أسدل الستار على قمة القاهرة للسلام التي عقدت بالأمس بناءً على دعوة وجهتها مصر لعدد من الدول لبحث الحرب في غزة ومحاولة التوصل إلى قرار بوقف إطلاق النار وإجبار دولة الاحتلال على إدخال المساعدات لسكان القطاع دون شروط مسبقة.
القمة كالعادة في مثل تلك الأوقات مُنيت بالفشل، شكلًا ومضمونًا، حيث غاب عنها الكثير من قادة العالم، فيما شهدت الأجواء اتساع الفجوة بين المجموعة العربية والدول الغربية التي حضرت، ما أدى في نهاية المطاف إلى عدم إصدار بيان ختامي، فيما اكتفت الرئاسة المصرية ببيان لها عوضًا عن ذلك.
رغم أن المؤشرات التي سبقت انعقاد القمة تشير إلى فشلها، فالبعض كان يعول عليها لتحريك المياه الراكدة في مستنقع ضمير الإنسانية العالمي المتجمد، ليجد العرب أنفسهم في مأزق حقيقي بعد أن ألقوا بآخر أوراقهم الدبلوماسية في تلك الأزمة دون أي نتيجة إيجابية.
القمة.. الفشل قبل الانعقاد
منذ الوهلة الأولى لانطلاق فعاليات القمة، حتى قبيل انعقادها، بدا عليها الفشل المبكر وذلك لعدة مؤشرات:
أولًا: غياب الجدية والتعاطي العربي والإسلامي معها، حيث غاب العديد من قادة بعض الدول العربية والإسلامية ذات الثقل الكبير كالسعودية وتركيا، واكتفيا بإرسال وزيرا الخارجية دون حضور ولي العهد أو الرئيس التركي كما هو متعارف عليه في مثل تلك الملفات الساخنة.
ثانيًا: دعوة ممثلي الدول الغربية المعروف دعمها الكامل لدولة الاحتلال في مواجهة غزة والمقاومة، كألمانيا وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة بجانب المفوضية الأوروبية، فهم بدعمهم العسكري والسياسي والإعلامي تحولوا إلى خصوم في القضية وليسوا وسطاء للتحاور معهم، ثم ماذا كان ينتظر العرب منهم غير ما أعلنوه قبيل وفي أثناء وبعد القمة؟
ثالثًا: غياب الزخم الدولي، فرغم ما تمثله تلك الأزمة من خطورة قد تزج بمنطقة الشرق الأوسط في أتون حرب شعواء، وتفرض حالة من اللا استقرار في المنطقة، وتضع مصالح الدول الكبرى في مرمى الاستهداف، فإن قادة قوى كبرى كالصين وروسيا غابت عن المشاركة في القمة، لأسباب وتفاهمات وحسابات سياسية خاصة، فضلًا عن عدم مشاركة رؤساء أمريكا وفرنسا وبريطانيا، بجانب عدم بلورة موقف عربي موحد ضاغط على تلك القوى.
رابعًا: عدم اكتراث دولة الاحتلال بالقمة، وصمت حلفائها إزاء ذلك، فبينما كان القادة العرب يلقون كلماتهم التي تطالب بوقف إطلاق النار، كانت طائرات الاحتلال تقصف غزة، وفي الوقت الذي يناشد فيه الزعماء بإدخال المساعدات الإنسانية دون قيود وتوفير المظلة الآمنة لذلك، كانت صواريخ الاحتلال على بعد أمتار قليلة من معبر رفح الحدودي.
لا بيان ختامي
وبلغت قمة الفشل في عدم القدرة على إصدار بيان ختامي للقمة، يحمل أبرز البنود والمحاور التي تم التناقش بشأنها، في ظل إصرار ممنهج من الدول الغربية على تبني السردية الإسرائيلية إزاء الوضع الحاليّ، تلك السردية التي تشيطن المقاومة الفلسطينية وتقدم دولة الاحتلال في صورة الضحية.
وفي ظل تلك الهوة الكبيرة بين الفريقين، الغربي والعربي، تحولت القمة إلى ما يشبه “المكلمة”، كل طرف يستعرض مواقفه وتوجهاته الخاصة بلغة كانت أوضح من أن تحتاج إلى توضيح، وهو ما يعني أن التوصل إلى أرضية مشتركة يمكن الوقوف عليها درب من المستحيل.
وفي السياق حاول ممثلو المجموعة الغربية فرض رأيهم على جميع الحضور (ممثلي 35 دولة وهيئة) وذلك بمطالبة الدول العربية بأن يتضمن البيان الختامي للقمة إدانة واضحة ومباشرة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وتحميلها مسؤولية التصعيد، وإطلاق سراح الأسرى والرهائن، واعتبار ما تقوم به دولة الاحتلال حق مشروع للدفاع عن النفس، وهو ما لم توافق عليه الدول العربية المشاركة، ومن ثم لم يصدر البيان.
