تمر اليوم (17 من أبريل)، ذكرى وفاة عالمنا الجغرافي الكبير الدكتور جمال حمدان، صاحب موسوعة “شخصية مصر”، والذي توفي محترقًا في شقته في مثل هذا اليوم عام 1993م، دون أن تعرف الأسباب الحقيقية لوفاته حتى اليوم.
ترك جمال حمدان 29 كتابًا و79 بحثًا ومقالة، تمحورت جميعها حول هموم وقضايا أمته المصرية وعروبتها وإسلامها، من منظور عالم جغرافيا، كانت الجغرافيا لدية رؤية كلية لتاريخ ولواقع الأمة من خلال تحليله لموقعها وموضعها، ونحاول في هذا المقال، أن نتناول رؤيته للاستعمار الصهيوني، ولعروبة مصر وموقعها القيادي ومحاولات تغيير عاصمتها.
عن خطر الصهيونية
الفهم، دائمًا، ينبغي أن يسبق الحكم، فعندما نفهم الصراع، وعن ماذا يدور، يمكننا أن نتعامل معه ونواجهه، ولقد علمنا جمال حمدان، كيف نفكر في الصراع العربي – الإسرائيلي على فلسطين؟ وما طبيعة وجوهر هذا الصراع؟ وعن ماذا يدور؟
ففي تحليله للاستعمار، أكد حمدان أن السياسة الأوروبية الغازية تجاه العرب، انطلقت من تحقيق مصالحها الاقتصادية الاستراتيجية على حساب العرب وثرواتهم وموقعهم الجغرافي، ولم يكن التحالف مع الصهيونية الطامعة في أرض فلسطين إلا لتحقيق هدفين: الأول التخلص من عبئها في أوروبا، والثاني جعلها رأس حربة للدفاع عن مصالح الغرب، وتفتيت وحدة العرب التي لا تكتمل إلا بفلسطين عربية.
الدكتور حمدان – رحمه الله – من أوائل من حذروا من الخطر الصهيوني، انطلاقًا من رؤية علمية
وقد كان الدكتور حمدان – رحمه الله – من أوائل من حذروا من الخطر الصهيوني، انطلاقًا من رؤية علمية، تتسلح بإيمان بعروبته ومصريته وأمنهما القومي، وبحس جغرافي يفهم تضاريس المنطقة، وما تعنيه فلسطين في الجغرافيا والتاريخ.
حيث تناول الظاهرة الاستعمارية الصهيونية في كتابه اليهود إنثروبولوجيًا، الذي يقول عنه الدكتور عبد الوهاب المسيري: “ليس دراسة أكاديمية وإنما دراسة عميقة كتبها مثقف مصري صاحب موقف، لا يكتب البتة إلا انطلاقًا من لحظة معاناة وكشف ذا طابع تاريخي”.
فقد أكد في هذا الكتاب، أن الصهيونية مجتمع دخيل تمامًا على فلسطين وعلى أرض العرب، وأن وجود دولتها إسرائيل رهن بالقوة العسكرية وبكونها ترسانة وقاعدة وثكنة مسلحة، قامت ولن تبقى، إلا بالدم والحديد والنار، فهي دولة عسكرية في صميم تنظيمها وحياتها، وجيشها هو سكانها وسكانها هم جيشها، وأن وظيفتها، أن تكون قاعدة متكاملة آمنة عسكريًا، ورأس جسر ثابت استراتيجيًا، ووكيل عام اقتصاديًا، أو عميل خاص احتكاريًا، وهي في كل أولئك تمثل فاصلًا أرضيًا يمزق اتصال المنطقة العربية، ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها، وإسفنجة غير قابلة للتشبع تمتص كل طاقاتها ونزيفًا مزمنًا في مواردها.
عن العاصمة الجديدة لمصر
عندما طرحت قضية إنشاء عاصمة جديدة لمصر في سبعينيات القرن الماضي، وجد جمال حمدان، مصر ذاهبة في الطريق الخاطئ وأن موارد البلاد ستذهب للهاوية، فهب حاملًا قلمه محذرًا – كما لو كان يتحدث اليوم -، مفندًا الاقتراح من الناحية العملية، ومؤكدًا أنه سوف ينتهي كما بدأ، مجرد مشروع آخر يضاف إلى قائمة المدن الحفرية، وأشباح المدن والعواصم الميتة التي يحفل بها التاريخ والتخطيط، ذلك لأنه في التخطيط كما في الحياة، لا يصح إلا الصحيح.
