جاءت نتيجة الاستفتاء الشعبي أمس على عدد من التعديلات الدستورية التركية لتلقي بظلالها على المشهدين الداخلي والخارجي، لا سيما لما تتضمنه من دلالات سياسية ومجتمعية غاية في الأهمية خاصة في هذا التوقيت الحرج والحساس الذي تمر به تركيا محليًا وإقليميًا ودوليًا.
نتائج الاستفتاء – وإن لم تعلن بصورة رسمية – جاءت لصالح الموافقة على تلك التعديلات التي ستعيد رسم بعض ملامح خارطة الحياة السياسية في تركيا، حيث بلغ عدد المصوتين بـ”نعم” في الاستفتاء 24 مليونًا و763 ألف و516 بنسبة تقترب من 51.4% بينما بلغ عدد المصوتين بـ”لا” 23 مليونًا و511 ألفًا و155 شخصًا، بنسبة تقترب من 48.6% في نتائج شبه رسمية، حسبما أشار رئيس اللجنة العليا للانتخابات في تركيا.
المشاركة الشعبية غير المسبوقة في هذا الاستفتاء كانت أحد أبرز الملاحظات الأولية لهذا الاستحقاق الدستوري، والتي عكست وبشكل قوي تمسك الشعب التركي بالمشاركة في العملية الديمقراطية كخيار لإدارة البلاد، حيث بلغت نسبة المشاركة 85.46% بواقع 49 مليونًا و621 ألفًا و753 ناخبًا من إجمالي 58 مليونًا و366 ألفًا و647 مواطنًا لهم حق التصويت، كما بلغت نسبة مشاركة الأتراك في الخارج 46.9%.
نتيجة الاستفتاء وما رافقها من زخم إعلامي وسياسي وشعبي لا شك أن تأثيرها سيمتد خارج حدود تركيا، خاصة في ظل ترقب العديد من القوى الدولية والإقليمية لفعاليات هذا الحدث، وما سيترتب على طبيعة الحياة داخل الدولة التركية عقب إقرار التعديلات الدستورية المقترحة، وهو ما يدفع للتساؤل عن انعكاس هذا الاستفتاء ونتائجه على العلاقات التركية الأوروبية خاصة في ظل ما تشهده الأجواء بينهما من توتر في الفترة الأخيرة.
بلغت نسبة المشاركة 85.46% بواقع 49 مليونًا و621 ألفًا و753 ناخبًا من إجمالي 58 مليونًا و366 ألفًا و647 مواطنًا لهم حق التصويت
تحديات داخلية وخارجية
إقدام الرئيس التركي وحزبه الحاكم على إجراء تعديلات دستورية يأتي في وقت تشهد فيه تركيا أزمات داخلية وخارجية، أثرت بشكل كبير على الشارع السياسي والأمني، وهو ما دفع البعض إلى الرهان على فشل أردوغان ونظامه في تمرير تلك التعديلات.
داخليًا.. تعرض الرئيس التركي إلى محاولة انقلاب فاشلة في يوليو الماضي سعت من خلالها بعض العناصر داخل مؤسسات الجيش والقضاء إلى إسقاط النظام الحاكم بالقوة العسكرية، وهو ما نجح أردوغان بدعم أنصاره من المواطنين والقوى الموالية في إفساده، واعتقال المتورطين والمشاركين فيه.
ولم يكن الانقلاب الفاشل هو الأزمة الوحيدة التي تعرض لها النظام التركي، فهناك الهجمات الإرهابية التي تتعرض لها تركيا عن طريق حزب العمال الكردستاني والاتهامات الموجهة لجماعة فتح الله غولن وغيرها من قوى المعارضة في الداخل والخارج، وهو ما أرهق السلطات التركية بصورة كبيرة.
خارجيًا.. تفرض الأزمة السورية الحدودية أعباءً إضافية، سياسية وأمنية، على تركيا بصورة ليست بالهينة، وما تمثله من تهديدات متلاحقة، وهو ما دفع الجيش التركي للتدخل العسكري ما بين الحين والآخر في بعض مناطق الصراع في سوريا، فضلاً عن توتر الأجواء مع دول أوروبا بسبب أزمات اللاجئين ومنع بعض المسؤولين الأتراك من إقامة عدد من الفعاليات الداعمة للتعديلات الدستورية، كما سيرد ذكره لاحقًا.