بعض المصادر الدبلوماسية العربية أوضحت أن عدم صدور بيان ختامي عن القمة كان معروفًا بشكل مسبق قبل انعقادها، بسبب الخلافات الكبيرة بين الأطراف العربية والغربية المشاركة، ونتيجة لاختلافهم بشأن المفاهيم والموقف السياسي من أطراف النزاع، مثل حركة حماس، حسبما ذكرت تلك المصادر لـCNN.
وعليه تم الاكتفاء ببيان صادر عن الرئاسة المصرية دعت فيه قادة الدول للتشاور والنظر في سبل الدفع بجهود احتواء الأزمة المتفاقمة في قطاع غزة، ووقف الحرب الدائرة التي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين الأبرياء، ما يمهد الطريق نحو بلورة موقف دولي يساهم في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
الرئاسة المصرية في بيانها أكدت أنها “لن تقبل أبدًا بدعاوى تصفية القضية الفلسطينية على حساب أي دولة بالمنطقة، ولن تتهاون للحظة في الحفاظ على سيادتها وأمنها القومي في ظل ظروف وأوضاع متزايدة المخاطر والتهديدات”.
ماذا بعد القمة؟
يلقي العرب في هذه القمة وما سبقها من لقاءات ومباحثات مع قادة أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، بآخر أوراقهم الدبلوماسية لحل تلك الأزمة دون أي استجابة ممكنة من دولة الاحتلال، التي تصر على تنفيذ مخطط الإبادة بحق سكان غزة بشكل كامل بعدما مرغت المقاومة أنوفها في التراب ولقنتها درسًا قاسيًا لم تتعرض له منذ عام 1973.
وعلى الجانب الآخر لا يُنتظر أن يمارس حلفاء الاحتلال الذين دعموه بالسلاح والعتاد والتخندق السياسي والإعلامي أي ضغوط على حليفهم الذي يدافع عن كبريائهم ومصالحهم في المنطقة، وعلى العكس من ذلك فهم أبرز المحفزين له لمواصلة الانتهاكات بزعم “الحق في الدفاع عن النفس”.
وأمام تلك المعضلة يتعقد الوضع بشكل كبير عربيًا، فأي حلول أخرى يمكن اللجوء إليها بعدما أُوصدت أبواب السياسة والدبلوماسية لوقف تلك الحرب التي يسقط فيها آلاف الضحايا من المدنيين، 70% منهم من الأطفال والنساء وكبار السن؟
يتوهم من يظن أن العرب والمسلمين ليس لديهم أوراق ضغط يمكن استخدامها لنصرة القضية الفلسطينية وإجبار المحتل على وقف انتهاكاته، بل وإجبار حلفائه كذلك، فلديهم الكثير من الأوراق الرابحة، كالنفط والغاز والزخم البشري والعسكري، التي يمكن – لو توفرت لديهم الإرادة الفعلية لذلك – أن يقلبوا بها الطاولة ويغيروا قواعد اللعبة.
غير أن الحسابات السياسية لدى بعض الأنظمة العربية تقف حجر عثرة أمام تلك الإرادة، فعدد منها لا يريد التورط في استعداء حلفائه الغرب من الفريق الأنجلوساكسوني، وعليه يرى أن البقاء في مقاعد المتفرجين والاكتفاء ببيانات الإدانة والشجب والتحذيرات العنترية هو الأفضل في المرحلة الحاليّة، حتى لو كان الثمن إبادة عشرات الآلاف من الفلسطينيين.
وبعد 16 يومًا من بدء المجزرة الإسرائيلية بحق سكان القطاع، لا ينتظر أن يحرك العرب ساكنًا، ما عدا مكلمة التصريحات والشعارات، وربما الهتافات التي تضج بها التظاهرات التي للأسف تم تسييس بعضها لصالح حسابات خاصة، لينتظر الجميع حتى تنتهى دولة الاحتلال من تنفيذ مخططها في مواجهة المقاومة وجهًا لوجه، رغم الفوارق الكبيرة في الإمكانيات والقدرات والجهات الداعمة هنا وهناك، ثم بعد ذلك تبدأ عملية التفاوض على الأشلاء والأطلال، حينها سيخرج الحكام من جحورهم للحصول على جزء من اللقطة كالعادة.
عام تلو الآخر يتيقن الفلسطينيون أنهم وحدهم أبناء قضيتهم، رغم أنها قضية العرب الأولى، هكذا يفترض، ومع كل حدث أو أزمة يستقر في أعماقهم أن التعويل على العرب سراب لا ماء فيه، والارتكان إلى مرتكزات قومية عروبية أو إسلامية ليس إلا شعارات يرددها حكام المنطقة وتعزفها أنظمتهم لتجميل الصورة لا أكثر.