عاصمة مصر، هاجرت خلال 5000 سنة بين نحو 10 مواقع على الأقل من أقصى جنوب الوادي إلى أقصى شماله، وما كانت تلبث أن تعود إلى منطقة رأس الدلتا حتى استقرت في القاهرة، فالقاهرة أقدم عواصم مصر باستثناءات معدودة، وهي البيت الأمثل للعاصمة
ومن خلال الرؤية الكلية للأمور، استعرض عالمنا الراحل المشاكل التي تعاني منها القاهرة، والتي تجعل البعض يفكر في بناء عاصمة جديدة للبلاد، مؤكدًا أنه “ما من شك أن مشكلة القاهرة الكبرى المأزومة وأزمتها الطاحنة، أصبحت حلقة مفرغة، لا علاج لها إلا بالكسر في نقطة حرجة، أو بالبتر بعملية جراحية تخطيطية حازمة كما هي جريئة، غير أن الاقتراح المطروح لا يكسر – من أسف – إلا نفسه ولا يبتر إلا يده، وهو يرجع أسباب ذلك إلى:
– التفكير في ترك عاصمة قائمة، مسألة ليست بالهينة وتحتاج إلى مراجعة ومعمقة جدًا لحساب الأرباح والخسائر من كل النواحي.
– موقع القاهرة، هو المحصلة النهائية لآلاف السنين من التجربة والخطأ، والنجاح والفشل، كنتيجة لعملية انتخاب جغرافي وجيبولوتيكي قاسية ومفعمة طولها 5000 سنة وعرضها 1000كم هي امتداد الوادي.
– عاصمة مصر، هاجرت خلال 5000 سنة بين نحو 10 مواقع على الأقل من أقصى جنوب الوادي إلى أقصى شماله، وما كانت تلبث أن تعود إلى منطقة رأس الدلتا حتى استقرت في القاهرة، فالقاهرة أقدم عواصم مصر باستثناءات معدودة، وهي البيت الأمثل للعاصمة.
– المواقع الصحراوية البكر التي يحاولون اختيارها لتكون عاصمة جديدة لمصر، تعني أن المشروع يبدأ من الصفر المطلق، وفي الفراغ المحض، هو الأمر الذي يتطلب إنفاقات أولية فادحة بل فاحشة تنوء بها أغنى الدول، وقد تكفي في حالة مصر لإعادة خلق الريف والقرية المصرية جميعًا خلقًا جديدًا على أرفع مستويات العصر، فالمشروع من الناحية التمويلية البحتة فضلًا عن الناحية الطبيعية، غير اقتصادي من البداية، وقد يتحول في النهاية إلى قطعة من المضاربة العقارية الفاشلة الخاسرة.
– أن الدعوة لعاصمة جديدة ليست جديدة تمامًا، فالعواصم لا تولد بين يوم وليلة ولا تنشأ بأمر عالٍ أو فرمان همايوني، إنما تنبثق استجابة لضرورات طبيعية وتخضع في دورة حياتها لقوانين وضوابط طبيعية وإلا فشلت وأفلست.
– في جغرافيا المدن، إذا أردنا فصل الخطاب، فالعواصم السياسية نوعان أو نمطان: العواصم الطبيعية والعواصم الاصطناعية، الأولى، نبت ونمو تاريخي طبيعي، وتعد مركز النواة البشرية العمرانية الحقيقية في الدولة، أما الاصطناعية، فهي عواصم بالأمر، بلا جذور تاريخية أو سيادة اقتصادية، فهي مدينة سياسية صرف، ومن ثم مختلة التوازن اقتصاديًا، وبوضوح كامل، فليس في مصر مكان تحكم وتدار منه أصلح من موقع القاهرة.
قدر مصر: عروبتها.. وفلسطين: أمانتها
في موسوعته شخصية مصر، شدد الدكتور حمدان – رحمه الله – على أن مصير العرب، مصري حضاريًا، كما أن مصير مصر، عربي سياسيًا، مذكرًا كل مصري وعربي، أن العرب بغير مصر كالجسم بلا رئة، وأن مصر لا مستقبل عالمي لها خارج العرب، أن مصير مصر ومكانتها في العالم سيحددها مصيرها ومكانتها في العالم العربي، ومصيرها ومكانتها في العالم العربي سيحدده مصير فلسطين.