احتفالات بتمرير التعديلات الدستورية في شوارع تركيا
لماذا تركيا؟
سؤال تبادر إلى ذهن الأتراك الداعمين للنظام الحاكم، لماذا كل هذا الهجوم على تركيا؟ هجوم داخلي وتصعيد حدودي وتوتر إقليمي ودولي، إلا أن الإجابة على هذا السؤال وبحسب خبراء تعزز من إحساس الرئيس التركي بوجود مؤامرة كبرى على بلاده.
نجاح تركيا في فرض نفسها على الساحة الإقليمية والدولية بما تمتلكه من مقومات اقتصادية وعسكرية وشعبية قد لا تتوفر للعديد من دول المنطقة، فهي تعد القوة الاقتصادية السابعة عشر في العالم، والخامسة عشر عسكريًا، أثار القلق لدى القوى العالمية الأخرى لما تمثله من تحد واضح لتوجهات تلك الكيانات في المنطقة.
الموقع الجيوبوليتيكي الخطير لتركيا إذ تتوسط آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، فضلاً عن رمزية موقعها التاريخي كونها مركز الخلافة العثمانية، إضافة إلى دورها الإقليمي الذي يزداد يومًا بعد يوم، لا شك أنه كان دافعًا إضافيًا لبعض القوى لوضع حد لهذا التمدد قبل أن تصبح الدولة التركية مركز الثقل الأول في العالم الإسلامي.
ومن ثم فإن رفض بعض العواصم الأوروبية إقامة بعض الفعاليات الداعمة لتلك التعديلات الدستورية يأتي في إطار تلك التخوفات بشأن مزيد من القوة والتمدد للنظام التركي الحالي، وهو ما يقود للحديث عن أجواء التوتر في العلاقات بين أنقرة ودول أوروبا.
موقع تركيا الجغرافي المتميز ودورها الإقليمي المتنامي أبرز دوافع التحرك الخارجي لوضع حد لتمدد نفوذها
توتر في الأجواء
البعض ذهب في وصفه لتوتر العلاقات التركية الأوروبية بأنه يستعيد مناخ التهديد الكبير الذي كانت تعيشه تركيا بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى، إذ تكالب عليها الجميع، في الداخل والخارج.
وعلى الرغم من زيادة مساحة الضباب في أجواء العلاقات بين أنقرة ودول أوروبا بسبب العديد من العوامل والتوجهات، بعضها يتعلق بالأزمة السورية، وآخر يتعلق بملف الهجرة واللاجئين، فضلاً عن الملف الأكثر حضورًا خلال العقد الأخير وهو ملف الحريات والحقوق وتوجهات الدولة الإسلامية، إلا أن التصعيد الأخير الذي زاد من توتر العلاقات بين الجانبين كان بسبب تلك التعديلات الدستورية الأخيرة.
البداية تعود إلى منع بعض العواصم الأوروبية كألمانيا وهولندا وسويسرا وزراء أتراك من إقامة لقاءات جماهيرية مع الجالية التركية الموجودة بتلك الدول للحديث عن التعديلات الدستورية ومحاولة إقناعهم بها، وهو ما أثار حفيظة أردوغان بصورة كبيرة.
وفي رد فعلها عن هذه الممارسات، اتهمت أنقرة هذه الدول بأنها تنتهج ما وصفته بـ”أساليب نازية”، وهو ما أثار غضب سلطات هولندا وألمانيا، مما دفعهم لوصف الرئيس التركي بـ”الديكتاتور”.
رئيس فرع اتحاد الديمقراطيين الأتراك الأوروبيين بفرنسا، قال: ” إجراء الاستفتاء في أجواء ديمقراطية بتركيا، يعد ردًا مهمًا على أوروبا
بعض الخبراء في مجلس أوروبا شنوا هجومًا على مشروع التعديلات الدستورية المقدم، محذرين من تحويله النظام البرلماني التركي إلى رئاسي “استبدادي”، وهو ما أيده خبراء في القانون الدستوري بقولهم أمام “اللجنة البندقية” في الاتحاد الأوروبي إنه “من خلال إلغاء نظام السلطات اللازمة” لمواجهة أي انتهاكات فإن التعديلات المقترحة “لا تحترم نموذج النظام الرئاسي الديمقراطي الذي يقوم على مبدأ فصل السلطات”.
