمية التي بدأتها حكومة العدالة والتنمية خلال السنوات الماضية.