زعامة قدرية بشرط المسؤولية
ويؤكد لنا الدكتور حمدان في موسوعته، أيضًا، أن مصر واسطة كتاب الجغرافيا التي تحولت إلى فاتحة كتاب التاريخ، وأن السبق الحضاري ملمح أساسي بلا نقاش في شخصيتها، التي هي جزء من شخصية الوطن العربي، فمصر دار العرب وزعيمتهم، لأن الجغرافيا حسمت قضية الزعامة مرة واحدة وإلى الأبد، فالزعامة التي آلت إلى مصر العربية هي زعامة طبيعية.
الاختبار النهائي لزعامة مصر، في أن ترقى إلى مسؤوليتها عن استرداد فلسطين للعرب
لكن الاختبار النهائي لزعامة مصر، في أن ترقى إلى مسؤوليتها عن استرداد فلسطين للعرب، وإذا صح أن نقول لا وحدة للعرب بغير زعامة مصر، فربما صح أن نقول إنه لا زعامة لمصر بين العرب بغير استرداد فلسطين للعرب، لأنه لا وحدة للعرب أصلًا بدون استرداد فلسطين.
الخاتمة
هذا زمن عصيب على العرب والمصريين في قلبهم، تتزامن فيه المصالح الأجنبية المتزايدة مع انهيار الإرادة المستقلة، ومن ثم فإن الفرض الواجب على كل العاملين، للتغيير المنتج للخروج من أزماتنا المتلاحقة، العودة لقراءة كبار مفكرينا أصحاب الرؤى النافذة، وفي مقدمتهم جمال حمدان، صاحب الرؤية الاستراتيجية المتكاملة.
ومن يعاني مما تواجهه الأمة اليوم – في هذه اللحظة الفارقة من عمرها – من محن، ومحاولات لتمييع شخصيتها، وتوهين عقيدتها، وتمكين أعدائها في أرضها ومقدراتها، ووأد قضية فلسطين إلى أمد غير معلوم، يشعر بمسيس الحاجة إلى فكر جمال حمدان ورؤيته الكلية.
إن انطلاقنا من نموذج حمدان، بعد تحديثه بمعطيات واقعنا، يعطى مقاربتنا لعلاقة مصر بعالمها العربي، مضمونًا جديدًا، يمكّننا من إكمال ما بدأه من نقد للعقل الارتجالي الذي تميزت به العقود الأربعة الماضية في تاريخنا، ولتبدأ أمتنا العربية بقيادة مصر صفحة جديدة من تاريخها.
تركة جمال حمدان الفكرية، التي دفع ثمنها غاليًا ليوصلها إلينا، تدعونا اليوم، لنواجه مصيرنا ومشاكلنا وتنهانا عن الهروب من الحاضر
ويبقى التحدي، اليوم، هو: كيف نحول خطاب حمدان إلى رؤى وتصورات وبرامج، تعيد بناء شخصية أجيالنا الجديدة من الشباب والأطفال، على فهم دور مصر وقدرها وعروبتها، من خلال خطاب شعبي عقلاني بسيط، يخترق الفهم السائد والمشوه عن فلسطين والعروبة، الذي يروجه إعلام الاستسلام ودعاته من الحكام والمثقفين المطبعين المهرولين، ونشره وخروجه من الدوائر الأكاديمية الضيقة إلى الشارع السياسي الواسع، للأغلبية الساحقة من أبناء العرب.
إن تركة جمال حمدان الفكرية، التي دفع ثمنها غاليًا ليوصلها إلينا، تدعونا اليوم، لنواجه مصيرنا ومشاكلنا وتنهانا عن الهروب من الحاضر، وأن نواجه ما يحاك لأمتنا من مؤامرات وما ينسج حولها من مكائد بعقلية علمية مؤمنة بعروبتها وقدرتها على النجاح في تلك المواجهة.
رحم الله الدكتور جمال حمدان، وهدى رجال الأمة للاستفادة من فكره، وتعليمه لأجيالنا الجديدة حتى لا نضيع في تيه جديد يدبر لأمتنا بعون كثير من حكامها ومن يوالونهم.