الخبراء الأوروبيون أعربوا عن قلقهم إزاء ما يمكن أن يترتب على تلك التعديلات، حيث ينفرد الرئيس بصناعة القرار، في غياب أي رقابة تعيين أو إقالة وزراء وكبار المسئولين، ومن ثم تكون تلك القرارات وفقًا لمعايير شخصية، على حد وصفهم.
وأمام هذا الهجوم على التعديلات الدستورية المقترحة، أعلن أردوغان أن الرد على هذه الحملات سيكون عبر صناديق الاقتراع، حيث صرح خلال تجمع له بأنقرة أن الاستفتاء يشكل أفضل رد على ما أسماه “أوروبا الفاشية القاسية”، وهو ما أشار إليه أيضًا يالتشين شيمشك، رئيس فرع اتحاد الديمقراطيين الأتراك الأوروبيين بفرنسا، والذي قال: “إجراء الاستفتاء في أجواء ديمقراطية بتركيا، يعد “ردًا مهمًا” على أوروبا.. وبعد الإعلان شبه الرسمي عن نتائج الاستفتاء وقبول الشعب التركي بالتعديلات الدستورية المقدمة، ماذا كان رد أوروبا؟
أردوغان والمستشارة الألمانية آنجيلا ميركل
رد الفعل الأوروبي
“التعديلات الدستورية وخصوصًا كيفية تطبيقها، سيتم تقييمها في ضوء التزامات تركيا بوصفها دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي وعضو في مجلس أوروبا”، كانت هذه العبارة جزءًا من البيان الصادر عن الاتحاد الأوروبي تعليقًا على نتائج الاستفتاء الشعبي التركي.
هذه التصريحات تعكس حرص أوروبا على متابعة تطورات المشهد التركي رغم حدة التوتر بين الجانبين في الفترة الأخيرة، وهو ما دفع الاتحاد في بيانه إلى حض السلطات التركية على إرساء قيم المشاركة والتوافق السياسي بين مختلف القوى، المؤيدة والرافضة، وهو ما جاء على لسان رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر ووزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني والمفوض الأوروبي لشؤون التوسيع يوهانس هان في بيانهم المشترك: “انطلاقا من النتيجة المتقاربة للاستفتاء والتداعيات البعيدة المدى للتعديلات الدستورية، ندعو السلطات التركية إلى السعي لأوسع توافق وطني ممكن في تطبيق هذه التعديلات”.
الاتحاد الأوروبي في بيانه تابع: “نشجع تركيا على أن تأخذ قلق مجلس أوروبا وتوصياته في الاعتبار، ويشمل ذلك ما يتعلق بحالة الطوارئ” والتي تم فرضها في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو العام الماضي، ملفتًا أنه “ينتظر تقييم” المراقبين الدوليين لمجريات الاستفتاء، و”ما يتصل أيضًا بمزاعم (المعارضة التركية) عن حصول تجاوزات”.
من جانبها دعت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل الرئيس التركي إلى السعي لإجراء “حوار قائم على الاحترام” مع كل الأحزاب السياسية بعد الفوز الذي حققه بفارق ضئيل في الاستفتاء على توسيع صلاحياته الرئاسية.
وقالت ميركل في بيان مقتضب مشترك مع وزير الخارجية سيجمار جابرييل إن “الحكومة (الألمانية) تنتظر من الحكومة التركية بعد حملة انتخابية شاقة، السعي الآن إلى حوار قائم على الاحترام مع كل القوى السياسية وفي المجتمع”.
الاتحاد الأوروبي يحض السلطات التركية على إحداث أوسع توافق وطني ممكن في تطبيق هذه التعديلات الدستورية
ماذا بعد؟
هدد الرئيس التركي قبيل الاستفتاء على التعديلات الدستورية بمراجعة علاقة دولته مع أوروبا بسبب موقفها المتعنت من إقامة فعاليات جماهيرية للجاليات التركية لدعم الموافقة على تلك التعديلات، ورغم تبرير دول أوروبا لهذا الموقف بأنه لدواعي أمنية خشية تعزيز روح الانقسام بين الأتراك المقيمين بالخارج فإن الصدام بين الجانبين تصاعد بصورة ملفتة للنظر.
تمثلت أول التهديدات التركية بالتلويح بإلغاء الاتفاق الذي أبرمته مع الاتحاد الأوروبي العام الماضي والذي خفض أعداد المهاجرين واللاجئين المتدفقين على أوروبا، وهو ما وصف حينها بـ”التاريخي” من قبل قادرة أوروبا لما تمثله مشكلة اللاجئين والهجرة من صداع مزمن في رأس حكومات القارة العجوز.
وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في تصريحات له قال “نستطيع أن نوقف الاتفاق بشكل أحادي، لم نبلغ بعد نظرائنا في الاتحاد الأوروبي، كل هذا بأيدينا”، مضيفًا “من الآن فصاعدًا نستطيع أن نقول: لن نطبق الاتفاق، وسينتهي”.
كان هذا التصعيد قبيل إجراء الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية، لكن ومع إعلان النتائج شبه الرسمية بشأن الموافقة على تلك التعديلات التي تزيد من صلاحيات أردوغان وترسخ نظامه بصورة كبيرة خلال السنوات القادمة، وتحصنه من أي محاولة للعبث بمنظومة الاستقرار الداخلي، لا شك أن الموقف سيتغير، ومن ثم فإن العلاقات بين أنقرة ودول أوروبا سينالها قسط من هذا التغيير.
أوروبا الآن باتت على قناعة بقوة النظام التركي حتى وإن جاءت النتائج بنسب متقاربة، وفي المقابل أيقن الرئيس التركي أن شعبيته في تراجع وإن فاز بنتائج الاستفتاء
البيان – سالف الذكر- الصادر عن الاتحاد الأوروبي يبعث ببعض الرسائل الضمنية، أهمها حرص أوروبا على عدم التصعيد مع الدولة التركية، ومحاولة فتح باب للتواصل فيما يتعلق بالرغبة في إضفاء المزيد من الاستقرار عبر التوافق الوطني التركي، فضلاً عن مغازلة أنقره بتذكيرها بمسألة عضوية الاتحاد الأوروبي كما جاء في نص البيان الذي وصف تركيا بأنها “دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي وعضو في مجلس أوروبا”.
نتائج الاستفتاء ترسخ أركان النظام التركي الحاكم بصورة كبيرة
أوروبا الآن باتت على قناعة بقوة النظام التركي حتى وإن جاءت النتائج بنسب متقاربة، إلا أنها – أي النتائج – ستعطي أردوغان ونظامه ثباتًا وقوة في الداخل، ومن ثم تنعكس على مواقفه وتوجهاته الخارجية، لا سيما الموقف من سوريا ومسألة اللاجئين والهجرة.
خروج بريطانيا من عباءة الاتحاد الأوروبي، وتصاعد الدور الروسي إقليميًا ودوليًا، وعودة أمريكا للمشهد الشرق أوسطي من جديد، لا شك أنها ستدفع دول أوروبا إلى إعادة النظر في علاقتها بالقوى الإقليمية في المنطقة، وفي مقدمتها تركيا التي أثبتت بهذا الاستفتاء قدرتها على مواجهة التحديات والصعاب، ومن ثم بات فتح قنوات اتصال وتجنب الصدام معها أمرًا حيويًا، إضافة إلى حجم التجارة البينية الكبير بين الجانبين، حتى وإن علت بعض الأصوات التي تطالب بغلق الباب مع أنقرة بعد إقرار تلك التعديلات.
وفي المقابل أيقن الرئيس التركي أن شعبيته في تراجع وإن فاز بنتائج الاستفتاء، فتقارب نسبة التصويت لا شك أنها ستكون جرس إنذار لأردوغان ونظامه، مما يدفعه لإعادة النظر في بعض السياسات المتبعة، في الداخل أو الخارج، أبرزها تجنبه فتح قنوات جديدة للعداء مع أي من القوى الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها أوروبا.
ومن ثم ستحرص السلطة التركية الحالية على إحداث حالة من التوافق السياسي الداخلي بين النظام والمعارضة، إضافة إلى تفعيل سبل التواصل والتعاون مع القوى الخارجية الأخرى من باب القوة والندية والوقوف على أرض صلبة أفرزتها نتائج الاستفتاء الأخيرة.
مما سبق وبصرف النظر عن التأويلات هنا وهناك فإن الاستفتاء التركي سيحدث تغيرًا ملحوظًا في الديناميكيات الداخلية للبلد كما أن آثاره ستمتد لتشمل المحيط الجغرافي الكبير الذي يصل تركيا بأواسط آسيا والشرق الأوسط والعالم الإسلامي وأوروبا، بما يعني أن العالم بعد الاستفتاء لن يعود كما كان قبله، وهو ما ستكشف عنه الأشهر القادمة.